

■ بعد 22 شهراً من الحرب وعجز الحكومة الإسرائيلية عن تحقيق الأهداف الثلاثة التي وضعتها لنفسها، قرّر المجلس الوزاري المصغّر، في اجتماعه يوم الخميس، 7 آب/أغسطس، احتلال مدينة غزة وفرض سيطرة أمنية على كامل القطاع. برأيك، هل ستُفضي هذه المرحلة الجديدة إلى تحقيق أهداف حرب 8 تشرين الأول/أكتوبر، وما الغاية الحقيقية على المدى الطويل؟
– لا، الأهداف المُعلنة لحكومة نتنياهو – تحرير الأسرى وسحق حركة حماس نهائياً- لن تتحقق، بل قد تؤدي الحملة إلى مقتل أسرى إسرائيليين. ولستُ متأكداً من أن هذه الأهداف المُعلنة هي الحقيقية. فمنذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، يبدو لي أن الهدف هو إفراغ قطاع غزة من أهله، وهو هدف إسرائيلي قديم يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي. فلطالما كانت غزة شوكة في خاصرة إسرائيل ومركزاً للحركة الوطنية الفلسطينية، ولطالما كان “إفراغ القطاع” من أهله هدفاً استراتيجياً رئيسياً بالنسبة للإسرائيليين- بحسب وثائق الأرشيف الخاصة بهم. نتنياهو ظنَّ أن الفرصة متاحة أمامه، لاسيما بعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إنشاء “ريفييرا”، لكن التنفيذ بالغ الصعوبة: مصر والأردن يرفضان فتح حدودهما، فيما الفلسطينيون يثبتون- يوماً بعد يوم- مدى تمسكهم بأرضهم وإستحالة تخليهم عنها. على سبيل المثال: خلال فترة وقف إطلاق النار، في مطلع كانون الثاني/يناير الماضي، عاد مئات الآلاف إلى منازلهم- وغالباً إلى أنقاض منازلهم- ونصبوا خياماً. قد يغادر بعضهم، لكن إرادة البقاء والتمسك بالأرض محسومة.
وإلى جانب تهجير الغزاويين – غير الممكن حالياً – فإن الهدف الفعلي لنتنياهو هو إبقاء إسرائيل في حالة حرب دائمة على كل الجبهات (إيران، ولبنان، وسوريا واليمن). وهناك بُعد داخلي لهذا الهدف يتمثل في أن نتنياهو يريد تفادي محاكمة أو لجنة تحقيق في إخفاقات 7 تشرين الأول/أكتوبر، لكن الأهم هو السعي إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بحيث تكون إسرائيل القوة المهيمنة الوحيدة، القادرة على تمزيق سوريا، والتدخل كما تشاء في لبنان، وضرب إيران. هذه هي أيديولوجيا “الحرب الدائمة” المعلنة منذ البداية.
غزة شوكة في خاصرة إسرائيل ومركزاً للحركة الوطنية الفلسطينية.. إفراغ القطاع” من أهله هدف استراتيجي وُضع في الخمسينيات، بحسب الأرشيف الإسرائيلي
عواقب وخيمة على إسرائيل
■ بعد إضعاف حزب الله في لبنان، واحتمال تجدّد الحرب هناك، وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وسيطرة إسرائيل على منطقة واسعة في جنوب سوريا، وحرب إسرائيلية-أميركية ضدَّ المنشآت النووية الإيرانية، إلى جانب جمود النظام العربي الرسمي واستمرار مسار التطبيع: هل نحن على أعتاب شرق أوسط جديد تحت هيمنة إسرائيلية، وهو هدف قديم لنتنياهو؟
– لا. إسرائيل لا تملك مقومات لفرض هكذا هيمنة؛ فهي بلدٌ صغيرٌ، وليس لديها مئات آلاف الجنود اللازمين للسيطرة على كامل المنطقة. وقد ولّدت حرب الإبادة في غزة رفضاً واسعاً لدى الشعوب العربية، مهما يكن موقفها من حزب الله أو إيران. فهذه السياسة لا تُنتج سلاماً ولا اتفاقات مُستدامة، بل قد تنتهي بعواقب وخيمة على إسرائيل نفسها.
