المعرفة Archives - 180Post

@bash_asll_pppa.jpg

لطالما كان النضال من أجل تحرير فلسطين أسير دوامة من الهيمنة الأطلسية والتشتت الفلسطيني والعربي. وما أظهرته حرب الإبادة في غزة من فجوة هائلة بين إرادة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وقدرتها على التأثير الفعلي في مقابل تحركات نشطة وفعالة للشعوب الغربية في وجه الاحتلال، يفرض إيجاد إستراتيجية جديدة لاستنهاض هذه الشعوب.

750-1.jpg

في الاقتصاد، تتقد الشرارة الأولى حين يتحرّك العمل داخل مجتمع يفتح أبوابه للسلعة ورأس المال، فيتشكّل تاريخٌ يمتد من معامل القرن الثامن عشر حتى مصارف القرن الحادي والعشرين. عند هذا الامتداد يُطلّ آدم سميث بروح السوق الحرّة وتخصّص العمل، ويقترب منه كارل ماركس عبر تحليلٍ عميق لديناميات الإنتاج وتحوّل القيمة. يلتقي الاثنان عند فكرة أنّ العامل هو قلب الاقتصاد وأنّ الإنتاج هو الطريق الذي يسمح للمجتمع بالازدهار، ثم تتسع الفجوة بينهما مع اختلاف الرؤية حول توزيع الثروة. ومع تطوّر العالم الرقمي تُشرق منطقة ثالثة لم تظهر في حسابات الرجلين: المال غير الملموس، والربح السريع، والشركات التقنية التي تصنع ثروات عبر برمجيات لا وزن لها إلا عبر أثرها.

750-12.jpg

يتقدّم الجيل الجديد وسط فيض من الرموز التي تتحرك خارج ثبات التعريفات القديمة. العلاقة مع الدولة لا تتخذ شكل يقين، بل تتبدّل كجملة تتراجع علاماتُها نحو الهامش وتبحث عن معنى إضافي في كل سطر جديد. الهوية لا تتجمد، بل تتموّج مثل كتابة تُعاد كل مرة عبر إضافة حرف صغير يفتح باباً لمعنى آخر. هنا، تصبح الدولة نصاً جانبيّاً لا يملك امتياز التفسير النهائي، بل يشارك في حوار تتوزّع ملامحه على أماكن عدة، وتعيد الذاتُ ترتيبَه عبر طبقات متراكبة من التجربة والذاكرة والخيال الرقمي.

750-4-rotated.jpg

في الجزء السّابق، اقترحنا توسيع الزّوايا التّأمّليّة والتّفكّريّة التي يُمكن استخراجها من كتاب "العِلم والعَولمة: قراءة في الأزمة من منظور اقتصاديّ ومعرفيّ"، لكاتبه الدّكتور عبد الحليم فضل الله.. حتّى تشمل عدداً من الأسئلة الأساسيّة والكبرى على مستوى الانسانيّة والعقل الانسانيّ- والذّهن الانسانيّ- ككلّ. ولكي نُراعيَ المساحة المُتاحة لنا، ولكي نُراعيَ المقام كما يُقال، فسنركّز في هذا الجزء الثّاني على الأسئلة المرتبطة بعالم التّأمّل والتّفكّر في الوجود وفي طبيعته. يُمكننا بالطّبع الحديث عموماً عن العَالَم- أو البُعد- الأنطولوجيّ (Ontologique).

800-58.jpg

يستحقّ كتاب "العِلم والعَولمة: قراءة في الأزمة من منظور اقتصاديّ ومعرفيّ"، للباحث في العلوم الاجتماعيّة والاسلاميّة، والمفكّر والعالم الاقتصاديّ اللّبنانيّ المعروف، الدّكتور عبد الحليم فضل الله.. يستحقّ هذا الكتاب ألّا تتوقّفَ محاولةُ نقدِنا له عند مراجعةٍ من النّوع الوَصفيّ. علينا الإقرار واقعاً، وبكلّ أمانة فكريّة وعلميّة، بأنّنا نقف مع هذا الكتاب أمام مجموعة مهمّة وأساسيّة وخطيرة من الأسئلة، التي تتخطّى عمليّات البحث الاعتياديّة في ذاتها والأطر المفاهيميّة الاعتياديّة، لتحاول التّحليق في سماء - أو سماوات - المعضلات والاشكاليّات والتّحدّيات المعرفيّة والأخلاقيّة والمنهجيّة.. وصولاً إلى بعض السّياسيّة والاقتصاديّة منها.

