استحضار شخصيّة نور الدين تحديداً (عاش في القرن الثاني عشر ميلادي) ليس اعتباطيّاً. هو “حاضر” و”أُعيد إحياء” سيرته مع بدء الثورة السوريّة في سنة 2011 وتشكيل “كتيبة نور الدين زنكي” في حلب، التي أصبحت مع الوقت “كتائب نور الدين زنكي”، ليمتدّ نفوذها في كل مدينة حلب وريفها الغربي حتّى سنة 2019 عندما تمّ حلّها واندمج معظم أفرادها في “جبهة تحرير الشام” بقيادة أبو محمّد الجولاني (أحمد الشرع حالياً). وثمة من يُردّد أن “كتائب نور الدين زنكي” كانت على صلة بالمخابرات الأمريكيّة التي مدّتها ببعض التمويل والسلاح، وكذلك بأجهزة مخابرات دول أخرى (تركيّا، السعوديّة، الإمارات إلخ..). لكن مقارنتنا هنا لا علاقة لها بهذه المجموعة، بل هي محاولة للمقارنة بين حالتي نور الدين زنكي وأحمد الشرع.
***
تُذكّرنا صُور الإحتفالات التي عمّت دمشق بعد سيطرة المعارضة عليها يوم الأحد 8 كانون الأوّل/ديسمبر وتحرير أهلها من نير الحكم البعثي بما نقله المؤرّخون عن استقبال أهل الشام لنور الدين عندما دخلها في 25 نيسان/أبريل 1154 وكان يوم أحد أيضاً. خطبة أحمد الشرع في اليوم التالي في المسجد الأموي يُمكن مقارنتها أيضاً بخطبة نور الدين عندما جمع فقهاء وتجّار البلد وطمأنهم “بصلاح أحوالهم وتحقيق آمالهم”، كما يقول ابن القلانسي في كتاب تاريخه، فأكثروا “الدعاء له والثناء عليه والشكر لله على ما أصاروه إليه”.
التشابه بين الحالتين ليس فقط بالسيطرة على دمشق، بل ينطبق أيضاً على أسلوب اللعب على الحبال ونسج التحالفات. فالمعروف عن أحمد الشرع علاقته المتينة بالمخابرات التركيّة وخطوطه المفتوحة مع أروقة القرار في واشنطن. ونور الدين أيضاً كانت له مصالح متداخلة مع بعض الفرنجة وكثيراً ما كان يتحالف معهم ويدفع لهم المال أو يأخذه منهم من أجل تحقيق أهدافه، خصوصاً التفرّغ لمقاتلة خصومه المسلمين.
مثلاً، في أواخر تمّوز/يوليو من سنة 1148، هاجم الفرنجة دمشق لكن هجومهم باء بالفشل. يُعّرف المؤرّخون هذا الهجوم بالحملة الصليبيّة الثانيّة، التي قادها ملك الألمان وساعده بعض الفرنجة المحليّين. استمرّ الهجوم أربعة أيّام ولم يُحقّق الفرنجة مبتغاهم، فرحلوا عنها مخذولين. وبعد أسابيع قليلة على هذه الحادثة، سارع نور الدين لنجدة صاحب طرابلس الكونت رايموند الثاني في صراعه مع غريم صليبي اسمه بيرتراند، كان قد جاء مع الحملة الثانية وقرّر البقاء والمطالبة بحقّه في إمارة طرابلس. فكانت معركة شارك فيها المسلمون والفرنجة جنباً إلى جنب ضد رهط آخر من الفرنجة، وانتصروا.
وفي الذاكرة الشعبيّة التاريخية، والتي اُسّست منذ زمن نور الدين (على يد مؤرّخين استمالهم بالمال)، يتمّ تجاهل علاقة السلطان بالفرنجة، أو تسليط الضوء على محاربته خصومه المسلمين (بمن فيهم أعضاء من عائلته)، وذلك لمصلحة التركيز على “إنجازاته” الجهاديّة والدينيّة والمعماريّة. هنا، من المبكر المقارنة مع أحمد الشرع كون الأخير في بداية رحلته بعد سيطرته على معظم سوريا، والمستقبل سيُعرّفنا ما إذا كان مثل نور الدين سيُركّز همّه على “أعداء الداخل” أو سيتصرف بعكسه، لجهة إعادة التموضع وتوجيه السلاح ضدّ “أعداء الأمّة”.
