تكاد تلخص صورة واحدة الجو العام، الذى ساد وقائع المؤتمر، من دون أن تعكس تعقيدات وحسابات وظلال ما يجرى فى الكواليس.
تجاوزت الحفاوة التى استقبل بها أمير دولة قطر «تميم بن حمد آل ثانى» أية أعراف وتقاليد معتادة، أو غير معتادة، فى استقبال رؤساء الدول حين وقف ولى العهد السعودى «محمد بن سلمان» عند سلم الطائرة مرحبا بصوت عال دوى فى المكان: «نورت المملكة»، قبل أن يتعانقا كصديقين حميمين باعدت بينهما الأيام.
بدت الصورة بأجوائها ورسائلها أقرب إلى إعلان مبكر عن طى صفحة الخلافات بينهما دون أن يكون مؤكدا أن الأطراف الأخرى فى الأزمة تتبنى الموقف نفسه.
باستثناء الترحيب بفكرة المصالحة نفسها تبدت تساؤلات عن حدود الاتفاق والاختلاف بين الدول الأربع: «السعودية» و«الإمارات» و«البحرين» و«مصر»، التى تشاركت في ما كان يطلق عليه «التحالف الرباعى» فى الأزمة مع «قطر»، التى امتدت لأكثر من ثلاث سنوات.
كان مستوى تمثيل دول التحالف تعبيرا عن أزمة مكتومة.
شاركت مصر بوزير خارجيتها «سامح شكرى»، ذهب إلى «العلا»، وقع بيانها، ثم غادر دون أن يحضر أعمال القمة.
وشاركت الإمارات بنائب رئيس دولتها لا رجلها القوى «محمد بن زايد»، الحليف الرئيسى للسعودية فى ملفات إقليمية عديدة، أخطرها الحرب فى اليمن.
كان ذلك نوعا من الاعتراض على ما جرى فى «العلا»، وانفراد السعودية بالقرار ووضع الحلفاء الآخرين أمام الأمر الواقع.
وشاركت البحرين بولى عهدها وغاب الملك «حمد بن عيسى آل خليفة»، الذى اعتاد احتذاء الموقف السعودى بكل الأزمات والمواقف.
كان ذلك لغزا مستجدا.
قيل إنها «قمة المصارحة والمصالحة»، دون أن تكون هناك مراجعات جرت للأخطاء المتبادلة، أو مصالحات حدثت وفق التزامات محددة
تبدت فى تلك الشروخ تساؤلات يصعب تجاهلها بالإنكار حول مستقبل المصالحة بالطريقة التى جرت بها.
برغم الترحيب الشعبى فى دول الخليج بالتوجه إلى المصالحة، فإنها لا تقوم على أسس صلبة ومرجعيات موثوقة.
ما حدود المصالحة التى جرت، التزاماتها وآلياتها؟
كان ذلك سؤالا ضاغطا على الأعصاب المشدودة فى الإقليم وحسابات القوى المتنازعة.
وفق ما أعلن رسميا لتفسير غياب المرجعيات والآليات فإن الإرادة السياسية سوف تتكفل بتجاوز الملفات الشائكة.
لم تكن هناك إجابة أخرى، كأن كل شىء معلق على النوايا والعبارات الإنشائية، التى أسرفت فى إسباغ أوصاف «التاريخية» على القمة.
قيل إنها «قمة المصارحة والمصالحة»، دون أن تكون هناك مراجعات جرت للأخطاء المتبادلة، أو مصالحات حدثت وفق التزامات محددة.
من حيث المبدأ العام فإن فكرة المصالحة إيجابية ولا يصح لعاقل واحد أن يرفضها شرط أن تقف على أرض صلبة.
أعلن وزير الخارجية السعودى «فيصل بن فرحان» أن الأزمة طويت والعلاقات الكاملة سوف تستأنف.
هكذا دون حيثيات تشرح وتوضح الخطوات التالية، ولا كيف تحفظ المصالحة قدرتها على المضى قدما.
بدا ممكنا للطرفين الرئيسيين فى القمة، «السعودية» و«قطر»، أن يحتفيا بنجاح المصالحة، دون أدنى تطرق إلى قدر وطبيعة التفاهمات، وما إذا كانت قطر قد التزمت بكل أو ببعض الاشتراطات الثلاثة عشر التى أعلنت عند مقاطعتها، أم أنها قد سحبت نهائيا من على طاولات التفاوض.