أنت محق في إبراز سلبية الأنظمة العربية، سواء الموقِّعة على “اتفاقات أبراهام” أم غير الموقِّعة. فمصر، على الرغم من معاهدة السلام وسيطرتها على الحدود مع غزة، لم تفتح المعبر بصورة حاسمة، خوفاً من قطع تعاونها مع إسرائيل. وفي الخليج صدرت إدانات شديدة، لكن من دون أي أفعال ملموسة. أمّا التنسيق السرّي، ولا سيما بين السعودية وإسرائيل، فما زال مستمراً على الرغم من الإبادة في غزة، الأمر الذي يعزز قناعة نتنياهو بأنه قادر على التصرف كما يشاء.
في المقابل، يتنامى خارج العالم العربي تيار التضامن مع فلسطين، حتى على مستوى بعض الحكومات. فقد قطعت دول في أميركا اللاتينية علاقاتها مع إسرائيل، وخرجت تظاهرات حاشدة في كل مكان. ومع ذلك، اكتفت روسيا والصين، مثلها مثل الحكومات الأوروبية، بإصدار تصريحات بلا تبعات ملموسة.
■ في إسرائيل نلحظ تغييراً في الرأي العام؛ غالبية تطالب بإنهاء الحرب وإبرام اتفاق لتحرير الأسرى، ومثقفون ومنظمات حقوقية يصفون الحرب بأنها إبادة جماعية. ما أسباب ذلك وما انعكاساته على حكومة بنيامين نتنياهو؟
– صحيح أن هناك تغييرات، ومن المهم الإشارة إلى نداءات مثقفين وإلى توصيف الحرب بأنها إبادة من قبل منظمات غير حكومية مثل “بتسيليم” و”أطباء من أجل حقوق الإنسان”. كما أن الرغبة في تحرير الأسرى قويّة، لكن ذلك لا يترافق مع إدانة واسعة للحرب، جزئياً لأن الإعلام الإسرائيلي السائد مصطفّ خلف مواقف الحكومة، وهو ما يفسّر نسب التأييد المرتفعة للعمليات العسكرية وحتى لهدف طرد الغزاويين.
الأهم هو وقف الإبادة بكل الوسائل الممكنة. ولن يتحرّك الرأي العام الإسرائيلي من دون عقوبات تطال المجتمع الإسرائيلي بأكمله، لا أن تقتصر على القادة وحدهم. فلو علّق الاتحاد الأوروبي اتفاقات التعاون، مثلاً، لتأثرت حياة الإسرائيليين اليومية بشكل مباشر. حتى الآن، الإزعاج الأساسي الملموس يتمثل في صعوبة السفر المتزايدة، وهو أمرٌ محسوسٌ خصوصاً لدى الطبقات الميسورة، لكنه غير كافٍ. ومن دون ضغوط قوية وملموسة، لن يتغير شيء. أمّا الإعلانات الأوروبية – مثل الاعتراف بدولة فلسطينية- فلها قيمة رمزية، لكن العاجل يبقى وقف الإبادة.
■ تغير موقف الغرب، وخصوصاً فرنسا، في الأيام الأخيرة، فبعد قرار الرئيس إيمانويل ماكرون الاعتراف بدولة فلسطين وعقد مؤتمر الحل القائم على الدولتين في نيويورك، يتوقع بعض الصحافيين الإسرائيليين “تسونامي” من الاعترافات في أيلول/سبتمبر الجاري. لكن الصحافي الإسرائيلي المناهض للاحتلال جدعون ليفي يرى أن هذه الاعترافات تهدف أساساً إلى تجنب فرض عقوبات على إسرائيل. هل تتفق مع هذا التحليل؟
– ينبغي وضع الموقف الفرنسي في سياقه التاريخي. فمنذ سنة 1967، في عهد الرئيس شارل ديغول، عارضت فرنسا بوضوح احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، واعترفت تدريجياً بحق الفلسطينيين في تقرير المصير وبضرورة الحوار مع منظمة التحرير. وكان هذا الموقف جوهر الدبلوماسية الفرنسية، على اختلاف الحكومات.