***
هناك أيضاً فروق كبيرة بين الإثنين. نور الدين كان من السلاجقة الذين قدموا إلى بلاد الشام لاحتلالها. وكان حكمه وبالاً على أكثريّة الشاميّين (يمكن أن نُقارنه بحكم العلوييّن في سوريا)، بينما أحمد الشرع هو من أهل سوريا، ويُمثّل أكثريّة شعبها الذي عانى من بطش الأقليّة العلوية الحاكمة (ولو أن في هذا التوصيف بعض التبسيط كون معظم هذه الأكثريّة في سوريا تعايشت مع نظام آل الأسد وساعدته في بطشه).
ويُمكن أن نُشير إلى فرق آخر وهو أنّ نور الدين كان عرّاب الصحوة الدينيّة السنيّة في بلاد الشام وشهد عهده إطلاق حالة “جهاديّة”، توسّعت بعد ذلك إلى مصر وأنتجت فكراً سنّياً متطرّفاً كان من أهمّ وجوهه ابن عساكر الدمشقي (ت. 1176) وعبد الغني المقدسي (ت. 1203) والعزّ بن عبد السلام (ت. 1262) وابن تيمية (ت. 1328) وابن قيّم الجوزيّة (ت. 1350). أما أحمد الشرع فهو نتاج للحالة المتديّنة التي اجتاحت العالم العربي والإسلامي وبينها سوريا في نهاية سبعينيات القرن المنصرم.. كلّ ما شهدنا له إلى اليوم هو “عبقرية” الشرع في اللعب على التناقضات داخل المشروع الجهادي السنّي، بين “داعش” و”القاعدة”، والتغييرات التي أجراها عندما قاد “جبهة النصرة” وصولاً إلى “هيئة تحرير الشام”. وها هو الآن في حلّة مختلفة تشي بأنّه يُحضّر لمشروع جديد لا نعرف بعد حدوده وامتداداته وشطحاته الدينيّة (هل سيكون على شاكلة الإسلام السياسي التركي، أم الطالباني الأفغاني، أم الليبي أم أم خليط من كل هذا؟).
في هذا الإطار تحديداً، يظلّ هناك تشابه بين الحالتين كون كلّ من نور الدين وأحمد الشرع استخدم أيديولوجيّة الجهاد وسيلة أساسيّة من أجل إحكام سيطرته على خصوم الداخل. وكلٌّ منهما أيضاً استطاع، بمساعدة كادر من علماء الدين والخطباء، إقناع قاعدته والجو السنّي المتديّن عامّةً بأحقّيّة مشروعه. وطبعاً، نجاح الإيديولوجيّة الدينيّة في كلا الحالتين يعود بالدرجة الأولى إلى المناخ السياسي العام الذي جعل الناس يتقبّلونها. لكن بعكس فترة نور الدين التي لم تساعده على الاعتماد على العنصر البشري المحلّي في حروبه وتوسيع نفوذه، لذلك قام باستقدام الأتراك والأكراد الذين كانوا غرباء عن بلاد الشام، بينما اعتمد أحمد الشرع بالدرجة الأولى على “المخزون” البشري السوري الكبير، كون أغلبيّة أهل سوريا هم من السُنّة وانتشار التطرّف الديني بينهم كان نتيجة عوامل عديدة، منها بطش نظام البعث وتحالفاته الإقليميّة.
وهناك فرقٌ كبيرٌ بينهما لا بُدّ من الإشارة إليه وهو أنّ الحُكم على نور الدين كان نتاج نظرة انتقائيّة للتاريخ، تمزج بين الانجازات التي حقّقها هو وتلك التي حصلت في زمن صلاح الدين (بغضّ النظر عمّا إذا كانت هذه الإنجازات فعليّة أم ضخّمها المؤرّخون)، “نستلهم” منها ما نشاء اليوم نتيجة تجاربنا المريرة. بينما في حالة أحمد الشرع، التاريخ لم يُكتب بعد، والأحداث ما زالت في جيب المستقبل، وسيُظهرها لنا في الأيّام والأسابيع والأشهر والسنوات المقبلة.
***
في الخلاصة؛ هل يُعيد التاريخ نفسه؟
ما نُشاهده اليوم ليس إعادة لما حصل في الماضي، لا مع نور الدين ولا مع غيره. ما يحصل الآن هو نُتاج مرحلة أليمة مرّت بها سوريا طوال ستة عقود من حكم حزب البعث. أما التشابه بين الأمس واليوم فهو تشابهٌ سطحيٌ، ولن يُساعدنا في فهم ما حصل أو ما سيحصل.. التشابه يُغرينا فقط بالخوض في مقارنة بحثية، وبالتالي يُمكن أن ننخدع فنعتقد أنّ الزمن يتكرّر وتأتي النتيجة لاحقاً معاكسة تماماً!