ليو الرابع عشر.. هل بات الفاتيكان في مهبّ الترامبيّة؟

تصاعد الدخان الأبيض من الكوريا يوم الخميس الماضي (8 أيّار/مايو)، معلناً انتخاب روبرت فرنسيس بريفوست (Robert Francis Prevost) أسقفاً جديداً لكنيسة روما. فهل كونه أوّل بابا أمريكي في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة هو صدفة، أم يعكس ألاعيب ترامبيّة من وراء الستار هدفها إعادة الفاتيكان ليكون أداة في ترسانة واشنطن في صراعاتها المقبلة؟

في سنة 2013، عندما انتخب الكاردينال خورخي مارْيو بِرغوليو (Jorge Mario Bergoglio)، اختار لنفسه اسم “البابا فرنسيس”. التسمية لم تكن اعتباطيّة. أراد بها البابا الجديد أن يعلن أمرين مهمّين: أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة يجب أن تتقلّد بتراث القدّيس فرنسيس وأنّ ذلك يتطلّب منها إصلاحات أساسيّة وعميقة بما في ذلك تنظيف البيت الكنسي من الداخل.

شهدت حقبة فرنسيس (الذي توفّي في 21 نيسان/أبريل الفائت) تغييرات كثيرة وتحوّلاً في سياسة الفاتيكان، تعارضت بشكل كبير مع استراتيجيّة سلفيه السابقين بِنِديكت السادس عشر (2005-2013) ويوحنا بولس الثاني (1978-2005) والتي شهدت سيطرة شبه مطلقة للتيّار المحافظ داخل الكنيسة الكاثوليكيّة الذي كان همّه إقحامها في السياسة الغربيّة كجزء أساسي من حملة الغرب لإخضاع العالم واحتواء تمدّد الشيوعيّة وحركات التحرّر في العالم.

لم يكن البابا فرنسيس ينتمي إلى صنف من رجال الدين يتواجدون في هذا الدين أو ذاك. كأسقف لاتيني متمرّس وابن بيئته، كان يعرف جيّداً أنّ حركات التحرّر حول العالم هي تعبير حقيقي عن تطلّعات الشعوب المغبونة والمستضعفة وأنّ على الكنيسة حماية الفقراء والمهمّشين والدفاع عنهم وعن مصالحهم (وهو اتّجاه يُعرف بلاهوت التحرّير أو Liberation Theology، انطلق في أمريكا اللاتينيّة في خمسينيات القرن المنصرم). ويُشهد لفرنسيس خلال رئاسته لأسقفيّة بيونيس آيريس أنّه طالب الكنيسة بأن تعترف بدورها القبيح و”ترتدي لباس التكفير عن الخطايا” لتغطيتها الجرائم التي ارتكبها النظام الديكتاتوري في الأرجنتين في سبعينيات القرن الماضي.

كان فرنسيس مثاليّاً في مقاربته لتعاليم المسيحيّة الحقة والتي، برأيه وبرأي أمثاله، يجب أن تعود إليها الكنيسة لتنقذ نفسها في مواجهة حقيقة اضمحلال دورها وعجزها عن التأقلم مع التغيُرات التي تحصل في العالم (بما في ذلك مطالبته بانفتاح الكنيسة على من يخالفها الرأي، خصوصاً في بيتها الداخلي وضمن رعيّتها؛ الدفاع عن حقوق البشر كأفراد ومجتمعات؛ حماية البيئة، إلخ..).

لا يخفى على أحدّ أنّ فرنسيس كان من أشدّ النقّاد لسياسات أمريكا الداخليّة والخارجيّة، وكان كالمخرز في في خاصرتها، خصوصاً في ما يتعلّق بالممارسات غير الإنسانيّة حيال المهاجرين، وبناء الجدار الحدودي مع المكسيك، والحرب في أوكرانيا، والدعم الأمريكي للمحرقة في غزّة والضفّة، إلخ. فهل وصل الغيظ الأمريكي إلى حدّ شطب الحقبة الفرنسيسيّة، بما تمثّله من اتّجاه داخل الكنيسة في كل أنحاء العالم؟

لا ندري بعد ما إذا كانت وفاة فرنسيس قد أنهت هذه الحقبة في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة وفتحت حقبة جديدة ستبرز ملامحها واتجاهاتها في الأشهر والسنوات المقبلة؛ لكن يُمكن أن نستشرف بعض الأمور من الإسم الذي اختاره الباب الجديد وهو “ليو الرابع عشر”، خصوصاً أنّ اسم معموديّته هو فرنسيس، وكان يمكن له بسهولة أن يختاره فيصبح “فرنسيس الثاني”. لكنّه لم يفعل. فهل أراد بذلك القطع مع سلفه، والإيحاء بأنّه سيُدير دفّة الكنيسة في اتّجاه مختلف؟

الرمزيّات نستشرف منها الكثير. ورمزيّة لقب “ليو” صداميّة ولا تُبشّر بالخير. البابا ليو التاسع الذي تولى البابوية لخمس سنوات (1049-1054) كان عرّاب الخلاف بين الكنيستين البيزنطيّة والرومانيّة، والذي نتج عنه إنفصال كامل للكنيسة الكاثوليكيّة عن الكنائس الأُرثوذكسيّة الشرقيّة. وكان ليو التاسع أيضاً من أهمّ المطالبين بإخضاع حكّام ونبلاء أوروبّا لإملاءات الكنيسة، وقاد بنفسه في سنة 1053 حملة عسكريّة ضدّ النورمانديّين في جنوب إيطاليا، لكنّها باءت بالفشل.

