هل هي مجرد مصادفة أم أن المنطقة بدأت تدخل ضمن نظام إقليمي جديد يهدف إلى ضبط النزاعات والصراعات فيها على توقيت موسكو وأنقرة الساعيتان لوراثة النظام القديم الذي أرست دعائمه الولايات المتحدة والدول الغربية؟
لا تفسير حتى الآن للتضارب الذي حصل بين وزارتي الدفاع الروسية والتركية حول تحديد موعد سريان الهدنة في إدلب، حيث ذكرت الأولى أنها بدأت الساعة الثانية ظهراً من يوم الخميس المنصرم، في حين قالت الثانية أنها لن تدخل حيز التنفيذ قبل منتصف ليل السبت- الأحد (غداً) .
ثمة من يقول أن روسيا كانت تتحدث عن شمول إدلب بنظام وقف الأعمال القتالية وهو أمر مختلف كلياً عن وقف إطلاق النار أو الهدن. أيّاً يكن فإن وقائع الميدان التي لم يغب عنها التصعيد طوال يومي الخميس والجمعة تؤكد أن الموعد التركي هو المعنيّ بإرساء الهدنة في منطقة خفض التصعيد الرابعة حسب اتفاقات آستانا.
يبقى أمر آخر من دون تفسير، وهو لماذا أعلن الطرفان عن هدنة ليبيا في ختام قمتهما في اسطنبول يوم الأربعاء، بينما تأخر الإعلان عن هدنة إدلب حوالي 48 ساعة حيث كان البيان الختامي لقمة الرئيسين قد نص فقط على ضمان التهدئة في إدلب عبر ضمان تنفيذ جميع بنود الاتفاقات المتعلّقة من دون أن يذكر موضوع الهدنة أو موعد سريانها؟
رغم التضارب السابق، فإنّ المهمّ حسب بيان وزارة الدفاع التركية هو أن الساحتين السورية والليبية باتتا على موعد موحّد مع هدنتين تسريان فيهما بتوقيت واحد وبتوقيع من ذات الطرفين روسيا وتركيا. ليس هناك على الضفة السورية أيّ ذكر لإيران المشغولة بتداعيات مقتل قاسم سليماني، رغم أن طيفها موجود في آلية استانا التي تتحكم بسقف التفاهمات الروسية – التركية. كذلك ليس هناك على الضفة الليبية أي ذكر لفرنسا وإيطاليا ولا غيرها من الدول المعنية بتطورات الملف الليبي، رغم أن أدوار هذه الدول لا يمكن القفز فوقها بسهولة.
الساحتان السورية والليبية باتتا على موعد موحّد مع هدنتين تسريان فيهما بتوقيت واحد وبتوقيع روسيا وتركيا
غير أن ما له دلالته العميقة على صعيد توازن القوى الاستراتيجي وخرائط النفوذ العالمية، هو أن روسيا وتركيا قررتا في لحظة سياسة محتدمة يعيش الاقليم في ظلّها أن تتصدرا المشهد في دولتين أساسيتين من دوله التي تشهد أزمات متفاقمة، وأن تعلنا بكل صراحة عزمهما على إمساك زمام المبادرة فيهما سواء عسكرياً أو سياسياً.
لا تكفي “الأواني المستطرقة” للاستدلال على كيفية انتقال الثنائي الروسي – التركي من سوريا واتجاهه صوب ليبيا بكل هذه السلاسة. يبدو الأمر أكثر تعقيداً لأن حركة السائل من إناء إلى آخر وفق نظرية الأواني المستطرقة تحتاج إلى تأمين ظروف موحدة واستبعاد ظروف أخرى من شأنها أن تمنعه عن الحركة، وهي هنا قد تكون مصالح القوى العظمى التي لم ترفع يدها عن ليبيا وما زالت تمارس فيها أدواراً كبيرة وواسعة.
الأمر الأكثر ترجيحاً إذاً هو أن المنطقة أصبحت على أعتاب منعطف تاريخي قد يأخذها من أحضان الهيمنة الأميركية والغربية إلى كنف نظام إقليمي جديد تعمل كل من روسيا وتركيا على ترسيخ دعائمه كبديل عن النظام الدولي الذي استقر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولعلّ هذه المنظومة الاقليمية الجديدة ذات النكهة الروسية -التركية، التي لم تكتمل بعد وما زالت في إطار التشكّل وسط تحديات قد تغير كثيراً في مساراتها ومآلاتها، ستكون أهمّ متغيّر استراتيجي يحدث في المنطقة منذ بدء موجة ما اصطلح على تسميته بـ “الربيع العربي” منذ عقدٍ من الآن.
