استعادة سيادة لبنان.. إما باستراتيجية دفاعية أو بالارتهان للخارج

في ظل التحوّلات العميقة التي تشهدها المنطقة، وما يرافقها من قممٍ وتحالفاتٍ ورسمٍ لخرائط جديدة، تعود دولٌ إلى الساحة السياسية بقوة، فيما تتربّع أخرى على عرش زعامة الإقليم لتقود مسار التغيير. الشرق الأوسط يقلب أوراقه من جديد، ويفرض نفسه كنقطة ارتكاز في زمن العولمة الاقتصادية والتحولات الجيوسياسية. لكن يبقى السؤال الجوهري: أين يقف لبنان وسط هذه المتغيرات؟ وما موقعه في خريطة التحالفات المقبلة؟

يقف لبنان أمام مسارين متناقضين لا ثالث لهما: إمّا أن يسير في ركب المجتمع الدولي وينخرط في الخطة الأميركية – الخليجية – الأوروبية التي تهدف إلى نزع سلاح الفصائل الفلسطينية وحزب الله، والدخول في تسوية كبرى تُعيد رسم مستقبل المنطقة على قاعدة “السلام الإقليمي”؛ وإمّا أن يختار طريق المواجهة والرفض، مع ما يحمله ذلك من مخاطر العزلة والعقوبات والحصار الاقتصادي والمالي، وصولاً إلى احتمال تفجير الساحة اللبنانية وتحويلها إلى ساحة صراعٍ شبيهة بغزّة.

غير أن قراءة التجارب التاريخية مع إسرائيل تكشف أن الانخراط في مسار التطبيع لم يكن يوماً ضمانةً للأمن أو الاستقرار. فمصر التي وقّعت اتفاق “كامب ديفيد” في نهاية سبعينيات القرن الماضي ما تزال تعيش توتراتٍ حدودية وأزماتٍ اقتصادية عميقة، والأردن الذي أبرم “وادي عربة” لم يحصد سوى المزيد من الأعباء السياسية والاقتصادية والإجتماعية الداخلية، أما غزة التي دخلت في اتفاقات ميدانية مع إسرائيل، فلم تنعم بالسلام، بل بقيت عرضةً للقصف والاغتيالات والحصار المستمرّ. وثمة مثال قريب من سوريا التي أبدى رئيسها الجديد أحمد الشرع استعداده لابرام اتفاق تسوية مع إسرائيل غير أن حجم التغول الإسرائيلي حال دون قبوله بما يُطالب به الإسرائيلي من استباحة للسيادة السورية.

هذه النماذج تؤكد أن أي تسوية مع إسرائيل لا تقوم على توازن قوة وعدالة حقوق، إنما تؤدي إلى مزيد من الارتهان والانقسام الداخلي، وتفتح الباب أمام تنازلات تمسّ جوهر الكيان الوطني.

لا يمرّ الطريق إلى استعادة السيادة لا بالانقسام ولا بالارتهان ولا الارتماء، بل بالوعي الاستراتيجي والقرار الوطني الموحد، وبالقدرة على الربط بين منطق الدولة ومنطق القوة في إطار مشروع وطني جامع. فلبنان الذي قاوم الاحتلال وواجه الحروب والأزمات، لا يمكن أن يفقد توازنه اليوم إذا امتلك إرادة الاستمرار ووضوح الرؤية

لقد أثبتت التجارب أن استقرار لبنان لا يتحقق إلا عبر معادلة توازن دقيقة بين القوة والسياسة، وبين الانفتاح والانضباط الوطني. فكل تفريطٍ بعناصر القوة اللبنانية، مهما كانت ذرائعه، يشكّل مسًّا مباشراً بما تبقّى من سيادة الدولة وقدرتها على حماية أرضها وشعبها. ومن هنا، فإن التمسك بأوراق القوة الوطنية لم يعد خيارًا تكتيكيًا، بل ضرورة استراتيجية لحماية الكيان اللبناني من مشاريع التدويل والتفكيك والوصاية.

ويتمثل التحدي الأساسي حالياً في بناء رؤية وطنية متكاملة تُعيد الاعتبار لمفهوم الدولة القادرة والقوية والعادلة؛ رؤية تُوحّد الموقف الداخلي حول ثوابت لا يمكن التنازل عنها، وفي طليعتها حق لبنان في أرضه وحدوده وثرواته. فكل محاولة لتهميش دور الدولة أو عزلها عن مكونات قوتها هو مسار يقود حتمًا إلى إضعاف موقعها التفاوضي وإلى مزيد من الارتهان للخارج.

من هذا المنطلق، تبرز الحاجة الملحّة إلى بلورة استراتيجية وطنية شاملة ترتكز على ثلاث دعائم رئيسية:

أولاً؛ تحصين الداخل عبر توحيد المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية في إطار رؤية وطنية واحدة.

ثانياً؛ تفعيل الدبلوماسية اللبنانية كأداة دفاعية هجومية قادرة على إدارة الصراع بمرونة وذكاء.

ثالثاً؛ توظيف عناصر القوة الميدانية والاقتصادية والقانونية في معادلة ردع متوازن تحمي السيادة دون الانزلاق إلى مغامرات غير محسوبة.

وتتضمّن هذه الاستراتيجية بطبيعة الحال خطة وطنية واضحة لاستعادة الأراضي والقرى اللبنانية المحتلة، عبر الجمع بين أدوات القانون الدولي والمفاوضات المدروسة، وبين إرادة المقاومة السياسية والميدانية. وهنا تبرز قدرة المفاوض اللبناني وحنكته الدبلوماسية كعاملٍ حاسم في تثبيت الحقوق، على أن تكون هذه القدرة مدعومة بقوة لبنان وهيبته ووحدة موقفه الداخلي، بما يمنع سقوطه أمام رهبة العدو الإسرائيلي أو ابتزازه.

في الختام، لا يمرّ الطريق إلى استعادة السيادة لا بالانقسام ولا بالارتهان ولا الارتماء، بل بالوعي الاستراتيجي والقرار الوطني الموحد، وبالقدرة على الربط بين منطق الدولة ومنطق القوة في إطار مشروع وطني جامع. فلبنان الذي قاوم الاحتلال وواجه الحروب والأزمات، لا يمكن أن يفقد توازنه اليوم إذا امتلك إرادة الاستمرار ووضوح الرؤية.

إنها لحظة مفصلية تفرض على اللبنانيين صياغة استراتيجية وطنية لاستعادة الأرض والقرار، تحمي ما تبقّى من سيادتهم وتعيد للبنان دوره الطبيعي لاعباً لا ساحة، وصانعاً لا مفعولاً به.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  إعلام "المحور" من التأسيس للهزيمة إلى.. تمكينها! 
هشام الأعور

أكاديمي وكاتب سياسي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  “العقارب الصفراء”.. كيف اخترق الإيرانيون الملف النووي الإسرائيلي؟