لكن منذ مطلع الألفية، ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر ثم الاعتداءات في فرنسا، لم تعد فلسطين تُرى كقضية احتلال، بل جرى التعامل معها كجزء من ملف “الحرب على الإرهاب”. وفي هذا الإطار قُدّمت إسرائيل بصفتها حليفاً، وتعزز التعاون الثنائي معها خلال عهود ساركوزي وهولاند وماكرون. يُقال دائماً إن فرنسا ما زالت متمسكة بحل الدولتين، لكن من دون أي خطوات لدفعه قدماً، بل على العكس جرى تعزيز إسرائيل عبر علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية.
من دون ضغوط دولية قوية وملموسة لن يتغير شيء.. الإعلانات الأوروبية عن الاعتراف بدولة فلسطينية قيمتها رمزية فقط.. والأولوية لوقف الإبادة
بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، كان تواطؤ فرنسا مع إسرائيل غير مشروط لأشهر، تحت شعار “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. لكن بعد سقوط عشرات الآلاف من القتلى، ظهرت بعض التحفظات، من دون أن ينعكس ذلك فعلياً على العلاقة الثُنائية. الاعتراف بدولة فلسطين مهم رمزياً، لكنه لا يغني عن إجراءات قوية وملموسة لوقف الإبادة: الضغط لوقف الاستيطان، وحسم وضع القدس الشرقية… إلخ. ومن العبث الاعتقاد بإمكان تحقيق ذلك من دون أي تدابير قسرية.
الفلسطينيون يقررون مصيرهم
■ تركز البيان الختامي لمؤتمر نيويورك على دور السلطة الفلسطينية – بعد إصلاحها- لتؤدي دوراً مركزياً في مرحلة ما بعد الحرب في غزة. هل تملك السلطة فعلاً القدرة على الاضطلاع بهذه المهمة؟
– الجميع يعلم أن السلطة الفلسطينية فقدت، إلى حدٍ كبيرٍ، شرعيتها لدى الفلسطينيين، وخصوصاً في الضفة الغربية، لكنها تبقى السلطة الواقعية المُعترف بها دولياً. قدرتها على أداء أي دور ستعتمد على الفلسطينيين أنفسهم، وليس من حقنا أن نقرّر نيابة عنهم. ثمة في الموقف الغربي رؤية استعمارية تتعامل مع الفلسطينيين كمواطنين من درجة ثانية. فمنذ إنشاء السلطة في عهد ياسر عرفات، كان هاجس الأميركيين والأوروبيين مُنصبّاً على تعزيز أجهزتها الأمنية خوفاً من حركة حماس، مع غضّ الطرف عن انتهاكات الحقوق واستشراء الفساد. أما مسألة حل السلطة من عدمه، فهي سؤال معقّد يخصّ الفلسطينيين أولاً وأخيراً.
■ الحليف الأول لإسرائيل يبقى الولايات المتحدة. وعلى الرغم من الدعم العسكري والسياسي المتواصل من إدارة الرئيس دونالد ترامب، فإن الانتقادات تشتدُّ للسياسات الإسرائيلية في الرأي العام الأميركي وداخل الحزبين. وقد قال نفتالي بينيت، في 6 آب/أغسطس الماضي، إن “موقع إسرائيل في أميركا لم يكن أسوأ مما هو عليه اليوم، وبات يُنظر إليها كدولة منبوذة”. كيف تقرأ هذا التطور، وهل يمكن أن يضعف العلاقة الأميركية-الإسرائيلية على المدى البعيد؟
– هذا تطور مهم تسارَع بفعل الحرب على غزة، لكنه أقدم لدى شباب الحزب الديموقراطي. ويبرز بُعد أساسي يتمثل في التحولات داخل الجالية اليهودية الأميركية، حيث تتزايد المواقف النقدية الجذرية. وعلى اليمين أيضاً تلعب تيارات أُخرى – انعزالية وأحياناً مُعادية لليهود- دوراً موازياً. على المدى القريب، لن تكون لهذه التحولات آثار كبيرة في وقف الإبادة، إذ إن ترجمتها إلى قرارات سياسية ستستغرق وقتاً.