المنظومة الاقليمية الجديدة ذات النكهة الروسية –التركية ستكون أهمّ متغيّر استراتيجي منذ بدء موجة “الربيع العربي”.
ويأتي هذا التوسع المشترك الروسي –التركي وسط انكفاء واضح للسياسة الأميركية وتحوّلِ ثقلها الاستراتيجي من منطقة الشرق الأوسط بحروبه ورماله إلى جنوب وجنوب شرق آسيا لمواجهة التنين الصيني الناهض من سبات طويل. وقد رافق الانكفاء الأميركي إرباكٌ أوروبي حول طريقة التعاطي مع ملفات المنطقة. حيث وجدت القارة العجوز نفسها عاجزة عن ملء الفراغ وغير قادرة على استغلال تداعياته أو ضبط إيقاعاته خصوصاً وسط الخلافات العميقة التي بدأت تطفو على سطح حلف الناتو الميت سريرياً حسب تعبير الرئيس الفرنسي.
في هذه النقطة، التقى الطموح الروسي لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي مع الحلم العثماني الذي يراود حكام أنقرة، فكانت معادلة أستانا كمبدأ جديد ابتكرته الدبلوماسية الروسية ووافقت عليه نظيرتها التركية لوضع الأزمة السورية على طريق الحلّ. لكن الأهم أن هذا المبدأ كان بمثابة نموذج يمكن أن تلجأ إليه الدولتان لتطبيقه على أزمات أخرى في دول أخرى التي يبدو أن ليبيا هي الثانية على قائمتها.
ايجابيات النموذج الروسي –التركي يكمن في أمرين: الأول أنه أثبت قدرة الدولتين على العمل على ضمان الاستقرار وتخفيض العنف في أماكن واسعة. والثاني أنه يؤكد أن التناحر الشيعي –السني الذي تعمل العديد من الدول على تكريسه كعنوان فتنة ذي تداعيات عسكرية وسياسية، ليس قدراً حتمياً للمنطقة.
أما على صعيد السلبيات فإنّ سلبيته الأولى تكمن في أنه سيعطي أنقرة أدواراً واسعة تذكّر بالمرحلة العثمانية حين كانت دول المنطقة تعاني من الاحتلال التركي تحت ستار ديني. وستكون أخطر هذه السلبيات طبيعة انعكاسات هذا النموذج على دول محور المقاومة وطبيعة الدور الذي ستأخذه إيران في إطاره.
صحيح أن العلاقة الروسية – الايرانية لا تقل أهمية عن العلاقة الروسية – التركية، وقد شهدت الأولى تطوراً كبيراً على كافة الصعد السياسية والعسكرية سواء في الملف السوري أو ملف الاتفاق النووي وصولاً إلى المناورات المشتركة مع الصين في المحيط الهندي التي ربما تكون وضعت نواة أولية لتحالف جديد، لكن الصحيح أيضاً أن مستقبل هذه العلاقات متوقف على قدرة طهران على الصمود أمام سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة ضدها والتي بلغت ذروتها مع اغتيال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” الذي كاد يضع الطرفين على شفا الحرب.
ويرجح العديد من المحللين الاستراتيجيين أن أي ضعف قد يظهر على طهران سيدفع موسكو إلى الخيار التركي بقوة متزايدة. ويستشهد هؤلاء بأن براغماتية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد لا تجعله ممن يحبون الوقوف على أطلال أية دولة تتعرض للانكسار.
أمّا الاحتمال الثاني أي صمود إيران وعدم انكسارها أمام تسونامي العقوبات الأميركية، فإن من شأن ذلك أن يضع النموذج الروسي – التركي أمام بعض التحديات المتعلقة بطبيعة العلاقة بين تركيا من جهة وإيران والدول التي تدور في فلكها من جهة ثانية، لكن المؤكد أن هذه التحديات لن تدفع القطار الروسي – التركي للخروج عن سكّته التي ترسمها تطورات أزمات المنطقة.
ما يحصل بين روسيا وتركيا ليس مجرد إرهاصات للتغيير الاستراتيجي الذي تعيشه المنطقة وسيؤثر على شكل دولها وسياساتها لعقود طويلة، بل هو طريق جديد تشقه الدولتان وسط جغرافية سياسية شديدة الوعورة. والسؤال هل سيوصلهما هذا الطريق إلى محطة تشكيل نظام إقليمي تتحكمان به وتضبطان إيقاعه على ساعتهما أم سينعكس سلباً على أدوارهما وأوضاعهما الداخلية؟