عالمٌ ظالمٌ تصبح فيه الإبادة.. أيديولوجيا! 

ثمة ما يُحضَّر في الخفاء. جيوش الإعلام والثقافة وصناعة الوعي تحتشد على الجبهة المعادية. الغاية: إعادة إعمار الكيان بعد ارتكابه جريمة الإبادة الجماعية. إعمارٌ ليس على مستوى البنيان، بل على مستوى الصورة. إعادة تأهيل صورة "إسرائيل" حتى تعود كما كانت؛ قاعدة متقدمة لحماية المصالح الجيوسياسية الغربية في المنطقة. بعد أكبر جريمة عرفها التاريخ، يُصبح السؤال: هل أصبحت الإبادة ممكنة في أي وقت وأي مكان، تُشرّعها مؤسسات ونظم وأيديولوجيات تحكم العالم وتتحكم بمصائر الشعوب؟ 

كما جرت العادة بعد كل جريمة كبرى ترتكبها نظم الاستعمار العالمي، هناك استراتيجية إعلامية وسياسية منظمة يجري تنفيذها بدقة في أعقاب الإبادة الجماعية المرتكبة في غزة، عنوانها العريض: إعادة تأهيل صورة “إسرائيل” بعد الإبادة. طلائع هذه الاستراتيجية تتمظهر في سلسلة من التصريحات والتقارير والمقابلات التي تتلاحق من داخل الكيان الصهيوني ومن خارجه، تحمل جميعها رسائل مكررة: دعوة إلى وقف “الحرب”، والإيحاء برفض “المجتمع الإسرائيلي” لاستمرارها، وتحميل بنيامين نتنياهو وبتلئيل سموتريتش وايتمار بن غفير والمتطرفين في الحكومة وحدهم المسؤولية، وغرس فكرة بأن هذه الإبادة لم تكن تعبيراً عن أيديولوجية المجتمع الصهيوني أو بنيته السياسية، ولم تكن طبيعة متأصلة في أيديولوجيا الاستعمار الحداثي المتوحش ممثلةً بمؤسسات ونظم دولية، بل كانت مجرد نزوة فردانية متطرفة.

تتضح سياقات هذه الاستراتيجية بجلاء في المواقف الغربية والعربية. فالولايات المتحدة، وعلى لسان وزير خارجيتها السابق أنتوني بلينكن، وصفت أعضاء في الحكومة الإسرائيلية بـ”المتطرفين” الذين يُهدّدون السلام، دون أن يذكر كلمة “إبادة” أو يدين المؤسسة الصهيونية بوضوح. وفي أوروبا، فرضت بعض الدول عقوبات رمزية على شخصيات إسرائيلية، فيما أبقت غالبيتها على علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع الكيان. أما الأنظمة والنخب العربية، فقد سارع بعضها لتأكيد دعمه لما يسمى بـ”حل الدولتين” واستئناف العلاقات مع “إسرائيل المعتدلة”، متى ما تم تجاوز “مرحلة نتنياهو”. أضف إلى ذلك الكثير من الأصوات التي أعلنت منذ البداية “حق الكيان في الدفاع عن النفس” واستمرت بلا تحفظ في دعم الإبادة.

بطبيعة الحال لم تكن هذه الاستراتيجية مفاجئة، فلا أحد من السذاجة ليظن أن الحلفاء التاريخيين للكيان سيقفون مكتوفي الأيدي. الكيان الصهيوني بالنسبة لهم أكثر من مجرد حليف طارئ؛ هو الركيزة الأساسية في مشروع هيمنة استراتيجية بعيدة المدى، تشمل إعادة تشكيل موازين القوى في الشرق الأوسط، وتعزيز جبهة دفاعية موحدة في وجه الصعود الصيني والروسي وما يسمونه بالخطر الإيراني، وتأمين خطوط التجارة والطاقة العالمية. هذه الهيمنة تتجلى في مشاريع ضخمة كالممر الهندي – الأوروبي، والتحالفات الأبراهيمية، وتكامل الأنظمة الدفاعية الإقليمية، وهي مشاريع مصيرية ليس فقط للكيان، بل للمنظومة الغربية بأكملها. لذلك، فإن إنقاذ صورة الكيان جزء من تأمين هذه الاستثمارات الجيوسياسية.

كل ذلك يؤكد أن تحميل المسؤولية لأفراد متطرفين ليس إلا تمهيداً لإخراج الكيان من مأزقه الأخلاقي والدولي، ومخرجاً للدول المتواطئة لاستكمال تطبيع العلاقات من دون كلفة أخلاقية. فبمجرد زوال “الثلاثي المتطرف” تُفتح أبواب إعادة الدمج السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، ويعود الجميع بلا هوادة إلى مخططهم الاستراتيجي القديم: إعادة توصيف هوية ودور الكيان في المنطقة، ووضعه في قلب التحالفات الإقليمية، راعياً للنهضة وشريكاً في التنمية.

