

لم تكد الصحيفة الأميركية تنشر تقريرها الذي تضمن معلومات حول نية إسرائيل مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية من دون تنسيق مع الولايات المتحدة، حتى سارع مكتب نتنياهو إلى وصف التقرير بأنه يتضمن “أخباراً كاذبة”. بدورها، “نيويورك تايمز” تمسكت بصحة معلوماتها التي “تستند إلى مناقشات مع أشخاص مطلعين مباشرة على المسألة، وما زلنا واثقين مما نشرناه”.
قبل ذلك بأيام قليلة، قال نتنياهو في خطاب موجه للداخل الإسرائيلي وللمجتمع الدولي (21 مايو/أيار 2025) إن الحرب ضد قطاع غزة مستمرة حتى تحقيق أهدافها والمتمثلة في سحق حركة حماس والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بالقوة ونزع كل عناصر التهديد المستقبلي لإسرائيل في قطاع غزة، الأمر الذي يحمل في طياته نية واضحة بتأبيد الاحتلال.
كان واضحاً من نبرة هذا الخطاب أن واشنطن ماضية في سياستها الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل في تلك الحرب، وأنه برغم ظهور بعض التباين في وجهات النظر في ملفات إقليمية معينة ومنها الملف النووي الإيراني، إلا أن العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل قوية وثابتة؛ فالتباين في المواقف الذي بدأ بين الطرفين بعد قمة بودابست، جعل دونالد ترامب يستدعي نتنياهو إلى البيت الأبيض مباشرة، حيث أبلغه بعدم توجيه أي ضربة عسكرية ضد إيران؛ هذه الحادثة شكّلت نقطة تحول في العلاقة بين الرجلين، وأراد نتنياهو استخدام ورقة العلاقات الشخصية لتغيير سياسة واشنطن تجاه إيران، وبخاصة الاتفاق النووي، لكن ترامب، وبرغم انتقاداته للاتفاق النووي المبرم عام 2015، إلا أنه ليس مستعداً للدخول في صدام مباشر مع طهران يُمكن أن يُعرّض منظومة مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية للخطر في المنطقة.
برغم تزايد المؤشرات على تصاعد الخط البياني للتوتر بين ترامب ونتنياهو، إلا أن الطابع المؤسساتي للعلاقة الأميركية-الإسرائيلية يبقى هو الحاكم الفعلي لاستمراريتها، ومن غير المرجح على الإطلاق أن يُرفع الغطاء الأميركي عن إسرائيل، وما نشهده هو مجرد تباين في التكتيكات لا في الاستراتيجيات، أو أنه أشبه بسحابة صيف عابرة بين ترامب ونتنياهو
في هذا السياق، يُحاول نتنياهو أن يُملي على الإدارة الأمريكية عدداً من السياسات، وأبرزها عدم ابرام اتفاق نووي جديد مع إيران، لكن واشنطن تملك مقاربة مختلفة، إضافة إلى التباين حول الدور التركي في سوريا ومستقبل الدولة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع.
تعزّزت الخلافات أكثر عندما بدأ نتنياهو بتجاوز ترامب والتواصل مباشرة مع شخصيات داخل الإدارة الأميركية مثل مستشار الأمن القومي مايكل والتز سعياً إلى فرض أجندته الإيرانية. هذا التصرف أثار حفيظة ترامب الذي رأى فيه تحديًا لسلطته، وفي هذا السياق، جاء قرار إقالة والتز من منصبه.
ولم تكن غزة بعيدة عن ساحة الخلاف، ففي لحظات حرجة، اتخذ نتنياهو قرارات من طرف واحد، مثل المماطلة بإدخال المساعدات الإنسانية وتوسيع العمليات العسكرية، من دون أي تنسيق مسبق مع إدارة ترامب، فنتنياهو أحرج ترامب بقضيتين: الأولى بشأن إدخال المساعدات إلى غزة، والثانية توسيع العملية العسكرية من خلال ما تُسمى عملية “عربات جدعون”.
