إيران؛ المعنى الذي لم يمت.. الوعي الذي يجب أن يكون

نستطيع أن نصف "عدوان الثالث عشر من حزيران/يونيو" أنه آلية اشتغال على البنية الرمزية للخصم. كان الهدف تعرية البنية الرمزية الإيرانية أمام ذاتها. فكل حرب، في جوهرها، ليست نزاعًا على الأرض فقط، بل على حق تمثيل الأرض، على سلطة اللغة التي تَسكُن الخرائط، وتعيد إنتاج الأنا في مواجهة الآخر.

لقد استهدفت الضربة الجوية الإسرائيلية قلب إيران، لأنها مَجازٌ لمشروع جمعي يمتد من الثورة إلى الحكاية. كان المطلوب أن تتكلم الأرض بلغتهم، أن تُنتزع من اللغة الفارسية قدرتها على تأويل نفسها، أن تعود الصحراء صامتة، بلا سردية، بلا ثورة، بلا شهيد.

الضربة كانت موجهة لجسد الجماعة المتخيلة، لتلك الرابطة اللا مرئية التي تجعل من شعبٍ ما أمة، وتجعل من الألم ميثاقًا. هذا الجسد، الذي لا يُقصف، هو ما حاولت تل أبيب تفكيكه عنوة. لكنها أخطأت في قراءة النسيج. فالنسيج هنا ليس من قطنٍ قوميّ هشّ، بل من صوفٍ روحيّ مضادٍ للاشتعال.

في لحظة الصمت التي تلت الغارات، احتشدت اللغة، وتكثفت الهوية، وتشابك الرأي العام. لم يصرخ أحد، لكن الرد لم يكن صمتًا. لقد بدأ الرد حيث لا تسمع الرادارات: في أنماط التماسك، في الوعي الغريزي الذي يرفض الخضوع كضرورة فيزيائية. إنها لحظة يتحول فيها القصف من حدث تقني إلى لحظة مساءلة: هل نحن ما يزال لنا حق في تأويل ذاتنا؟ أم أن سردية الآخر صارت قانونًا جويًّا فوق سيادتنا الرمزية؟

المقياس ليس بالأرقام، إنما بالبنى التي انشقت ولم تسقط. في هذا السياق، لا أهمية للسلاح الذي أُطلق، بل للمعنى الذي لم يمت. وهذا ما يجعل الضربة الإسرائيلية، في عمقها، عدوانًا على بنية الفهم الغربية ذاتها، لأن الرد لم يأتِ من العقل المتوقع، بل من مكان لم يكن مفترضًا أن يتكلم

من هذه الزاوية، لا تعني الحرب سوى تفكيك نظام المعاني. فحين يُقال لإيران إنها لا تملك حق الرد، فهذا يعني سحبها من شبكة الاعتراف المتبادل، طردها من دائرة “الذوات السياسية الشرعية”. وما فعلته طهران، بإطلاقها للصواريخ، لم يكن انتقامًا فقط، بل إعادة تفعيل لحضورها التأويلي: ها أنا أكتب ذاتي، بصوتٍ متفجر، في سجل العالم.

الحدث في جوهره ، بقدر ما هو عسكري، بقدر ما هو تربويّ اجتماعي: من له الحق في الغضب؟ من يُسمح له بتجاوز منطق الضبط؟ الغرب، منذ نشأة الحداثة، رسم حدًا فاصلًا بين الفاعلين والمتلقين، بين من “يردع” ومن “يُنذر”. والرد الإيراني جاء ليُمزّق هذه الثنائية، لا ليُعيد ترتيبها.

وإذا بدا للعين المجرّدة أن شيئًا لم يتغير، فإن ما تغير هو العرف المعنوي نفسه. فإيران لم ترد فقط على طائرة، بل على مفهوم الردع ذاته، على فكرة أن لا أحد يملك حق الفعل من خارج منظومة الإذن. لقد غيّرت قواعد التلقي، لا القواعد العسكرية.

أما المشهد الجماعي داخل إيران، فكان الامتحان الحقيقي في استمرارية المعنى المشترك داخل مجتمع يختبر الحصار منذ عقود. وهنا، لا تعود المسألة سياسية، بل أنثروبولوجية: ما الذي يجعل أفرادًا ما يظلون منتمين إلى سردية قُصفت؟ كيف يستمر الطقس الجماعي برغم تمزيق المعبد؟ هنا بالضبط، يتكشف ما لا تراه الأقمار الصناعية: الطقوس الصغيرة للمقاومة الرمزية.

ليس غريبًا أن تطلب واشنطن بعد يومين هدنة، لأن ما وقع لم يكن قابلًا للضبط بالسلاح. لقد حدث تصدّع في منطق السيطرة نفسه. أصبح السؤال: من يملك الحق في كتابة الخاتمة؟ من يُقرّر ما إذا كانت الطلقة الأخيرة تعني النصر أو بداية النص التالي؟

لهذا كله، المقياس ليس بالأرقام، إنما بالبنى التي انشقت ولم تسقط. في هذا السياق، لا أهمية للسلاح الذي أُطلق، بل للمعنى الذي لم يمت. وهذا ما يجعل الضربة الإسرائيلية، في عمقها، عدوانًا على بنية الفهم الغربية ذاتها، لأن الرد لم يأتِ من العقل المتوقع، بل من مكان لم يكن مفترضًا أن يتكلم.

والنتيجة؟ ليست حربًا. بل خيبة سردية. انهيار في احتكار اللغة. فحين تردّ إيران، فإنها لا تحارب فقط، بل تُفكّك التعريف الذي كُتب لها: من كائن يجب احتواؤه، إلى ذات تقاوم لتعيد تعريف الممكن، ودور إيران في الفضاء المحيط، وعلى ما يبدو أن الحرب ستكون فرصة لإيران لكي تُعوّض ما خسرته في غزة ولبنان وسوريا، وذلك بحسن إدارة الضربات، وتفويت أي محاولات اسرائيلية وغربية لقلب الصورة. لا، ليس من مصلحة ايران أن تنتهي الحرب الآن، ليس قبل أن تُرسّخ المشهد التدميري في عمليّة كيّ وعي، سوف يكون له أثر غائر في الجرح الإسرائيلي الذي لا يعرف كيف يخرج من صدمة المشهد، وجرأة الإيراني على الرد، ونجاحه في اصابة الأهداف، وتوليد الصراخ الرمزي في الجسم السياسي والأمني، والصراخ الفعلي عند سكان الكيان في تلك الفيديوهات التي تنتشر بعد كل ضربة على تل أبيب أو حيفا..

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  المصالحة السورية التركية.. أولى ثمار "طوفان الأقصى"
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  ما هي استراتيجية الإصلاحيين الإيرانيين لملاقاة أمريكا الترامبية؟