كان السنّة في لبنان أساسيين ومقررين. مظلتهم الحامية متأتية من مصر جمال عبد الناصر في مواجهة حلف بغداد الإقليمي وعنوانه المحلي كميل شمعون، على أن السنة كانوا يهوون لقب “طائفة العروبة”. وكانوا أقرب إلى منطق الدولة ولم يشكلوا تنيناً سياسياً، حيناً بسبب من تشتت قواهم بين مصر والسعودية، وأحياناً بسبب من شارع غلب عليه منطق “القبضايات”. لكن خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وتحت خيمة منظمة التحرير الفلسطينية، انخرطوا بقوة، وتعددت قواهم العسكرية التي وُلدت من رحم الثورة الفلسطينية وحملت صفات ناصرية واشتراكية ويسارية متعددة، لكن المشهد تبدل بعد العام 1982 وخروج منظمة التحرير من لبنان وسقوط بيروت في شباط/فبراير 1984 بيد حلفاء سوريا، وعلى رأسهم نبيه بري ووليد جنبلاط، وهي اللحظة التي أسست، خلال أسابيع، لإستنفار مذهبي في العاصمة عبرت عنه ظواهر متعددة مثل ظاهرة الشيخ عبد الحفيظ قاسم وظاهرة الشيخ ماهر حمود، وقتذاك، في الطريق الجديدة، ومن ثم حركة 6 شباط برئاسة شاكر البرجاوي، وكلها حاولت وراثة تنظيم “المرابطون” وزعيمه إبراهيم قليلات أول ضحايا السادس من شباط/فبراير 1984، لكن سرعان ما تشتت حضورها، لتفقد هذه الطائفة أنيابها وأظافرها العسكرية، برعاية سورية.
كان التعامل الرسمي السوري عنيفاً مع المدن السنيّة، قبيل إجتياح العام 1982، ولو أنه في مراحل أخرى لم يوفّر طوائف أخرى (حصار الأشرفية وحصار زحلة ومجزرة فتح الله وغيرها). دكّ الجيش السوري طرابلس بالراجمات والصواريخ. قتل رمزاً “نضالياً” هو خليل عكاوي المعروف بـ”أبو عربي”، وهو أحد أبرز قادة حي باب التبانة الشعبي الفقير. كان هذا الشاب مزيجا من نشأة يسارية وحركية اسلامية (تأثر كثيرا حتى بالثورة الخمينية في إيران)، ما أضفى على شخصيته شيئا من الروبن هودية، وبادر إلى إطلاق حركة “المقاومة الشعبية” في مطلع الحرب الأهلية، وتنقل بين “فتح” والحركات الإسلامية (ولا سيما حركة التوحيد)، إلى أن سقط إغتيالاً في طرابلس في شباط/فبراير 1986، بالتزامن مع سلسلة أحداث شهدتها العاصمة بيروت، وتوّجت بحرب المخيمات التي زادت من وطأة الشعور بالفراغ والمظلومية.
وفي ظل السيطرة السورية المُطلقة على الغالب من مساحة لبنان، وقعت اغتيالات طالت عمق الوجدان السني بدءًا من المفتي الشيخ حسن خالد مرورا بالشيخ صبحي الصالح والنائب ناظم القادري. لقد بدت الوقائع أنها تعمل لتؤكد مقولةً فريدةً وخطيرةً في أبعادها:”ضعف سنة لبنان مؤشر لضعف سنة دمشق”، فهل يكفي ما شهدته الجغرافيا والديموغرافيا السنية في لبنان، لتبرير فرح “المظلومية السُنية” بالانفجار الكبير في سوريا في العام 2011؟
عملياً، بكّرت الطائفة السُنية بمغادرة قطار الحرب الأهلية، بخسائرها ومكاسبها، قبل غيرها من الطوائف. عوّض اتفاق الطائف في العام 1989 بعض الخسارة، وأعطي السُّنَّة في الميثاق الوطني الجديد رصيداً سياسيًّا مقبولاً نسبيًّا برعاية سعودية
عملياً، بكّرت الطائفة السُنية بمغادرة قطار الحرب الأهلية، بخسائرها ومكاسبها، قبل غيرها من الطوائف. عوّض اتفاق الطائف في العام 1989 بعض الخسارة، وأعطي السُّنَّة في الميثاق الوطني الجديد رصيداً سياسيًّا مقبولاً نسبيًّا برعاية سعودية، لكنه رصيد من النوع الذي لا يمكن صرفه إلا بالرعاية السورية المُهيمنة والوصيَة برضى وقبول عربييَن. هكذا راهنوا على اتفاق الطائف وعلى رفيق الحريري. وفي المقابل، كان نفوذ “الشيعية السياسية” يتعاظم عسكريًّا مستفيدًا من رعاية سوريا لتطبيق اتفاق الطائف، فتم استثناء سلاح المقاومة من المصادَرة لأسباب أغلبها غير لبنانية، وتُرِكَ لمواجهة إسرائيل وأن توفر لحافظ الأسد ورقة يضعها على طاولته التي كانت تفيض أحيانا بالأوراق التي يعتبرها رابحة، عندما يجلس على طاولة التفاوض الكبرى، من دون إغفال البعد الإيراني، خصوصا وأن الطائف جاء غداة تسوية أنهت صراعاً طويلاً بين طهران ودمشق دفع ثمنه شيعة لبنان حروباً بين أمل وحزب الله، وترك أثراً يتفيأ بظله هذان التنظيمان حتى يومنا هذا.
