في قلب أزمتنا اللبنانية.. هل يُعاد تعريف الشراكة الوطنية؟

ليس من السهل مقاربة ملف حزب الله في لبنان من دون الانزلاق إلى متاهات الاصطفاف أو المزايدة. المسألة أعقد من مجرد تنظير سياسي أو تكرار مواقف مُكرّرة. في جوهرها، هي عقدة متشابكة من الأمن، الانتماء، الذاكرة الجماعية، الإقليم، الخذلان الداخلي والتدخل الخارجي. من هنا، فإن محاولات تبسيط الموضوع، أو اختزاله في مطلب نزع السلاح، لا تعكس سوى عجز عن قراءة الواقع كما هو، لا كما نتمنّاه.
من يتابع تطورات المنطقة يدرك تماماً أن حزب الله لا يعيش في عزلة، ولا يتصرف في فراغ. ما يجري في غزة وسوريا وإيران، وما يحدث داخل إسرائيل نفسها، ينعكس مباشرة على قراراته وسلوكه. التوقيت الإقليمي لا يساعد على فتح ملفات شائكة كالسلاح، ولا يسمح بترف الخطاب الأخلاقي الذي يتجاهل موازين القوى. صحيح أن أي حل مستدام في لبنان يجب أن يشمل معالجة هذا الملف، لكن الصحيح أيضاً أن لا معالجة ممكنة إلا من داخل المعادلة اللبنانية، لا من خارجها، ولا عبر أدوات الضغط الدولية التي اعتدنا أن تنقلب ضدنا في اللحظة الحاسمة.
المطلوب اليوم ليس نزع السلاح بقرار دولي، بل نزع الذرائع، وفتح باب السياسة أمام كل القوى اللبنانية، من دون استثناء أو تخوين. بهذا فقط، يمكن للبلد أن يبدأ بالخروج من النفق
ما لا يُقال بصراحة هو أن حزب الله، بالنسبة لجزء كبير من اللبنانيين، لم يعد مجرّد مقاومة، بل بات يمثل جرحاً في الذاكرة، وسقفاً للحياة السياسية، وحدّاً فاصلاً بين ما هو ممكن وما هو مستحيل في بناء الدولة. ومع ذلك، فإن اختزاله في كونه “المشكلة” يُغفل أن غيابه، في الظروف الحالية، قد لا يكون الحل، بل مقدمة لانفلات كامل لا تملك الدولة المنهكة أي قدرة على احتوائه. الدولة ذاتها التي فشلت كل قواها في إنتاج بديل حقيقي، موثوق، يحظى بثقة الناس، ويتّسع للجميع.
في العمق، ما يمنع التغيير في لبنان ليس فقط فائض القوة الذي يملكه الحزب، بل أيضاً عجز خصومه عن تقديم مشروع وطني جامع، وشراكة حقيقية لا تقوم على الاستقواء بالخارج أو على منطق الإلغاء. كثيرون في الداخل ما زالوا يتعاملون مع حزب الله كما لو أنه كيان غريب، أو مجرد وكيل لطرف إقليمي. هذا خطأ قاتل. الحزب، بكل ما له وما عليه، جزءٌ من النسيج اللبناني، شاء البعض أم أبى. تغييره لا يتم بإقصائه، بل بإشراكه في صياغة عقد وطني جديد، واقعي، عادل، وممكن.
لا يمكن بناء وطن على أنقاض ذاكرة الآخرين. ولا يمكن إنقاذ الدولة من خلال تفكيكها أكثر. خيار المواجهة المفتوحة، إن حدث، لن يُضعف الحزب فحسب، بل سيقضي على ما تبقّى من مؤسسات. أما التعويل على الخارج لحسم الصراع، فهو إعادة إنتاج كارثة تاريخية دُفع ثمنها مراراً، حين استبدل اللبنانيون وصاية بأخرى، فخسروا سيادتهم مرتين.
اليوم، ثمة فرصة، برغم كل شيء. فرصة لتقليص مساحة التوتر، لصياغة خطاب جديد، للتفاوض على المستقبل من دون شروط مسبقة. هذه لحظة اختبار حقيقي للبنانيين جميعاً: هل يريدون شراكة من موقع الندية، أم حرباً بالوكالة عن مصالح لا تخصهم؟ الأحزاب اللبنانية أمام مفترق طرق داخلي أيضاً، فقاعدتهم الشعبية بدأت تئن تحت وطأة الأزمات. وربما حان الوقت ليعيدوا النظر في وظيفتهم، وفي موقعهم داخل الدولة، لا خارجها.
إذا لم يحصل هذا الحوار، وإذا لم يتم تفكيك هذا اللغم المزروع في قلب السيادة اللبنانية بعقلانية ومسؤولية، فسيظل لبنان رهينة التوازنات الهشة، والصراعات المدمّرة. وسيبقى ساحة، لا دولة. والمطلوب اليوم ليس نزع السلاح بقرار دولي، بل نزع الذرائع، وفتح باب السياسة أمام كل القوى اللبنانية، من دون استثناء أو تخوين. بهذا فقط، يمكن للبلد أن يبدأ بالخروج من النفق.
Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  ماكرون يحيّد سلاح حزب الله.. الإصلاح أولاً
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  ماكرون يحيّد سلاح حزب الله.. الإصلاح أولاً