هذه الخلافات ما تزال تحت سقف العلاقة الاستراتيجية، لذا، يُمكن القول إن رفع الغطاء الاستراتيجي الأميركي عن إسرائيل غير مطروح على جدول أعمال ترامب، لأن إسرائيل تمثّل المصالح الاستراتيجية والإمبريالية والكولونيالية الغربية في منطقة الشرق الأوسط. ولهذا، فإن الخلافات القائمة حالياً ليست بين دولتين (الولايات المتحدة وإسرائيل) بل بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو وحتى في ظل تغير الإدارات وتبدل المصالح، تبقى العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تستند إلى أسس ومؤسسات ومصالح وتحالفات عميقة لا تتبدل بسهولة، فالعلاقة بين الدولتين علاقة استراتيجية مؤسسساتية عميقة، تتجاوز الأشخاص.
تغيّر الرؤساء في واشنطن لا يعني بالضرورة تغيّر الحلفاء أو الأولويات الجيوسياسية، فقد حافظت الولايات المتحدة تاريخيًا على تحالفاتها الاستراتيجية التقليدية، سواء مع دول الخليج العربي أو إسرائيل، وما يتغيّر هو إدارة التوازنات والأولويات حيث تتصرف واشنطن في هذا السياق بما يخدم مصلحة الشعب الأميركي، وخير مثال على ذلك قرار ترامب بزيارة دول الخليج من دون التوقف في تل أبيب. يأتي ذلك على خلفية الفوز باستثمارات تريليونية خليجية دعماً للاقتصاد الأميركي، وفي ذلك رسالة قوية من الإدارة الأميركية إلى إسرائيل، لكنها لا تعني على الإطلاق أن الولايات المتحدة بصدد تغيير تحالفاتها في المنطقة، بل نحن أمام مجرد رسالة سياسية.
ملفا إيران والحوثيين في اليمن عكسا مقاربات مختلفة من جانب ترامب ونتنياهو، ففي حين يرى الأول أن انهاء الحروب وتخفيف التوترات يصب في مصلحة بلاده، يصرّ نتنياهو على الخيار العسكري، فترامب يسعى إلى تصفير الأزمات وتقليل بؤر التوتر في المنطقة والعالم، ليتمكن من التفرغ لمواجهة التمدد والنفوذ الصيني، أما نتنياهو، فيملك وجهة نظر مختلفة، ويُفضّل المزيد من التصعيد، ويضغط لضرب المفاعل النووي الإيراني، ويكشف هذا التناقض عن أولويات مختلفة بين تركيز ترامب على آسيا، وإصرار نتنياهو على أولوية توجيه ضربة عسكرية لإيران. يندرج في هذه الخانة قرار الولايات المتحدة بابرام تفاهمات مع الحوثيين بوساطة عمانية، الأمر الذي أثار استياء نتنياهو، لا سيما في ضوء قرار الحوثيين بالمضي في استهداف العمق الإسرائيلي بالصواريخ، تمامًا كما عبّر عن انزعاجه من الانفتاح الأميركي على سوريا والتوجه لرفع العقوبات عنها، فيما يريد نتنياهو المضي بفرض العقوبات، كما مواصلة العمليات العسكرية الإسرائيلية الخاطفة داخل الأراضي السورية، وصولاً إلى تعميم الفوضى هناك.
إن أحد أهم أوجه الصدام بين الطرفين يتمثل في طريقة التعامل مع القضية الفلسطينية، فنتنياهو يسعى إلى فرض أمر واقع توسعي احتلالي استيطاني، وصولاً إلى السيطرة الكاملة على أرض فلسطين التاريخية، من منطلقات توراتية، مثل “يهودا والسامرة” في الضفة الغربية، بينما لدى الإدارة الأميركية أولويات استراتيجية لا تتناغم مع مشروع نتنياهو التوسعي.
وبرغم تزايد المؤشرات على تصاعد الخط البياني للتوتر بين ترامب ونتنياهو، إلا أن الطابع المؤسساتي للعلاقة الأميركية-الإسرائيلية يبقى هو الحاكم الفعلي لاستمراريتها، ومن غير المرجح على الإطلاق أن يُرفع الغطاء الأميركي عن إسرائيل، وما نشهده هو مجرد تباين في التكتيكات لا في الاستراتيجيات، أو أنه أشبه بسحابة صيف عابرة بين ترامب ونتنياهو.