700.jpg

في المجتمعات الحديثة، يُفْتَرَض أنّ التعليم والشهادات العليا تمنح الفرد القدرة على الاختيار ورفع مستوى وعيه. إلا أنّ الواقع يكشف المفارقة الآتية: كثيرٌ من المتعلّمين يواصلون الخضوع للنّفوذ الرمزيّ، الانقياد للجماعات القويّة، أو حتى للميليشيات المحلّية، بينما ينجح آخرون في الخروج عن هذه السيطرة وممارسة استقلاليةٍ حقيقيّة. هذه الظاهرة تثير تساؤلاتٍ أنثروبولوجيةً عميقةً حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، بين التعليم والحريّة، وبين الفرد والمجتمع. فهل يكفي التراكم المعرفيّ وحده ليحمي العقل من الوقوع تحت سلطة الرّموز والأنماط الاجتماعية؟ أم أن هناك عوامل خفية تتحكّم في الانقياد، حتى بين المتعلّمين الأعلى تأهيلاً؟

800-30.jpg

مُخالفة أو دَحض أو نَقض، أو حتّى مُجرّد نَقد.. إيمانويل كانط، لا سيّما من زاوية نظريّته الثّوريّة للمعرفة: هل هي مُمكنة لأناس مثلنا؟ علينا أن نعترف، بكلّ تواضع وبكلّ واقعيّة، بأنّنا هنا أمام "نظريّة كانطيّة للمعرفة" تُمثّل صرحاً فكريّاً انسانيّاً عالميّاً وبكلّ ما لهذه الكلمات من معانٍ خطيرة مُمكنة، وتُمثّل مُفترق طُرُقٍ خطير أيضاً في تاريخ الفكر الإنسانيّ ككلّ، وتُمثّل تحدّياً عميقاً للذّهن الانسانيّ وربّما للعقل الانسانيّ ككلّ أيضاً.. عدا عن كونها تُشكّل قفزة كُبرى بالنّسبة إلى عقلنا العلميّ/التّجريبيّ كبشر (وليس فقط الفلسفيّ البحت إن جاز التّعبير).

800-21.jpg

الهزيمة الحقيقية تتشكّل في الذهن، حين تترسّخ صورة الذات على هيئة مفعول به دائم، قابل للهزيمة. في السياق العربي، يتجذر هذا التكوين في عجز مزدوج: غياب القدرة على فهم الذات بعيون نقدية، وغياب الرؤية المركبة للآخر خارج ثنائية العدو/المخلّص. لا تدور المعركة حول الأرض فقط، بل حول الكيفية التي يُصاغ بها العقل العربي داخل شبكة من المفاهيم المستوردة، والمرجعيات المعلّبة.

eef2fe2d10edf394e18976ea5a27986d.jpg

في كل مشروع استعماري، تتجاوز السيطرة حدود الأرض لتطال اللغة والخيال. تتسلل الهيمنة إلى النظام الرمزي، وتستقرّ في البنية الذهنية عبر مفردات الحياة اليومية، وتعيد تشكيل الإنسان وفق صورة يرسمها المستعمِر. تُنتج الكولونيالية بنية تتغلغل في تفاصيل الذات، وتجعل من الاحتلال منظومة تأويل لا تنتهي.

111111.jpg

في الجزء الأوّل، ذكّرنا بالأطر الفلسفيّة والمفاهيميّة الأساسيّة للطّرح المنهجيّ المنشود إذن، انطلاقاً من دراسة مُعمّقة للطّرح المعرفيّ الجوهريّ لدى الفيلسوف الألمانيّ – وربّما الغربيّ - الأكبر عمانوئيل كانط (ت. ١٨٠٤ م) بشكل خاصّ. أمّا في هذا الجزء الثّاني، فالهدف هو محاولة تقريب وتسهيل فهم هذا الطّرح، الذي نعتقد، فعلاً: أنّه مُجدّد ومُجدٍ، من خلال أمثلة بحثيّة تقريبيّة وتصويريّة.