لكن هل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح؟

سواء كانت الإجابة بنعم أو لا، فإن نجاحها مشروط بحجم المواجهة. إن السيطرة على السردية ليست أمراً تلقائياً، بل هي ساحة معركة بذاتها. إذا تراخت الأصوات الحرة، ولم تقم المؤسسات بدورها للتوثيق، ولم تتقن النخب الفكرية والإعلامية بناء خطاب بديل يُفكّك هذه السردية ويُعيد تأطير الإبادة كجريمة بنيوية تمتد من الكيان الصهيوني حتى نظم الاستعمار الغربي مروراً بالمؤسسات الدولية، فستنجح هذه الاستراتيجية في إعادة تثبيت “الحصانة الأخلاقية المزيفة” للكيان. أما إذا وُوجهت بتوثيق منهجي، وشهادات ناجين حول ممارسات الجنود الصهاينة وسقوطهم الأخلاقي وإجرامهم الفردي، وتحليل سياسي وأخلاقي متماسك يرسم خارطة واضحة لمعسكري الأعداء والأصدقاء، فإنها ستتحطم أمام الذاكرة الجمعية والوعي المقاوم، ولن تتمكن من تحقيق اختراق واسع النطاق.

علينا اكتشاف النقاط المحتملة لاختراق جبهة الوعي الفردي والجمعي لنعزز أدواتنا على المواجهة. بنية الوعي البشري لا تتحرك دوماً على إيقاع الحقيقة، بل على إيقاع ما يُتاح لها من تفسيرات مألوفة. فالفرد، كما يقول غوستاف لوبون في “سيكولوجيا الجماهير”، لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما يبحث عن الانسجام النفسي والطمأنينة الإدراكية، وهذا ما يجعل الجماهير ميّالة إلى تصديق الرواية الأبسط والأكثر رواجاً والتي تسمح لها بالتراخي وتعفيها من الفعل والمبادرة

ومن أبرز أدوات المواجهة، المعرفة والوعي الكاملين بالأدوات والمنهجيات التي يوظفها العدو للوصول بروايته للعقول. ويبقى الإعلام، كما كان دوماً، السلاح الأخطر وصاحب الدور الأبرز لتحقيق هذه الغايات. ففي منظومة الإعلام المعادي لا يوجد غرف تحرير أخبار، بل خلايا إدارة أزمات وحملات وموجهة، وخبراء في العلاقات العامة وعلم النفس السلوكي. من المرجح أن يلجأ العدو في هذا السياق إلى أسلحته القديمة الجديدة، مثل الممارسة المنظمة لما يعرف بنظرية “إدارة الإدراك” وهي تقنية تعتمد على التلاعب بالصور الذهنية للجماهير من خلال رسائل انتقائية ومكرّسة، تُبنى وفق مبادئ علم النفس الاجتماعي والإعلام الجماهيري. أحد أبرز منظّري هذا الاتجاه ويدعى هارولد لاسويل، أشار إلى أن الإعلام في أوقات الأزمات لا يكتفي بعرض الوقائع، بل يصنع المعنى ويوجه العاطفة الجماعية نحو أهداف محددة، وذلك من خلال سياسات نفسية مركبة تهدف إلى إعادة ترميز وتوصيف عناصر الحدث.

إقرأ على موقع 180  نصف سنة على حرب غزة.. الإسرائيليون في سفينة "التيتانيك"!

سيُصعّد العدو من استخدام ما يُعرف في نظريات الإعلام السياسي بـ”الاختزال الشخصي للمسؤولية”، وهي تقنية شائعة في إعادة إنتاج السرديات بعد الأزمات الكبرى، حيث يُلقى باللائمة على أفراد بعينهم لامتصاص الغضب العام، وتبقى المؤسسة والدولة في مأمن من الإدانة الشاملة. إن تحميل نتنياهو ورفاقه مسؤولية الجرائم، مع بقاء المؤسسة العسكرية والأمنية، والنظام السياسي كما هو، بل بدون الإدانة القاطعة للعقلية الصهيونية وروافدها من نظم اقتصادية وثقافية ومؤسسات دولية، كفيل مع الوقت ـ مع الممارسات التجميلية على الأرض من تطبيع واتفاقيات اقتصادية وعلمية وغيرها- بإعادة تدوير شرعية الكيان الصهيوني على مستوى المنطقة والعالم.

واللافت للانتباه في الأمر أن الإعلام المعادي لا يشتغل فقط عبر الكذب، بل عبر قول “نصف الحقيقة”، وتضخيم جانب وإخفاء آخر، أو قول الحقيقة والتحكم بتفسيرها، والانتقال من تبرير الفعل إلى إعادة صياغة الفاعل، مثلما نجحوا إلى حد ما في غرس فكرة تحميل المقاومة مسؤولية ما يرتكبه العدو من جرائم. هذا ما يجعل معركة الرواية شديدة التعقيد، لأن الطرف الآخر يمتلك أدوات ضخمة للإنتاج الإعلامي، بينما يكتفي الكثير من خصومه بترديد عبارات الشجب أو التقوقع في خطاب انفعالي غير مؤثر.