ولا ينبغي الاعتقاد أن واشنطن وحدها قادرة على ممارسة الضغط؛ فالاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لإسرائيل. تعليق برامج المساعدة والعلاقات، أو استثناء بعض المنتوجات الإسرائيلية، سيكون بمثابة صدمة اقتصادية كُبرى. ما ينقص أوروبا اليوم هو وجود دولة قوية تتبنّى هذا المطلب، وهو الدور الذي اضطلعت به فرنسا سابقاً. تبرز إسبانيا وتتحرك دول أُخرى، لكن فرنسا وألمانيا وإيطاليا ما زالت متحفّظة. ومع ذلك يمكن اتخاذ إجراءات حتى ضمن نطاق محدود، ولا سيما في مجال التعاون العلمي والتقني المرتبط مباشرة بالقطاع العسكري الإسرائيلي. أمّا التعبئة الشعبية، فتبقى عاملاً حاسماً للضغط من أجل فرض هذه العقوبات.
سوريا ساحة صراع
■ في الشرق الأوسط، ومع تغيّر النظام في سوريا، ما موقع القضية الفلسطينية في دبلوماسية دمشق التي تسعى إلى تطبيع علاقاتها الإقليمية والدولية؟
– الوضع السوري بالغ التعقيد، فالحكومة تسعى إلى تثبيت البلاد في ظل ضغوط متعددة: أميركية وإسرائيلية – إذ تحتل إسرائيل الجولان وتوسّع حضورها- بالإضافة إلى ضغوط إقليمية. والخطة الإسرائيلية واضحة: تقسيم سوريا على أسُس طائفية، وهو مشروع قديم (دولة سُنية، دولة درزية، ودولة علوية). لا أعتقد أن سوريا قادرة على أداء دور نشط، ولا على التطبيع مع إسرائيل ما لم يُجلَ الاحتلال عن الجولان. وفي الأشهر والسنوات المقبلة ستبقى سوريا أقرب إلى ساحة صراع منها إلى فاعل مركزي.
■ ما هي الطموحات الإسرائيلية في سوريا، وخصوصاً ما يتصل بالسيطرة الإقليمية وبالتوازنات المجتمعية؟ إلى أي حدّ تسعى إسرائيل إلى الإفادة من إعادة التركيب الداخلي لتعزيز عمقها الاستراتيجي وردع القوى الموالية لإيران عن التأثير في مستقبل البلاد السياسي؟
– ثمة استمرارية في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، من دون أن يعني ذلك وجود مؤامرة ثابتة. فكرة تقسيم المشرق إلى دول طائفية قديمة. ففي لبنان، خلال عامي 1981-1982، تحدث مسؤولون إسرائيليون عن “دولة مارونية”. وحين تسنح الظروف، تستند إسرائيل إلى التوترات الإثنية أو الطائفية: الدروز، والأكراد، وغداً ربما العلويون. لكن هذه الجماعات الأقلية لن تُحمى، بل ستبقى مهمشة وقابلة للتضحية. وهذه الاستراتيجية تعزز النقطة التي أشرتُ إليها سابقاً: الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية تقوم على فوضى دائمة- في سوريا، وفي الأردن الذي يُعدّ من أكثر البلدان عرضة للتهديد، وفي العراق منذ الغزو الأميركي عام 2003- لا على سلام عادل ودائم، ولا على توسيع “اتفاقات أبراهام”.