ولا يجب أن ننسى ليو الأوّل (440-461) الذي شرعن سياسة القتل والتنكيل بالأتباع المنشقّين عن الكنيسة (heretics) والتي كانت نتيجتها حروب ومجازر لا تحصى ولا تعد. وكان له دور كبير أيضاً في تطوير مفهوم العصمة الكاملة لأسقف روما (أي البابا لا يحاسب على أفعاله)، والذي كانت له وما تزال تبعات دينيّة وسياسيّة، خصوصاً في ما يخصّ التبعيّة المطلقة والخضوع غير المشروط لسلطة البابا في ما يقرّره من أمور دينيّة واجتماعيّة وسياسيّة ورفض العودة إلى الماضي والإعتذار عن الجرائم (وهو تقليد كسره فرنسيس).

ويمكن أن نشير أيضاً إلى حقبة البابا ليو العاشر (1513-1521)، وهي حقبة نتج عنها إدانة وتكفير للبروتستانتيّة (التي ظهرت مع مارتن لوثر)، وأيضاً تخللتها محاولة لإعادة إطلاق الحملات الصليبيّة ضدّ العثمانيّين.

هذه الأمور ليست بخفيّة عن البابا الجديد الآتي من ربوع الديار الترامبيّة، خصوصاً في ما يخصّ التغيّرات المقلقة التي شهدتها الكنيسة الكاثوليكيّة في الولايات المتّحدة في السنوات الأخيرة وتأييدها للسياسات التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات سنة 2016 وإعادته مجدّداً في الانتخابات الماضية. وليس خافياً أيضاً أن للكنيسة الكاثوليكيّة تمثيلها الكبير في واشنطن، ومن أبرؤز وجوهه نائب الرئيس جي. دي. فانس ووزير الخارجيّة ماركو روبيو (والذي هو أيضاً حاليّاً مستشار ترامب للأمن القومي بالوكالة). فهل نستشرف من كل ذلك أنّ البابا الجديد يريد إعادة تموضع الفاتيكان ودوره، بإبعاده تدريجيّاً عن سياسة سلفه فرنسيس، وإقحامه مجدّداً في الصراعات العالميّة؟

إقرأ على موقع 180  ذاكرة حرب أكتوبر.. الوثائق تُنصف الرجال

هنا علينا طرح سؤال مختلف: هل اختيار أسقف أمريكي للمرة الأولى هو صدفة أم يعكس تغيّرات بدأت تحصل في أروقة الفاتيكان مع بدء ضعف فرنسيس نتيجة مشاكله الصحيّة وتململ قاعدة موزونة لها نفوذ ضخم في العالم الغربي (وفي أمريكا تحديداً) من سياسته وأولويّاته ومواقفه وقناعاته؟

هل كانت زيارة جي. دي. فانس للفاتيكان في اليوم الذي سبق وفاة فرنسيس هي أيضاً صدفة، أم كانت تهدف لترتيب البيت الداخلي قبل الوفاة التي يبدو أنّها كانت متوقّعة؟ هل استشرف ترامب وفريقه دوراً للكنيسة الكاثوليكيّة في الداخل الأمريكي وعبر العالم يتطلّب إخضاع الفاتيكان لإملاءات واشنطن المباشرة؟

لا يخفى على أحدّ أنّ فرنسيس كان من أشدّ النقّاد لسياسات أمريكا الداخليّة والخارجيّة، وكان كالمخرز في في خاصرتها، خصوصاً في ما يتعلّق بالممارسات غير الإنسانيّة حيال المهاجرين، وبناء الجدار الحدودي مع المكسيك، والحرب في أوكرانيا، والدعم الأمريكي للمحرقة في غزّة والضفّة، إلخ. فهل وصل الغيظ الأمريكي إلى حدّ شطب الحقبة الفرنسيسيّة، بما تمثّله من اتّجاه داخل الكنيسة في كل أنحاء العالم؟

كما يقول المثل المصري: “يا خبر اليوم بفلوس، بكره ببلاش”، لننتظر ونراقب ما ستكشفه لنا الأيّام؛ وليرأف الله بكل المنتظرين والمراقبين.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180   7 أكتوبر.. "بارادوكس" الشرق الأوسط!