ما الذى حدث بالضبط؟ وكيف تمت المصالحة؟
باليقين بذلت الكويت جهدا دبلوماسيا مضنيا فى محاولة تطويق الأزمة الخليجية، لكنها لم تكن الطرف الذى قرر التوقيت وحدد المخرجات.
كان حضور «جاريد كوشنير» صهر الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته «دونالد ترامب» أعمال القمة، كراع للمصالحة مثيرا للتساؤلات، فـ«ترامب» نفسه سوف يخرج من البيت الأبيض بعد أقل من أسبوعين، مهما اشتط فى التشكيك بنتائج الانتخابات الأمريكية.
لماذا الآن؟
إحدى الإجابات شبه المتماسكة: إحكام الحصار على إيران بتخفيض العلاقات القطرية معها إلى أدنى درجة ممكنة قبل دخول الرئيس المنتخب «جو بايدن» البيت الأبيض يوم (20) يناير/كانون الثاني المقبل.
بالتكوين الفكرى والأيديولوجى، فإن «كوشنير» صهيونى متعصب لعب دورا كبيرا بجوار «ترامب» فى صياغة استراتيجيته لإنهاء القضية الفلسطينية بالتوسع الاستيطانى في ما يعرف بـ«صفقة القرن»، أو «سلام القوة».
هناك خشية إسرائيلية من أن يعيد «بايدن» إحياء الاتفاق النووى، الذى انسحبت منه الولايات المتحدة كمدخل لترميم علاقاته مع الحلفاء الأوروبيين، التى تضررت بقسوة فى ولاية «ترامب».
باعتقاد «بايدن» فإن الاتفاق النووى «يفرمل» أى مشروع نووى إيرانى مفترض تخشاه إسرائيل وتحرض ضده.
الاختبار الإعلامى وسؤاله: إلى أى حد يمكن أن تؤسس المصالحة بالطريقة التى جرت بها، والحسابات التى حكمتها، لهدنة طويلة المدى، تستبعد التحرشات السياسية ولغة التحريض والتفلت اللفظى
بقوة الحقائق الماثلة فإن إسرائيل تفضل العمل العسكرى، لكنها غير مستعدة أن تتحمل وحدها أكلاف المواجهة مع إيران، والولايات المتحدة غير مستعدة للدخول فى أية مغامرات عسكرية فى لحظة تسليم سلطة.
هكذا تتداخل فى الحسابات الإسرائيلية قضيتان على درجة عالية من الخطورة.
أولاهما ــ حصار إيران بالخنق إلى أقصى درجة يمكن الوصول إليها حتى تنهار من الداخل وفق السيناريو الذى اتبعه «ترامب».
وثانيهما ــ إقناع مزيد من الدول العربية بالمضى قدما فى التطبيع، أو الانتقال بالعلاقات من السر إلى العلن، لمواجهة «العدو الإيرانى» المشترك.
بالحسابات القطرية فإنها حازت اختراقا يعتد به فى علاقاتها بمحيطها الخليجى، رفع الحصار عنها مقابل التنازل عن قضايا رفعتها على دول التحالف الرباعى، التى دأبت على وصفها بـ«دول الحصار والمقاطعة».
وبالحسابات السعودية فإنها اكتسبت نقاطا جديدة فى تطلعها للعب أدوار أكبر فى الإقليم، قد تساعدها فى تخفيض أية ضغوط محتملة من إدارة «بايدن».
سيناريوهات ما قد يحدث فى اليوم التالى أكثر تعقيدا مما هو ظاهر على السطح.
إيران حاضرة بقوة وتركيا تترقب النتائج لعلها تحصد انفراجا فى علاقاتها بالخليج.
هناك الآن اختباران عاجلان لـ«إعلان العلا».
الأول، قدر الالتزام بالروح العامة التى انطوى عليها دون أن تكون هناك مرجعيات وآليات تلزم على الطريقة العربية المعتادة بـ«تبويس اللحى».
الثانى، الاختبار الإعلامى وسؤاله: إلى أى حد يمكن أن تؤسس المصالحة بالطريقة التى جرت بها، والحسابات التى حكمتها، لهدنة طويلة المدى، تستبعد التحرشات السياسية ولغة التحريض والتفلت اللفظى.
هذه مسألة تحوطها صدامات قوى ومصالح واستراتيجيات تجعل فكرة المصالحة فى أفضل الأحوال أقرب إلى الهدنات الهشة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“