

بحسب المبعوث الخاص السابق إلى الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات: “لا شيء سيقنع ترامب بعدم المضي قدماً في توسيع اتفاقات أبراهام. فتلك الصفقات التي تمت في عام 2020 (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) كانت بالنسبة له إنجازاً بارزاً في السياسة الخارجية، أشاد به معارضوه قبل مناصريه، بما في ذلك سلفه الرئيس جو بايدن. لذلك سيسعى إلى تعزيز هذا الإرث وترسيخه”.
في الواقع، لم يكتفِ بايدن بتبني “اتفاقات أبراهام” بكل إخلاص فحسب، بل وسعى للبناء عليها أيضاً. فقد أمضى وقتاً لا بأس به من عمر ولايته الرئاسية وهو يحاول إقناع السعودية بالتطبيع مع إسرائيل، مقابل صفقة “مغريات تاريخية”، تشمل “ترقية” كبيرة في الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بحيث تصبح هذه “الشراكة” على قدم المساواة مع الشراكة في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وإذا ما كُتب للتطبيع السعودي-الإسرائيلي أن يتم؛ في أي وقت؛ فسيكون أكبر اختراق في الدبلوماسية العربية-الإسرائيلية، منذ انشقّت مصر عن الإجماع العربي وأصبحت أول دولة عربية توقع معاهدة سلام مع إسرائيل (معاهدة كامب ديفيد عام 1979). كما سيمهّد الانضمام السعودي لـ”اتفاقات أبراهام” الطريق واسعاً أمام دول عربية وإسلامية أخرى لتحذو حذو المملكة.
ترامب.. مصلحة إسرائيل أولاً
إن هذا النهج في التعامل مع عملية صنع السلام بين العرب وإسرائيل يقوم على فرضية أن القضية الفلسطينية يمكن تجاهلها، أو لا بدَّ من تجاهلها. فحتى العام 2020، كان الإجماع العربي قائمٌ على أن التطبيع مع إسرائيل لن يكون إلّا بعد إنشاء دولة فلسطينية مستقلة. لذلك، عندما قرّرت البحرين والمغرب والإمارات شقّ الصفوف والتطبيع فإنها فعلياً حرمت الفلسطينيين من مصدر مهم للضغط على إسرائيل.
ولكن بعد ذلك بأقل من 3 سنوات، وفي تذكير جلّي وصريح بأن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها ولا حتى إخضاعها للتطبيع العربي الإسرائيلي، نفّذت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزَّة عملية “طوفان الأقصى” البطولية، في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وردّت عليها إسرائيل بحرب إبادة جماعية استمرت 15 شهراً دون أن تحقق أياً من أهدافها. وكانت السعودية حينذاك على قاب قوسين أو أدنى لتلحق بقطار التطبيع. لكن حرب غزّة أخرجت الصفقة عن مسارها.
ومع ذلك؛ ووفق مراقبين؛ فإن كل الدلائل اليوم تشير إلى أن ترامب مصمّمٌ على إنهاء المهمة التي بدأها في ولايته الأولى: ضم السعودية وباقي الدول العربية؛ التي لم تُطبع بعد؛ إلى “اتفاقات أبراهام”. وأنه مصمّمٌ كذلك على تنفيذ ذلك وفق رؤيته الشخصية التي تقول: “مصلحة إسرائيل أولاً.. ولو على حساب الفلسطينيين”. فالرئيس الأميركي؛ وكما كان في ولايته الأولى؛ مقتنعٌ بأن ما يهم القادة العرب أكثر هو اندماج إسرائيل في المنطقة وليس تحقيق العدالة للقضية الفلسطينية (…).
إذا كان ما تعد به “اتفاقات أبراهام” هو السلام والاستقرار، فإن واقع ما يُسمى بالشرق الأوسط الجديد لنتنياهو هو عبارة عن عدم استقرار وسفك دماء لا نهاية له. ما هو معروض اليوم ليس رؤية تنطوي على الاندماج السلمي لإسرائيل في المنطقة بل رؤية تستند إلى الهيمنة الإسرائيلية العنيفة على المنطقة
منتقدو “اتفاقات أبراهام” لم يزعموا يوماً أن حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من شأنه أن يُنهي جميع النزاعات الأخرى في الشرق الأوسط. ما يقولونه هو العكس: إن السلام والأمن الإقليميين غير ممكنين دون حلّ عادل للقضية الفلسطينية. وفي الواقع، إن الفرضية التي تقوم عليها مركزية “اتفاقات أبراهام”- القائلة بإن السلام والاستقرار الإقليميين يمكن تحقيقهما مع تهميش الفلسطينيين- نفتها عملية “طوفان الأقصى” وكل ما تلاها منذ ذلك الحين، بدءاً بالحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة، وجبهات الإسناد في المنطقة. كما أن اتفاق وقف إطلاق النار، الذي دخل حيز التنفيذ الأسبوع الماضي، أيضاً يؤكد على مركزية دور الفلسطينيين في مسائل الأمن والاستقرار الإقليميين، وفي الوقت نفسه يتيح مساحة دبلوماسية محتملة لتجديد التواصل السعودي-الإسرائيلي تحت قيادة ترامب.
