ماذا عن رؤية نوّاف سلام لدستور الطائف؟

"الأساس في الإصلاحات السياسية التي طال انتظارها هو العمل في آن واحد على تنفيذ أحكام الطائف التي لم تنفذ بعد، وعلى تصحيح ما نُفّذ منه خلافاً لنصّه أو روحه، وعلى سد ثغراته. وهذا لا يتحقّق من دون العمل على تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، ومن دون سلطة قضائية مستقلة ومؤسسات أمنية فاعلة".

خُلاصة مكثّفة قدّمها الدكتور نوّاف سلام، بعد ساعات من تكليفه بتأليف الحكومة نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة التي أجراها الرئيس اللبناني العماد جوزاف عون، وحاز بنتيجتها على اصوات 84 نائباً، ليُكرّر في معظم اللقاءات التي أجراها على مدى أسبوع من عمر التكليف أن وثيقة الوفاق الوطني والدستور هما أساس وأصل العلاقة بين السلطات الدستورية.

فما هي رؤية نوّاف سلام إلى مسار الحياة السياسية في لبنان انطلاقاً من دستور الطائف؟

من يبحث ويُدقّق في ما سبق ونشره أو قاله رئيس الحكومة المكلف، في العقود الأخيرة من عمر “الجمهورية الثانية”، يتبين له أن سلام يقرأ في كتاب اتفاق الطائف، الذي أُقر في العام 1989، بوصفه تعبيراً عن لحظة تحول سياسي في تاريخ لبنان المعاصر، لكن ليس بطريقة تقديس الأشياء على جاري عادة الغالبية العظمى من اللبنانيين إنما بطريقة نقدية بنّاءة. فقد أرسى اتفاق الطائف صيغة سياسية جديدة تهدف إلى تحقيق توازن أكبر في توزيع السلطة بين الطوائف الكبرى في البلاد. تلك الصيغة لم تقتصر على تحقيق العدالة بين الطوائف، بل تضمنت أيضًا مجموعة من الإصلاحات التي تهدف إلى تعزيز استقرار المؤسسات الدستورية. لكن، وعلى الرغم من الإصلاحات المهمة التي أتى بها الطائف، فإن الواقع العملي شهد تباينًا في تطبيق هذه الإصلاحات، مما يطرح العديد من الأسئلة حول كيفية إتمام هذا المشروع الوطني المهم.

وتتمثل أبرز سمات الإصلاحات التي جاء بها اتفاق الطائف في نقل صلاحيات السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء كهيئة جماعية بدلاً من تركها في يد رئيس الجمهورية، مع تعزيز دور رئيس مجلس الوزراء. وأصبح رئيس الجمهورية وفقًا للاتفاق “رئيسًا للدولة” يتمتع بصلاحيات شبه تحكيمية، ما يمكنه من إعادة النظر في القوانين المعتمدة في مجلس النواب، بالإضافة إلى دور حاسم في تشكيل الحكومة. إذ أن مرسوم تشكيل الحكومة أصبح يتطلب توقيع كل من رئيس مجلس الوزراء المكلف ورئيس الجمهورية، ما يعكس التوزيع الجديد للسلطات في الدولة.

أما في ما يتعلق بالسلطة التشريعية، فقد شهدت تغييرات مهمة كذلك، حيث تم تعديل تكوين مجلس النواب ليصبح التوزيع بين المسيحيين والمسلمين مناصفة، وهو تعديل كان من المفترض أن يسهم في تعزيز المساواة الطائفية. هذا التعديل، إلى جانب تحسينات في صلاحيات رئيس مجلس النواب الذي أصبح يتمتع بولاية مدتها أربع سنوات بدل سنة واحدة، يظهر محاولة لإرساء استقرار أكبر داخل المؤسسة التشريعية.

بالنسبة للرئيس نوّاف سلام، فإنه يعتبر أن تنفيذ ما تبقى من بنود الطائف هو السبيل الوحيد للعبور إلى الدولة المدنية التي تضمن حقوق جميع المواطنين. ويؤكد أن التحديات التي نشأت بسبب التشويه في تطبيق الإصلاحات يُمكن معالجتها عبر تحقيق إصلاحات إضافية، أبرزها تعزيز استقلالية القضاء وتنفيذ اللامركزية الإدارية الموسعة

لكن، وبرغم أهمية هذه الإصلاحات على الورق، فإن التطبيق الفعلي لها شهد العديد من التحديات. إحدى أبرز المخالفات التي طالت تنفيذ الطائف تمثلت في تعديل قانون الانتخابات الذي كان من المفترض أن يعكس التوازن الطائفي بين المسلمين والمسيحيين. ففي العام 1992، كان من المفترض أن يتم زيادة عدد مقاعد مجلس النواب من 99 إلى 108 طبقًا لاتفاق الطائف، لكن القانون الذي تم اعتماده رفع العدد إلى 128 مقعدًا، مما يعد مخالفة صريحة لنص الاتفاق. وكان واضحًا أن هذا التعديل لم يكن سوى استجابة لرغبة سورية آنذاك في إدخال أكبر عدد من حلفاء دمشق إلى البرلمان اللبناني.