لا انقلاب في إيران
■ بعد المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران وتدخل الجيش الأميركي، ما الخطوة التالية المحتملة؟ وما انعكاساتها على الوضع في لبنان وسوريا وغزة؟ هل نتوقع توسيع الجبهة أم خفضاً للتصعيد بإشراف دولي؟
– فكرة ضرب إيران لوقف برنامجها النووي قديمة. وقدّر الإسرائيليون أن إدارة ترامب لن تعارض، فشنّوا ضربة بدا أن مداها الحقيقي محدود. لكنها كشفت في الوقت نفسه ثغرات لدى الحكومة الإيرانية (اختراقات للموساد)، وأثارت نزعة وطنية على الرغم من عدم شعبية النظام. وقد استهدفت الردود الإيرانية أساساً منشآت عسكرية، مع الحرص على تقليل الضحايا المدنيين. عملية إسرائيلية جديدة قد لا تكون “ناجحة”. وتبقى إيران في وضع داخلي صعب (الأزمة الاقتصادية، وأزمات الكهرباء والمياه)، وتعتمد على حلفاء ملتبسين مثل الصين وروسيا. أمّا الانقلاب على النظام من الخارج فمستبعد ومرفوض من الإيرانيين أنفسهم.
■ على الصعيد الدولي، نشهد صعود دول الجنوب. هل يمكن تخيّل دبلوماسية جنوب-جنوب كرافعة لخطة فرنسية-سعودية في الأمم المتحدة بمواجهة الضغوط الغربية؟
– نحن أمام تحوّل مهم، بدأ في المجال الاقتصادي (مع صعود وزن الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا وغيرها). لكن، وعلى عكس حركة عدم الانحياز في الستينيات والسبعينيات، لا توجد اليوم رؤية مشتركة لإزالة الاستعمار وبناء نظام دولي أكثر عدلاً؛ فالكثير من الحكومات تقدم مصالحها المباشرة على أي مشروع جماعي. وقد انخرطت البرازيل وجنوب أفريقيا بقوة، في حين لم تفعل روسيا والصين شيئاً ملموساً لمواجهة الإبادة. والعنصر الأبرز هو اتساع الحركة الشعبية العالمية المتضامنة مع فلسطين، والتي تستند إلى القانون الدولي.
الحرب طويلة.. جداً
■ ختاماً، بالعودة إلى إسرائيل: ما مستقبل المشروع الصهيوني في المنطقة؟ وكيف سيتطور المشروع القومي الإسرائيلي على المديين المتوسط والبعيد، في سياق التطبيع والمقاومات وإعادة التشكل الجيوسياسي؟ هل نتحدث عن إعادة نشر استراتيجية أم عن تركيز على أهداف إقليمية وأمنية بعينها؟
– على أرض فلسطين الانتدابية ثمة حقيقتان تفرضان نفسيهما: نجاح المشروع الصهيوني – عبر قيام الدولة وجذب جزء من الجالية اليهودية الدولية- وفشله الجوهري المتمثل في استحالة إفراغ الأرض من سكانها الفلسطينيين. يعيش اليوم نحو 8 ملايين يهودي إسرائيلي ونحو 8 ملايين فلسطيني بين النهر والبحر، في تعادل ديموغرافي غير مسبوق في تاريخ الاستعمار الاستيطاني. النماذج التاريخية المعروفة هي إمّا إبادة السكان الأصليين (كما في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا)، وإمّا الاستقلالات حين كان المستوطنون أقلية (كما في جنوب أفريقيا والجزائر). أمّا الحالة الإسرائيلية-الفلسطينية، حيث تتقارب الجماعتان في الحجم، فلا تشبه أياً من هذين النموذجين.
من هنا، لا بد من التفكير في مخرج لا يمرُّ عبر حمام دم: مشروع مشترك، ودولة لجميع مواطنيها، أو صيغة ثُنائية القومية تُمكّن الجميع من المشاركة. نحن ما زلنا بعيدين عن ذلك، ومن دونه ستطول الحرب طويلاً، طويلاً جدا.
– المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية. المقابلة على اليوتيوب بالفرنسية أجرى اللقاء سليم أبي خير، مساعد باحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
(*) آلان غريش، كاتب وصحافي فرنسي، مدير موقع “أوريان 21″، ورئيس التحرير السابق لمجلة “لوموند ديبلوماتيك”.