إذا كان معيار الإنتخابات النيابية قدرة حزب الله على الفوز بالأكثرية النيابية (65 نائباً وما فوق)، فإن الحزب قد أخفق في الوصول إليها، وعندها يمكن التبريك لخصومه، لكن مهلاً لا بد من التدقيق في الأمر. لو كان الأمر متصلاً بسلاح المقاومة (أو سلاح حزب الله كما يحلو التعبير لكثيرين)، فإن حزب الله سيجد أغلبية تفوق السبعين صوتاً من أسامة سعد وعبد الرحمن البزري في صيدا إلى إلياس جرادة في مرجعيون وحاصبيا إلى غيرهم في العديد من طيات المستقلين والمجتمع المدني.. حتى أعالي صنين وبتغرين في المتن الشمالي، وحبذا لو فاز جاد غصن، ربما كان سيكون من بين هؤلاء.
إذا كان المعيار من إستطاع أن يُحسّن ارقامه مسيحياً، فمبروك كبيرة لسمير جعجع. حزب القوات اللبنانية من كتلة لا تتجاوز أرقام اليد الواحدة عام 2005 إلى ما يفوق الـ 20 نائباً في 2022. بالمقابل، تراجعت أرقام ميشال عون وتياره الوطني الحر من التسونامي الذي واجه “التحالف الرباعي” وحصد غالبية مقاعد المسيحيين في الدوائر المسيحية بنسبة فاقت السبعين بالمئة إلى كتلة متواضعة قد تزيد أو تنقص مقعدا واحداً عن القوات. الأفدح هو التعرف على إجمالي الأصوات التفضيلية لنواب هذه الكتلة أو تلك، وتحديداً الأصوات المسيحية من أجل التعرف أكثر على “المنافخ” الطائفية التي أسهمت في “نفخ” هذا أو ذاك من الكتل المسيحية.
إذا كان المعيار قدرة قوى وأحزاب ومجموعات المعارضة والمجتمع المدني على فرض حضورهم في الخريطة البرلمانية المقبلة، فإن النتائج تشي بما يُشبه الإنقلاب، لكن النتيجة نفسها تدين هذه القوى التي ترشح منها أقل ما يربو إلى خمسمائة مرشح، أي نصف عدد المرشحين في كل لبنان، وبذلك يكون كل مقعد تنافس عليه أربعة من هؤلاء، فلو توّحدوا، لكان بإمكانهم أن يحصدوا أضعاف ما نالوه وعندها كان 16 ايار/مايو 2022 يوماً جديداً في تاريخ لبنان. الأهم من ذلك أن يُدرك الجميع أن فوز هؤلاء هو أكبر تعبير عن إنسداد شرايين النظام السياسي وحاجته إلى دم جديد.
إذا كان المعيار هو قرار سعد الحريري بالإنسحاب من المشهد السياسي ولا سيما البرلماني، حتى إشعار آخر، فإنه يسجل لرئيس تيار المستقبل أنه صاحب الفضل الأول في ما تحقق من خلط أوراق في كل الدوائر التي يوجد فيها حضور سني، وندر أن تجد دائرة لبنانية من تلال العرقوب إلى سهل عكار بلا كتلة من الأصوات السنية. لقد حصد الحريري من دون أن يكون مرشحاً للإنتخابات أكبر كتلة نيابية سنية تضم سبعة نواب وقابلة للزيادة. الأهم من ذلك أنه منع قيام حيثيات سنية قادرة على قيادة هذا الشارع، بدليل معاقبة فؤاد السنيورة في بيروت، بحيث لم تتمكن لائحته من الفوز سوى بحاصل واحد ناله وليد جنبلاط.. وكان مصير باقي المرشحين صفرياً من يوسف النقيب في صيدا إلى مصطفى علوش شمالاً.. ومن تمكن من الفوز مثل أحمد الخير وعبد العزيز الصمد، فسيأتي يوم تتكشف فيه تفاصيل فوز هذين النائبين بفضل بعض رموز الماكينة الإنتخابية الزرقاء وليس دنانير أهل شارع بليس التي ظلت أسيرة الخزائن الحديدية، برغم الشكاوي التي تلقاها سفراء دول الخليج من المرشحين أنفسهم!