من جهة أخرى، لم يتحقق الإصلاح المتعلق بمراجعة تقسيم الدوائر الانتخابية على مستوى المحافظات كما كان مقررًا في اتفاق الطائف. إذ اعتمد القانون الانتخابي الجديد نظامًا هجينًا لم يكن متسقًا مع الأهداف التي كان الاتفاق يسعى لتحقيقها، مثل تعزيز المصالحة الوطنية وتشجيع تحالفات عابرة للمناطق والطوائف والمذاهب.

أما فيما يخص مجلس الوزراء، فقد كانت آمال الطائف أن يصبح هذا المجلس هيئة جماعية حقيقية تُمثل مختلف الطوائف، وأن يتمكن من اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية مهمة. إلا أن الممارسة العملية أظهرت فشلًا كبيرًا في تحقيق هذا الهدف. فقد تبين أن العديد من القرارات الاساسية كانت تُتخذ خارج مجلس الوزراء ثم تُعرض عليه للمصادقة فقط، ما يُظهر أن المجلس لم يكن يتخذ القرارات بل كان بمثابة جهاز للموافقة على قرارات تم اتخاذها في أماكن أخرى. وهذا يوضح فشل الطائف في تحويل مجلس الوزراء إلى مؤسسة دستورية ذات فعالية.

وفي هذا السياق، تتضح إحدى أبرز المشاكل في تطبيق الطائف، وهي غياب التجانس بين النصوص الدستورية والممارسات السياسية. فبينما كان من المفترض أن تسهم الإصلاحات في تعزيز الدولة المدنية التي تضمن المساواة بين المواطنين بعيدًا عن الطائفية، كانت الممارسات السياسية تُكرّس المحاصصة الطائفية، خصوصًا في تعيين الموظفين في الدولة. على الرغم من أن المادة 95 من الدستور كانت قد نصت على إلغاء التوظيف على أساس الطائفة، باستثناء الفئة الأولى وما يُعادلها، إلا أن الممارسات الواقعية أظهرت استمرار هذه المحاصصة، مما أسهم في تعزيز الانقسامات الطائفية والمذهبية.

إقرأ على موقع 180  الإحباط من "التغييريين".. حقيقي أم مُصطنع؟

إضافة إلى ذلك، لم يتم تنفيذ العديد من الإصلاحات المهمة التي نصّ عليها اتفاق الطائف، مثل إنشاء “الهيئة الوطنية” (المادة 95 أيضًا) المفترض بها أن تعمل على إلغاء الطائفية السياسية تدريجيًا. كما أن بسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواها الذاتية لم يتحقق بعد، وهو من أبرز الأهداف التي كان الاتفاق يسعى لتحقيقها.

على الرغم من التحديات التي واجهها تطبيق اتفاق الطائف، يبقى السؤال الأبرز هو: ما العمل؟ بالنسبة للرئيس نوّاف سلام، فإنه يعتبر أن تنفيذ ما تبقى من بنود الطائف هو السبيل الوحيد للعبور إلى الدولة المدنية التي تضمن حقوق جميع المواطنين. ويؤكد أن التحديات التي نشأت بسبب التشويه في تطبيق الإصلاحات يُمكن معالجتها عبر تحقيق إصلاحات إضافية، أبرزها تعزيز استقلالية القضاء وتنفيذ اللامركزية الإدارية الموسعة.

ويمكن القول إن اتفاق الطائف يُمثل نقطة تحول هامة في تاريخ لبنان السياسي، لكنه سوء تطبيقه وضع اللبنانيين أمام نسخات “طوائفية” مشوهة ومختلفة. وبرغم الإصلاحات التي طرحتها الوثيقة، يبقى أن التزام جميع الأطراف بالمعايير الوطنية وتطبيق مبدأ العدالة والمساواة بين جميع الطوائف هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار الدائم في لبنان. وإذا كانت السلطة السياسية قد أخفقت في تطبيق بعض بنود الاتفاق، فإن المستقبل يضع الجميع أمام فرصة جديدة لإعادة النظر في هذه الإصلاحات، وتصحيح المسار لضمان بناء دولة مدنية حقيقية.

في الخلاصة، هذه المهمة تتطلب من جميع القوى السياسية أن تضع مصلحة لبنان فوق أي اعتبار آخر، وأن تعمل معًا من أجل استكمال تنفيذ اتفاق الطائف، حتى يكون لبنان المستقبل أكثر استقرارًا وعدالةً وتقدمًا.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لبنان: هل نحن أمام عقد ضائع من الإنهيار الطويل؟