قد يلجأ العدو أيضاً في زمن الذكاء الاصطناعي، إلى محو ما استطاع من التوثيق الرقمي للإبادة، وإخفاء كل ما يشير إلى تورط منظومة الاستعمار الدولي في دعمها وتسهيلها، قد تختفي تدريجياً وبفعل فاعل تصريحات الأمريكان والطليان والإنجليز والفرنسيين والألمان، الذين قالوا لنتنياهو: “Finish the job. Kill them all”. ثم أرسلوا بوارجهم الحربية وطائرات التجسس وفتحوا قنوات الدعم اللوجستي غير المشروط للكيان، لدرجة أن نتنياهو نفسه تفاجأ من حجم هذا الدعم، فرفع سقف أهدافه في حينها من القضاء على المقاومة إلى تهجير الفلسطينيين جميعاً من غزة.

في الجهة الأخرى، علينا اكتشاف النقاط المحتملة لاختراق جبهة الوعي الفردي والجمعي لنعزز أدواتنا على المواجهة. بنية الوعي البشري لا تتحرك دوماً على إيقاع الحقيقة، بل على إيقاع ما يُتاح لها من تفسيرات مألوفة. فالفرد، كما يقول غوستاف لوبون في “سيكولوجيا الجماهير”، لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما يبحث عن الانسجام النفسي والطمأنينة الإدراكية، وهذا ما يجعل الجماهير ميّالة إلى تصديق الرواية الأبسط والأكثر رواجاً والتي تسمح لها بالتراخي وتعفيها من الفعل والمبادرة، حيث تتملص غالبيتها من التفسيرات التي تفرض المواجهة، ولو كانت مُضلِّلة.

وتفسّر نظريات علم النفس الإدراكي هذا الميل عبر مفاهيم مثل “الانحياز التأكيدي”، حيث ينجذب الإنسان لما يؤكد معتقداته لا لما يتحداها. وفي أجواء إعلامية مشبعة بالدعاية، ومع تكرار الرسائل وتبسيطها، تُصبح الجماهير جاهزة لتبني السردية المريحة، حتى لو لم تكن عادلة. وهذا ما يجعل من الوعي، في زمن الكثافة الإعلامية، ميداناً هشّاً للتلاعب والاختراق، ما لم يُحصَّن بالمساءلة والذاكرة التاريخية والمعرفة النقدية. كل ذلك يعني أننا لا نواجه فقط جريمة مادية، بل وجريمة رمزية موازية، تسعى لتفكيك الوعي تحت تأثير الصدمة وتجريد الحقيقة من وضوحها، وإعادة صياغة المشهد وفقاً لأهواء العدو.

سيكون لهذه الاستراتيجية تأثيراتها المباشرة والكبيرة في وعي الجمهور الغربي. الكثير منهم انتفضوا ضد الإبادة وليس ضد الاحتلال الممتد، ولن ينجو منها إلا نخب قليلة العدد. أما تأثيرها عربياً فينقسم على مساحتين، الأولى مساحة الوعي “المدرك والعارف بوظيفته” ويحمله خصوم المقاومة ودعاة التطبيع والواقعية الاقتصادية و”العقلانية” من الكومبرادور الثقافي والاقتصادي ومعهم حاضنتهم الاجتماعية ومؤسساتهم ومنابرهم، وبعض البسطاء الطيبين الذين أرهبوهم بنظريات المؤامرة الموجهة ضد المقاومة. والثانية هي مساحة اللاوعي، أو الحديقة الخلفية لعقول المحايدين والمتشككين وضعاف النفوس الذين يجمعون بشكل معقد في وجدانهم بين كراهية العدو، والرغبة في الخلاص منه، والخشية من المواجهة ودفع الثمن.

 ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا التحليل ليس حكراً على استراتيجية إعادة تأهيل الكيان الصهيوني بعد الإبادة، بل ينسحب على مجمل مساحة المعركة بين مشروع التحرر ومشروع الاستسلام. وكما قلنا آنفاً، إن معركة الرواية بالغة التعقيد، لأنها لا تتوجه نحو أهداف مادية، بل إلى الوجدان والإرادة والجهوزية للكفاح والتضحية، إلى القيم والأخلاق وسقف الطموحات، والعلاقات الاجتماعية.

ما يجري الآن هو أكثر من مجرد تمويه على الجريمة أو محاولة إخضاعنا، بل محاولة لإعادة تشكيل الذاكرة، وهي محاولة جدية وخطيرة قد تكون لها نتائج في فضائنا الثقافي العام.

Print Friendly, PDF & Email
آدم كنعان

كاتب فلسطيني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  روبرت مالي: المنطقة قابلة للإلتهاب.. وبايدن لا يؤمن بالمبادرات