سلامٌ على ورق
تمثل “اتفاقات أبراهام” نقطة تفاهم واضحة بين ترامب وبايدن. قد تختلف أسباب الرجلين وتكتيكاتهما، لكن كلاهما روّج لوهم خطير ــ مفاده أن تحقيق السلام والاستقرار والإزدهار في الشرق الأوسط والإقليم غير مشروط بوقف الحرب والفوضى والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
منذ لحظة التحضير لها وحتى قبل أول توقيع عليها في عام 2020، لاقت “اتفاقات أبراهام” الكثير من الإشادة باعتبارها “انتصاراً دبلوماسياً”. لكن الحقيقة أنها كانت مبنية على عدد من الافتراضات الخاطئة. وكل ما أُحيط بها من “إثارة” لم يكن لها علاقة بـ”قيمتها” الجوهرية بقدر ما كان لها علاقة بـ”حاجة” واشنطن والعواصم الغربية الإلتفاف حول كل ما يمكن أن لا يكون في مصلحة إسرائيل، مثل حل الدولتين والاستقرار الإقليمي. هذا الخلط بين ما هو “خير لإسرائيل” وبين ما هو “خير للسلام” هو في سمة قياسية للعملية الدبلوماسية التي تقودها واشنطن، وسبب رئيسي لفشلها على مدى العقود العديدة الماضية.
الحقيقة المطلقة هي أن “اتفاقات أبراهام” صُمّمت؛ في الأساس؛ لقمع القضية الفلسطينية – لا بل وتميتها – حتى لا يبقى أمام الفلسطينيين من خيار سوى القبول بأي ترتيب يُفرض عليهم من قبل أميركا وإسرائيل وحُكام المنطقة. ولكي تقضي على حل الدولتين ــ وما توقيع بعض الدول العربية عليها إلا أوضح دليل على أن هذه الدول قد وضعت حقوق الفلسطينيين وراء ظهرها، ومضت قدماً، ولم يعد يهمها إلا مصالحها وعلاقاتها الثنائية مع إسرائيل.
علاوة على ذلك، حرمت “اتفاقات أبراهام” الفلسطينيين “ورقة الضغط” على إسرائيل، التي كان يعوَّل على الدول العربية المجاورة (لا تزال جماهيرها متعاطفة بشكل كبير مع القضية) أن تلعبها كـ”مساندة” لهم في صراعهم التاريخي غير المتكافئ مع المحتل بالضغط على إسرائيل، التي لم يعد هناك ما يُلزمها بإنهاء احتلالها أو حتى الاعتراف للفلسطينيين بأية حقوق. بعد رفع القيود عن إسرائيل أصبح الفلسطينيون أكثر عرضة للبطش والعنف من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين المتطرفين (…)، خصوصاً منذ عام 2022 مع وصول حكومة اليمين المتطرف إلى السلطة بقيادة بنيامين نتنياهو.
وفي الوقت نفسه، لم تثبُت صحة إدعاءات الدول المطبعة بأنها فعلت ذلك لأنها أرادت أن “تُوظّف” علاقاتها الناشئة مع إسرائيل في سبيل النهوض بالقضية الفلسطينية والدفع بـ”حل الدولتين”. فلا البحرين ولا المغرب ولا الإمارات حاولت وقف حرب الإبادة والتطهير العرقي التي ارتكبتها إسرائيل في غزَّة طوال 15 شهراً. كما لم تفعل أي شيء لمنع هدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ولم تستخدم نفوذها “المفترض” من أجل وضع حد لمشاريع التوسع الاستيطاني غير المسبوق ولا لعنف المستوطنين المتفلت من كل القيود. أضف إلى ذلك، لم يُبدِ المسؤولون الإماراتيون أي ندم يُذكر بشأن تعاملهم مع المستوطنين الإسرائيليين والاستثمار في البنية التحتية للاحتلال. وفي حين حاول بايدن والديموقراطيون تجاهل التناقضات، فإن ترامب والجمهوريين قد تخلّوا بالفعل حتى عن التظاهر بدعم حل الدولتين (…).