إذا كان المعيار هو أداء حكومة نجيب ميقاتي نفسها، فإن هذه الإنتخابات تكاد تكون الأكثر مفاجآت في تاريخ لبنان. لائحة رئيس الحكومة في طرابلس تسقط بكاملها (وهو طبعاً ليس آسفاً عليها). صحيح أن تكافؤ الفرص شبه منعدم في ظل وجود تفاوت في الإمكانيات وتفشي ظاهرة المال الإنتخابي (الممر الإلزامي هو كشف السرية المصرفية لكل المرشحين)، إلا أن بعض الوقائع كانت لافتة للإنتباه وأبرزها أن لائحة ثنائي حزب الله ـ أمل تُخرق في عقر دارها في دائرة الجنوب الثالثة، بنائبين أحدهما (الياس جرادة) الذي يُجسد حساسية اليسار اللبناني الحقيقية وليس المصطنعة أو المفبركة أو التي وصلت سابقاً عن طريق “المحدلة”. لائحة حزب الله تخرق في عقر داره في البقاع الشمالي برغم “الإستفتاء” الذي إتخذ طابعاً “وجودياً” وكانت نتيجته العجز عن إقفال أبواب “القلعة” أمام القوات.
إذا كان المعيار هو حضور الدول والأمم، فإن “سر” إحكام “الثنائي” (حزب الله وأمل) قبضته على بيئته لا يتصل بفيلق القدس في الحرس الثوري ولا بفتوى خامنئية؛ حتماً هناك صورة “تفرح قلب صاحب الزمان” وهي صورة وحدة موقف الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله، كما قال لهما مرشد الثورة الإيرانية في غابر الأيام. لقد إنتزع “الثنائي” شرعية ومشروعية تمثيل جمهوره، وهذا مكسب لهما ولإيران في آن واحد.
وما يسري على إيران يسري على السعودية التي أضفت بعودة سفيرها وليد البخاري إلى بيروت حيوية سياسية بلغت حد تشكيل رافعة أساسية للقوات اللبنانية وإستنفار كل الحيثيات السنية الممسوكة سعودياً لمصلحة رفع حواصل القوات ورفد كتلتها بما يلزم حتى ينعقد نصابها الأول مسيحياً. أما سقوط بعض الوجوه، فليس مأسوفاً عليه سعودياً، طالما أن سمير جعجع نال ما يريد بوصفه عنوان مواجهة حتى يقضي الله أمراُ كان مفعولاً وعندها تكون له منزلة أخرى ومآلات مختلفة.
وللولايات المتحدة وفرنسا وأوروبا وكل المجتمع الدولي أن يفرحوا بالحصاد الذي يمثله نواب المجتمع المدني و”الثورة” و”الإستقلال”، وبعضهم حظي بتمويل الخارج وبعضهم الآخر خاضها بلحم أكتافه، وثمة من واكب تصويت الإغتراب، وعاد مُطمئناً إلى أن “كلمة السر” ستقلب الصناديق في البيروتين الأولى والثانية، وهذا ما حصل!
وبالمعيار ذاته شهدنا آخر فصل من فصول خروج سوريا من بيروت في ربيع العام 2005، بسقوط رموز تاريخية عصية على الكسر أو كانت قادرة دائماً على تجديد خلاياها السياسية، وأبرز هؤلاء طلال إرسلان، وئام وهّاب، إيلي الفرزلي، أسعد حردان وفيصل كرامي الذي إجتمع قبل أقل من أسبوعين بالرئيس السوري بشار الأسد وشجّعه على تبني الخيار العربي، بما في ذلك الإنفتاح على دول الخليج العربية. لا ينفي الأمر وجود خيانات وغدر ضمن “البيت السوري الواحد”، لكن مشكلة دمشق أنها ما زالت تقرأ لبنان بعيون ما قبل العام 2005، برغم ما أصاب سوريا ولبنان!
