ضريبة الإنتماء.. والجغرافيا

ماذا يعني أن تكون من إحدى القرى الحدودية في جنوب لبنان، ومن عائلة تنتمي إلى بيئة المقاومة وأن يكون كل أخوتك، ذكوراً وإناثاً يسكنون قريتك الرابضة على حدود فلسطين المحتلة أو في الضاحية الجنوبية لبيروت؟

معنى ذلك، وبعد فترة من بداية “حرب الإسناد” في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن يتعرض القاطنون من أفراد عائلتك في القرية لهجرات متتالية من بيوتهم باتجاه قرى جنوبية أخرى، أبعد عن الحافة الأمامية، ومنها كونين ومن ثم حاريص وكفردونين، وبعدها إلى صيدا وعين الدلب في شرق صيدا وبقعاتا الشوفية، وصولاً إلى الضاحية الجنوبية وقرى عكارية بشمال لبنان.

معنى ذلك، أن يتهجر جميع إخوتك وأحبتك، خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، عند اشتداد ضراوة الإعتداءات الاسرائيلية على الضاحية واستشهاد السيد حسن نصرالله، ليجدوا أنفسهم خلال ساعات قليلة في مهب النزوح بما في ذلك من الضاحية الجنوبية، وأن تقضي الليل بطوله تسأل هاتفياً “وين صرتو خالتو ووين صرتو عمتو”؟

معنى ذلك، أن يتحول بيت يعيش فيه شخصان، في عدد من الليالي، إلى بيت يتسع لستين شخصاً ترى في عيون أطفالهم القلق والخوف مما سمعوا أو يسمعون من أصوات تُحدثها آلات القتل الإسرائيلية، وترى في عيون الكبار منهم، والتي لا تفارق هواتفهم أو شاشة التلفزيون، ترقبٌ وتتبعٌ لما يجري لا سيما هناك في الأرض التي أُوكل للشباب شرف حمايتها والدفاع عنها.

معنى ذلك، أن تتلقى بشكل شبه يومي خبر استشهاد عزيز أو اكثر، وأن يكتسح اللون الأسود لباس النساء والرجال في بيئتك حداداً على أبناء وأخوة وأحباء.

معنى ذلك، أن تغيب أختك الكبرى عن السمع، لتفجع بعد انتظار ساعات بأنها استشهدت بعد غارة جوية على المبنى الذي استأجرت شقة فيه في عين الدلب بعد أربع محطات تهجير، وقد رافقها في الرحيل صهرها الخلوق والمبدع والمربي مع ابنه الكشفي الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره وابنته الزهرة البرية بعبقها ورقتها والتي لم تمضِ أيام على تذكيرنا بعيد ميلادها العاشر.. وأن تعرف بأن من بقي من أفراد تلك العائلة باتوا موزعين على مستشفيات عدة يعانون الآلام والحزن على فقدان الأم والزوج والأب والأخوة.

معنى ذلك، إصرار أبناء الأرض على العودة إليها من خلال تواعدهم اليومي عند ذلك الساتر الترابي، برغم كل تهديدات العدو الذي يرفض الانسحاب مُوقعاً المزيد من الشهداء والجرحى والدمار، ضارباً بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والاتفاقيات حتى وإن ضمنتها الدول الكبرى

معنى ذلك، ألا تستطيع دفن أختك حيث أوصت، ولا أن تدفن الشهداء في ثرى قريتهم، فهم توزعوا “وديعة”(*) في مدافن قرى جنوبية عدة أو في بلدة أيطو في شمال لبنان أو في الوردانية، القرية الشوفية الوداعة التي فتحت ذراعيها لاستقبال المهجرين في منازلها، وشهداؤهم في “تربتها”.

معنى ذلك، أن تهرع إلى قريتك في أولى ساعات وقف إطلاق النار، وقبل منعك لاحقاً بانتظار انتهاء مهلة الستين يوماً، لترى بعينك الدمار الذي حلّ بها وأخذ بدربه الحي الذي تحب والذي يضم بيوت أخوتك وأختك الكبرى و”دارة” الأهل وملتقى العائلة، مع كل ما يحمله من ذكريات بدءاً باحتفالات التحرير (2000) مروراً بالجمعة العائلية في آخر افطار من شهر رمصان سنوياً وصولاً إلى جمعات الأعياد والأفراح.

معنى ذلك، أن ترى العدو قد جرف الياسمينة التي تُزين مدخل الدار و”حاكورته” دون أن يترك فيها أثراً للعرايش ولشجر الأكيدنيا والرمان والحامض والأفوكا والخرما والكريفون واليوسف افندي والتوت والتين والغار والزيتون واللوز التي دأب على زرعها والعناية بها كل من الجد والوالد والإخوة.

معنى كل ذلك، خسارتك للمكان الذي كنت تقصده لترتاح فيه، والحقول التي كنت تحتفل بالمشي الصباحي فيها واستقبال الشمس التي تظهر من خلف تلالها.

معنى ذلك، أن تخسر حتى قبور الأم والأب والأخ التي خرّبها العدو في قصفه لجبانة القرية، كما فعل في أغلب القرى، وأخذ معه كل ما أسريت لهم به من أفراح وهموم عند زيارتك لقبورهم، وبالأخص تلك الزيارة التي قادتك من سن الفيل إلى القرية لتزف للوالد تحقيق رغبة طالما كرّرها على مسمعك بضرورة حصولك على شهادة الدكتوراه.

معنى ذلك، أن يمنعك العدو حتى بعد انتهاء مدة الستين يوماً من الوصول إلى قريتك، حائلاً بينك وبينها بساتر ترابي وانتشار لجنوده المُدججين بكامل أسلحتهم ويدهم على الزناد.

معنى ذلك، إصرار أبناء الأرض على العودة إليها من خلال تواعدهم اليومي عند ذلك الساتر الترابي، برغم كل تهديدات العدو الذي يرفض الانسحاب مُوقعاً المزيد من الشهداء والجرحى والدمار، ضارباً بعرض الحائط كل المواثيق الدولية والاتفاقيات حتى وإن ضمنتها الدول الكبرى.

معنى ذلك، أن هناك ضريبة باهظة يدفعها أهل تلك الأرض البعيدة حالياً، من حياتهم وأرزاقهم وذكرياتهم وأحلامهم، نتيجة انتماءهم من جهة ونتيجة واقعهم الجغرافي من ناحية أخرى.

إقرأ على موقع 180  أية مقاربة مطلوبة في مواجهة الأنظمة العربية الحليفة لأميركا؟

فهل سيظلون هم فقط من يدفع تلك الأثمان فيما ينقسم الباقون بين متضامن وناقد؟

(*) نظراً لعدم تمكن أهالي قرى الشريط الحدودي من دفن شهدائهم في قراهم، دُفِنوا مؤقتاً كودائع في قرى لبنانية أخرى على أن يُصار إلى دفنهم لاحقاً في مدنهم وقراهم.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ما بعد أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. إسرائيل إلى مزيد من العزلة الدولية