ثقافه وفنون Archives - 180Post

ziad.jpg

لا يُقاس أثر العظماء بالتوصيف والترميز، ولا بتأطير نتاجهم الثقافي تحت عناوين الأيديولوجيات، بل من القراءة المستمرة لأثرهم في صيرورة الشعوب وحركات التحرر والتقدم، ومن باب تلمس دورهم في بناء مداميك الوعي حجراً بعد حجر، وهكذا تصبح أفكار العظماء بذاتها هي البوصلة وهي العنوان المفتوح على أفق الحرية.

700-1.jpg

كنا نتمشّى، متسكّعات كعادتنا، بعد نهاية يوم دراسى طويل فى الجامعة الأمريكية فى بيروت. فما إن ينتهى اليوم بعد الظهيرة، حتى نهرول باتجاه شارع الحمرا، ونبدأ المشوار بين الموكا أو الأولمبى، ثم سينما، ثم مشى بين المحلات فى ذاك الشارع الصاخب، نراقب الأرواح المتنقلة بانبهار المراهقات القادمات من الخليج لتوّهن.

750.png

أعلم أنّ الكثيرين من محبّي وعاشقي "زياد" سيعتبرون أنّ الاكثار من المقولات والتّحليلات الفكريّة، وأنّ الاكثار من الفلسفة والتّفلسف – إن جازت هذه التّعابير كلّها - في ما يخصّ هذا الرّمز الفنّيّ والاجتماعيّ - اللّبنانيّ والمشرقيّ - الكبير... ليسا مناسبَين ربّما لما يُفضّله ويُحبّه الرّجل نفسه من جهة، وليسا مناسبَين في ما يعني المزاج اللّبنانيّ الشّبابيّ العامّ من جهة ثانية.

film-amerci.jpg

كثيرون اعتمرتهم الدهشة وانبعثت من دواخلهم تساؤلات لا أول لها ولا آخر، وهم يتابعون البيانات والمواقف الناعية للراحل زياد الرحباني الصادرة عن حزب الله ونوابه ووسائل إعلامه، وإذ تساكنت الدهشة والحيرة في سابقة غير معهودة لدى الحزب كما يتساءل المتسائلون، إلا أن تساؤلاً واحداً تقدم على غيره ومضمونه: كيف ينعي حزب الله فناناً وموسيقياً ونصيراً لعقيدة مناقضة لعقيدته ومغايراً في الدين والمذهب؟

800-32.jpg

لم يبدأ وعي زياد الرحباني بالعدالة من كتابٍ أو محاضرةٍ أو برنامج سياسي. بدأ من نافذة سيارة. هناك، في صباحٍ ماطر، كان الطفل زياد يتأمل طفلًا آخر يقاربه في العمر، يستعطي على الرصيف تحت المطر. التناقض الصارخ بين المشهدين — دفء السيارة المخصصة لنقله إلى المدرسة وبرودة الإسفلت تحت جسد الطفل الآخر — أيقظ سؤالًا مبكرًا عن مصائر البشر: لماذا هو هناك وأنا هنا؟ ومن يرسم هذه الحدود التي تفصل بين مصائر الأطفال قبل أن يختاروا حياتهم بأنفسهم؟

800-30.jpg

نحبّ زياد لأنه يذكرنا بإنكساراتنا لا بإنتصارتنا- هذا إن وجدت – ولا سيما عند جيلنا، جيل الثمانينيات الذي وُلدَ في خضمّ انهيار النموذج السوفياتي. نرى فيه تماثلاً مع حالتنا كأفراد مسحوقين في نظام وضع كل قيوده لأجل خنقنا. نحبُّ زياد الرحباني لأنه يُذكرنا بذواتنا المسروقة ومجتمعنا الغارق في الاستهلاك حتى الثمالة.. لهذا كله، تحب الناس زياد الرحباني.

801-1.jpg

لم يكن زياد الرحباني يومًا فنانًا عابرًا في المشهد اللبناني، ولا مبدعًا يختبئ خلف الأسلوب أو الظرف أو حتى السلالة الفنية. بل كان دائمًا صانعًا لنمط خاص من المعرفة الفنية، متجذّرة في تفاصيل الحياة اليومية، ومشبعة بفهم نفسيٍّ وثقافيٍّ عميق للواقع الذي يعيشه ويعيد إنتاجه. من هنا، لا تُقرَأ أعماله بوصفها تعبيرات جمالية فحسب، بل كـنظامٍ معرفيّ متكامل ينشأ من الذات وينفذ إلى بنية المجتمع.

madi.jpg

لم يصمت رضا الكرعاني بعد «صمت الجبال»، بل واصل تأكيد حضوره الأدبي من خلال روايته الثانية «النهر الحزين». وبين الصمت والحزن هناك جبال وهناك نهر. نهرٌ يحمل أوزار من قذف به الزمن على ضفافه. وكما يُقرأ النص من عنوانه، يعلن «النهر الحزين» عن رواية تستوجب استعداد القارى للقلق الوجداني وتقتضي قدراً من الإسقاط والتحليل لينسجم وقعها مع دلالاتها.