إذا كان المعيار يتصل بالإنتخابات الرئاسية، فإن الكل حدّد أوزانه في الإستحقاق المقبل إلى حد شطب نفسه. هذه الإنتخابات تعني أمراً واحداً (من وجهة نظر تحليلية): لن يكون لا جبران باسيل ولا سمير جعجع ولا سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية، أقله بمعطيات الإنتخابات النيابية واللحظة السياسية. صار لزاماً علينا أن نفتح دفاتر المرشحين من غير الأقوياء ومن غير المتداولة أسماؤهم حالياً.
إذا كان المعيار يتصل بالخطاب السياسي والتحالفات، على الجميع أن يعيدوا النظر بخطابهم السياسي. أول هؤلاء حزب الله. كل خطاب هذا الفصيل السياسي اللبناني من لحظة الطيونة إلى يومنا هذا شكل رافعة للقوات اللبنانية، ولو تواضع الحزب في خطابه لأمكن أن تحصد القوات مقاعد أقل. النقطة الثانية هي طريقة تعامل الحزب مع باقي الشوارع اللبنانية. ما جرى في جزين وحاصبيا ومرجعيون أفدح من حوادث شويا وخلدة والطيونة. سقوط فيصل كرامي وفوز إلياس الخوري أخطر من فوز رمزي كنج بأحد مقعدي الضاحية الجنوبية. على حزب الله أن يعيد النظر في كيفية تعامله مع شخصيات وازنة ومحترمة مثل اسامة سعد وعبد الرحمن البزري. المطلوب من الحزب التواضع ثم التواضع. أن يقرأ الآخرين. أن لا يتعامل مع الفائزين من “المستقلين” ومجموعات المجتمع المدني أو “إنتفاضة 17 تشرين” بوصفهم عملاء سفارات. المطلوب من الحزب أن يكون أكثر رحابة. أن لا يقيس البلد بأمتار مذهبية ومقاعد شيعية. المطلوب نظرة أكبر وأعلى. المطلوب من حزب الله أن يجعل قضية ودائع الناس وأكلهم وشرابهم بمثابة قضايا وجودية وعندها سيجد كل الشعب اللبناني يمشي وراءه. ليس السلاح قضية وجودية ولن يستطيع أحد أن ينتزع سلاح الحزب. إسرائيل وأميركا عجزتا عن ذلك. هل هناك من يُصدّق في كل بيئة الحزب أن إبراهيم منيمنة وملحم خلف ومارك ضو وياسين ياسين سيتجرأون على مجرد التفكير بذلك؟
في هذه النقطة تحديداً لا بد من إستفاضة لاحقة، لكن ختام هذه المقالة لن يكون مدعاة تفاؤل؛ فقد جرت العادة تاريخياً أن تكون الإنتخابات النيابية إما تدشيناً لمرحلة جديدة أو تعبيراً عن إنسداد سياسي. هذه الإنتخابات يُخشى أن تنقل لبنان إلى وضع أكثر تأزماً، بمعنى أن لبنان ينتقل من قلب أزمة إقتصادية مالية خطيرة إلى قلب أزمة وطنية كبرى أكثر خطورة سنشهد ملامحها تباعاً سواء في تمرير إستحقاق توفير النصاب القانوني والميثاقي لعقد أول جلسة نيابية لإنتخاب رئيس المجلس النيابي، في ظل مخاوف بأن يتكرر النموذج العراقي في لبنان، أي تزيد الإنتخابات واقع الإنسداد السياسي والتعطيل الحكومي والرئاسي والمجلسي وصولاً إلى الفراغ في كل المؤسسات.
الأهم أن صيغة الطائف أصبحت معطلة. حدة الإستقطابات الدولية وغياب الناظر أو الراعي الإقليمي وكذلك إستمرار الأزمة السورية وحرب أوكرانيا كلها عناصر ضد لبنان في المرحلة المقبلة. للبحث صلة في هذه العناوين الأخيرة قريباً.