ولعل أهم ما في اتفاق الطائف، أنه حرّر رئاسة الوزارة (السنية) من وصاية رئاسة الجمهورية (المارونية)، ووضع صلاحية إختيار رئيس الحكومة بيد نواب الأمة. لكن الميثاق والدستور الجديدين وضعا السلطة التنفيذية لدى مجلس الوزراء مجتمعاً. ومع ذلك، تم الترويج لمقولة أن رئيس الحكومة أخذ صلاحيات رئيس الجمهورية، الأمر الذي أثبتت الوقائع عكسه تماماً في فترة الوجود السوري في لبنان، وصولاً حتى يومنا هذا، الأمر الذي أدى إلى استنزاف الدور السنيّ ومحاصرته في مربعات ضيّقة، انعكست نتائجها السلبية على وضع الطائفة السنيّة برمتها، وأوصلت جمهورها إلى الحالة السائدة اليوم من الإحباط، فيما تسجل مؤسسات الطائفة تراجعاً مستمراً في قدراتها، وتقليصاً متزايداً لدورها التربوي والاجتماعي والصحي والرعوي، على ما هو حاصل مع “أم المؤسسات” جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وغيرها الكثير، على قول الصحافي البيروتي العريق صلاح سلام.
الحق أن المظلومية السُنية لم تنبت فجأة. ولادتها مرت بمخاضات كثيرة. لكنها وُلدت قيصرياً تحت وطأة أحداثٍ جلل بمعايير الطائفة. الأكثر إيلاماً ووقعاً كان مشهد سقوط بغداد عام 2003 ومن ثم اعدام صدام حسين وسيطرة “الشيعية السياسية” هناك، ثم مشهد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وبعدها بسنوات اندلاع ما أسمي “الربيع العربي”، ومشاركة حزب الله عسكرياً في الأزمتين السورية والعراقية، وهما أزمتان إرتدتا تسعيراً للنزاع المذهبي بين السُّنَّة والشيعة. كل هذا جعل إيران تبدو وكأنها تستهدف تحويل السُّنَّة في الإقليم من أكثرية ديموغرافية إلى أقلية سياسية بالحديد والنار.
لقد أذّن اغتيال الحريري فعليًّا بانتهاء مرحلة من مراحل اتفاق الطائف. المقتلة الرهيبة التي وقعت بالحريري كانت تعني بداية حصاد الاستثمار في الطوائف. هذه المحطة بدت لـ”أهل السُنة” أنها تطلق مساراً جديداً يستهدف في الحد الأدنى تعديل اتفاق الطائف بالواقع من دون النص. وان من يفعل ذلك هما “شيعةُ حزب الله وموارنة الجنرال ميشال عون”، بحسب التعبير اللبناني، وهي القوى التي لم تكن جزءاً من الطائف في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كما أن إيران لم تكن من رعاته حين إبرامه (1989)، قبل أن يسكت المدفع في العام التالي، ويطل رفيق الحريري على لبنان، في العام 1992، بوصفه “المخلص”، بإمكاناته المالية وعلاقاته الدولية والعربية وتوظيفه هذه الثنائية (الإمكانات والعلاقات) لمصلحة لبنان وسوريا في آن معاً.
شكّل رفيق الحريري إستثناء في الوجدان السني طوال عقد ونيف من الزمن. إستثناء لبناني، كما في الكثير من عواصم القرار الدولي والعربي.. كان هذا مفيداً لتورم وهم “القوة السنية” التي كرّسها اتفاق الطائف. صحيح ان هذا الاتفاق رعته السعودية وبإدارة وسيطة جسدها رجل الاعمال رفيق الحريري. لكن بالوقائع السياسية، فقد كان الطائف ـ لقاءً واتفاقاً ـ نتاج دماء غزيرة سالت من أجساد المسيحيين والشيعة والدروز. تقاتل هذا الثلاثي المستطير أسّس لاتفاق الطائف. والأساس الأولي كان في الإتفاق الثلاثي برعاية دمشق التي ستدير البلد خمسة عشر عاماً لتخرج على دماء رفيق الحريري.