أعمال غير مُنجزة
ولكن، حتى مع الانفتاح الطفيف الذي أتاحه قرار وقف إطلاق النار في غزَّة، فإن إشراك السعوديين في “اتفاقات أبراهام” سيظل معركة شاقّة بالنسبة لإدارة ترامب. وإذا بدت آفاق التوصل إلى صفقة بعيدة قبل “طوفان الأقصى”، فإن البيئة اليوم أصبحت أقل ترحيباً بفكرة “التطبيع”. فقد ألهبت المشاهد المروعة للموت والدمار والمجاعة التي خرجت من غزَّة الرأي العام في مختلف أنحاء العالمين العربي والإسلامي ومزَّقت مصداقية إسرائيل والولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم (…). وحتى الإمارات اضطرت في بعض المواقع التقليل من شأن علاقاتها بإسرائيل (…). بعبارة أخرى، ربما لم تمزق حرب غزَّة “اتفاقات أبراهام”، لكنها وضعتها فعلياً على الجليد.
سيكون من الصعب على بن سلمان “التطبيع” مع دولة اتهمها هو وحكومته بارتكاب حرب “إبادة جماعية” و جرائم “تطهير عرقي”
بالنسبة للسعوديين، ارتفع ثمن التطبيع مع إسرائيل بشكل كبير منذ “طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على غزَّة. وفي حين سعى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في السابق إلى الحصول على التزام خطابي فقط من إسرائيل تجاه الدولة الفلسطينية، تطالب الرياض الآن بخطوات ملموسة تضمن إقامة دولة فلسطينية حرّة وقابلة للحياة. وقد بدأت بالفعل التعاون مع باريس من أجل إطلاق مبادرة جديدة تهدف إلى إنقاذ ما تبقى من حل الدولتين؛ بعد أن يئست من الوساطة الأميركية.
على أي حال، سيكون من الصعب على بن سلمان “التطبيع” مع دولة اتهمها هو وحكومته بارتكاب حرب “إبادة جماعية” و جرائم “تطهير عرقي”. وتشكل لائحة الاتهام التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية حاجزاً آخر أمام الرياض. ولعلَّ أفضل تعبير عن موقف المملكة الحالي هو البيان الذي تبنته القمة العربية الإسلامية، التي عقدت في الرياض الشهر الماضي، والذي لم يتوقف كثيراً عند تهمة الإبادة الجماعية فحسب، بل ودعا أيضاً إلى طرد إسرائيل من الأمم المتحدة ــ وهذا هو بالضبط عكس التطبيع.
علاوة على ذلك، مع ارتفاع تكاليف المشاركة الإقليمية مع إسرائيل، انخفضت العائدات المتوقعة. فالشيء الوحيد الذي يُقدّره القادة السعوديون وغيرهم من قادة الخليج قبل كل شيء هو الاستقرار. لكن الأشهر الـ15 الماضية كانت بعيدة كل البعد عن الاستقرار: إبادة إسرائيل لسكان غزة، حرب واسعة على لبنان واحتلال بعض قراه، تبادل ضربات عسكرية مع إيران، وغزو واستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي السورية بعد سقوط نظام بشار الأسد. إذا كان ما تعد به “اتفاقات أبراهام” هو السلام والاستقرار، فإن واقع ما يُسمى بالشرق الأوسط الجديد لنتنياهو هو عبارة عن عدم استقرار وسفك دماء لا نهاية له. ما هو معروض اليوم ليس رؤية تنطوي على الاندماج السلمي لإسرائيل في المنطقة بل رؤية تستند إلى الهيمنة الإسرائيلية العنيفة على المنطقة.
لم تنجح “اتفاقات أبراهام” في تحقيق السلام والأمن في الشرق الأوسط، بل ساعدت على إنتاج العكس من خلال تشجيع كل ما هو في مصلحة إسرائيل ومباركة كل أفعالها الإجرامية، وترسيخ سياسة التطرف التي تمارسه، وضمان إفلاتها من أي عقاب.
ثمة اعتقاد مضلل وخطير أن التطبيع العربي-الإسرائيلي يُمكن أن يتم على حساب الفلسطينيين. لقد استغرق الأمر أكثر من ثلاث سنوات حتى تتصالح إدارة بايدن مع الواقع المرير الذي فرضته سياسة التعنت الإسرائيلية، والتي تمثلت بالكثير من أعمال العنف الدموي (الأقصى والأعنف في تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني).. ومن الأفضل لإدارة ترامب أن تتعلم الدرس باكراً.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) خالد الجندي، باحث زائر في مركز الدراسات العربية المعاصرة في جامعة جورج تاون، ومؤلف كتاب: “النقطة العمياء: أميركا والفلسطينيون، من بلفور إلى ترامب“.