ما حصل أظهر أن جمهور الطائفة السنية هو الأكثر تمرداً. كأنهم فقدوا الصلة مع زعمائهم. يئسوا من الوعود والخطابات. ويئسوا من إظهار خياراتهم السياسية دائماً على أنها خيارات إنتخابية ـ مالية. ويئسوا من أن أصواتهم عرضة للبيع والشراء في المزادات الإنتخابية التي يخوضها أثرياء السُنة، وهم في العموم أثرى أثرياء لبنان
بهذا المعنى، شكّل اغتيال الحريري إعلاناً حاسماً عن تبدل موازين القوى لكن من دون أن تستقر بعد. ولا يبدو ان التعويل على استقرارها في المدى المنظور سوى ضرب من الهذيان. السنة يشعرون أن حرباً عالمية تُشن ضدهم، ليس في لبنان بل في كل المنطقة. تراجع دور المملكة العربية السعودية وضعف المنظومة الخليجية، وفي المقابل، تقدم المنظومة الإيرانية وإنتعاش حلفاء طهران من اليمن إلى فلسطين مرورا بالعراق ولبنان، هذه كلها عوامل فاقمت الإحباط في الشارع السني اللبناني. النموذج السوري كان وقعه قاسياً. ثمة إزدواجية لبنانية في التعاطي مع المقاتلين في سوريا. إذ سكتت الدولة عن تدخل حزب الله العلني هناك. وراحت تطارد المقاتلين السنة الذين سبقوه إلى سوريا. تعليل السلطة لسكوتها هو ما اعلنه حزب الله نفسه من أنه يحمي لبنان، وصار كل من يقاتل في سوريا ضد النظام، إرهابياً، سواء شارك عن قناعة أو غريزة أو جُنّد بالمال.
أفضى المشهد السوري ـ اللبناني إلى بروز جماعات سلفية متطرفة مثل حركة الشيخ الصيداوي أحمد الأسير الذي استسهل الدعوة إلى تسلّح السُنّة لموازنة قوة حزب الله ومواجهة هيمنته. وسلكت الحركات السلفية في طرابلس (الشهال، الرافعي، حبلص وغيرهم) السبيل نفسه. هذه الجماعات أو المجموعات المتطرّفة، لم تستطع، وبرغم محاولتها تضخيم حجمها، تعبئة الطائفة السنّية اللبنانية للاصطفاف خلفها. بنتيجة ذلك، فشل السلفيون والمتطرّفون السنّة المحليون في استبدال القيادة السنّية المعتدلة في لبنان أو اكتساب الدعم الشعبي على الصعيد الوطني. ثمرة هذه الحركات المتطرفة الزج بمئات الشبان السنة في السجون، بعضهم لسبب وجيه، وغيرهم على الشبهة. وكان سهلاً التشهير بهم بتهمة الارهاب وما رافق ذلك من احداث وصدامات في طرابلس وعرسال وصيدا. وللأسف لم تلق هذه التطورات اهتماماً جدياً من قادة السُنة، ولو حصل ذلك، لكان تم إستدراك الكثير من “المظلومية” الحالية.
الصدع السنّي- الشيعي غالباً ما يُعتبر في التاريخ الحديث من أهم الانقسامات في المجتمع اللبناني. لكن الفجوة الاجتماعية في البيئة السُنية تستدعي وقوفاً متمادياً لتبيان حقيقة الفجوة الكبرى في هذه البيئة الأهلية. الحديث هنا عن الفجوة المتنامية بين المحظوظين من ذوي الامتيازات وبين الفقراء مُهمة بالقدر نفسه، إن لم يكن أكثر. وهذا تجلّى بقوة خلال انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر. إذ شكلت ساحة عبد الحميد كرامي موئل التحركات وسميت طرابلس “عروس الثورة”. فالمدينة المتوسطية توصف بأنها الأكثر فقراً في العالم، وفي الوقت نفسه، تحتضن أثرى اثرياء الطبقة الحاكمة في لبنان. ما حصل أظهر أن جمهور الطائفة السنية هو الأكثر تمرداً. كأنهم فقدوا الصلة مع زعمائهم. يئسوا من الوعود والخطابات. ويئسوا من إظهار خياراتهم السياسية دائماً على أنها خيارات إنتخابية ـ مالية. ويئسوا من أن أصواتهم عرضة للبيع والشراء في المزادات الإنتخابية التي يخوضها أثرياء السُنة، وهم في العموم أثرى أثرياء لبنان.
ان كانت المظلومية السُنية مضبوطة إلى الآن بقدر من التوتر النائم، يبقى أنها مفتوحة على أخطار شتى منها وعليها في وطن تاريخه كله ملون بالدم. لننتظر 17 تشرين الجديد، وهو على الأبواب. حتماً لن يشبه سلفه، بل سيكون ملوناً، وسيترك تداعيات كبيرة في شارعين لا ثالث لهما: الشارع المسيحي حيث تتسع المساحة الوسطية أو الرمادية، بتراجع الحالة العونية وعدم تقدم الآخرين؛ والشارع السني المرشح أن يكون ولّادة حالات جديدة مختلفة عن تلك التي عرفناها طيلة خمسة عشر عاماً مضت على مقتلة رفيق الحريري.
الحلقة الأولى: السنة.. مرض الأمة ومظلومية الطائفة https://180post.com/archives/10288
الحلقة الثانية: مظلومية السنة.. مشقة الزعامة https://180post.com/archives/10368
الحلقة الثالثة: المظلومية السُنية: إرباك وارتباك https://180post.com/archives/10439
الحلقة الرابعة: الإسلام السني المعتل بالحداثة والأصولية: https://180post.com/archives/10530