في 29 كانون الأول/ ديسمبر، راسلت وزارة المالية شركة “ألفاريز أند مارسال”، وذلك غداة صدور تعديل قانون السرية المصرفية في الجريدة الرسمية، سائلة إياها عن إمكان استئناف مهمة التدقيق الجنائي بعدما كانت قد أبدت في رسالة سابقة إستعدادها للمضي في عملها في ضوء التطورات المستجدة.
ردت شركة “الفاريز” في 6 كانون الثاني/ يناير الحالي برسالة تضمنت 4 أسئلة استيضاحية توحي بأنها لم تجد بعد ضمانة كافية للوصول الى المعلومات اللازمة للتدقيق. والاستيضاحات هي الآتية:
أولاً، هل القانون الذي أقره مجلس النواب بتاريخ 21 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وعلّق بموجبه العمل بالسرية المصرفية لمدة سنة، ينطبق على حسابات المؤسسات الخاصة (المصارف مثلاً) في مصرف لبنان بحيث يمكن رفع السرية عنها؟
ثانياً، ماذا عن استعداد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، هذه المرة، للرد على كامل الأسئلة التي سبق ووجتها الشركة إليه عبر وزارة المالية بتاريخ 20 تشرين الأول/ اكتوبر 2020، فهل سيقدمها بناء على تعديل قانون السرية؟
ثالثاً، هل أصبح ممكناً للشركة الدخول الى مصرف لبنان والحصول على مكتب فيه والولوج الى انظمة التدقيق المحاسبي لديه؟
رابعاً، هل سيوافق مصرف لبنان على إطلاع “الفاريز” على آليات وهيكليات العمل التنظيمي في المصرف المركزي وقواعد الحوكمة المعتمدة فيه، اذ كان سبق للشركة أن طلبتها ولم تحصل عليها، وترغب الآن بأجوبة واضحة حولها من الحاكم شخصياً.
بناء عليه، نشطت المراسلات الرسمية في اليومين الماضيين لا سيما من جهة وزير المالية غازي وزني باتجاه كل من رئاستي الجمهورية وحكومة تصريف الأعمال وحاكمية مصرف لبنان لنقل تلك الاستيضاحات والعمل على تذليل العقبات وتسهيل بدء التدقيق.
ومن وحي الاستيضاحات التي طلبتها “ألفاريز”، يبدو أن القانون الذي أقره مجلس النواب ليس مفتاحاً سحرياً لمغاليق السرية التي تسلح بها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لإقفال أبواب التدقيق في مصرف لبنان وصولاً إلى إعلان الشركة عدم حصولها على ما تريد من معلومات لتنفيذ العقد الذي وقعته مع لبنان في 30 آب/ أغسطس 2020 وانسحبت منه بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر. ولا ترى الشركة بعد في تعديل قانون السرية المصرفية بتاريخ 21 كانون الأول/ ديسمبر ضمانة كافية للوصول الى المعلومات التي تطلبها لزوم التدقيق.
وللتذكير، ينص تعديل القانون العتيد على “رفع السرية عن كل الحسابات التي تتعلق بعمليات التدقيق المالي و/أو الجنائي، التي قررتها وتقررها الحكومة، على حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والصناديق والمؤسسات العامة، وذلك لمدة سنة، أياً تكن طبيعة هذه الحسابات، لمصلحة القائمين بالتدقيق حصراً، على أن تبقى أحكام قانون السرية المصرفية سارية في كل ما عدا ذلك”.
ماذا إذا رفضت شركة “الفاريز” في ضوء الأجوبة الرسمية اللبنانية على أسئلتها الأربعة، إستئناف مهمتها وبالتالي الإنسحاب كلياً من لبنان، ومن هي الشركة التي يقول مقربون من رئيس الجمهورية إنها أعطت موافقة أولية على مهمة التدقيق؟
ما طرحته “الفاريز” يعني أن القانون لم يقنعها في ما اذا كانت حسابات المصارف في مصرف لبنان عرضة لكشف السرية عنها بموجب التعديل الذي أقره البرلمان اللبناني. ولأجل قطع الشك باليقين، طلبت شركة “ألفاريز أند مارسال” استيضاحات بديهية لم تغب غداة اقرار التعديل عن شكوك قانونيين وماليين ومصرفيين وصحافيين وحتى سياسيين في لبنان. لذا، ثمة حاجة إلى مرجع قانوني مختص للافتاء، ما يعني مزيداً من الوقت الإضافي المعوق للمباشرة فوراً بالتدقيق.
وإذا حصلت الشركة على اجابات شافية كما تريد، فهل يستمر العمل معها بموجب العقد القديم، أم أن عقداً جديداً سيوقع معها، وبأية قيمة؟ وهل مدة سنة (تتناقص كل يوم منذ 29 الشهر الماضي) كافية للتدقيق في عشرات الجهات التي وردت في تعديل القانون، أم أن البداية في البنك المركزي والبقية تأتي لاحقاً؟
والجدير ذكره أن كلمة “بالتوازي” الواردة في نص التعديل توسع مهام الشركة لتشمل التدقيق في عدة جهات حكومية وعامة ومستقلة ومجالس وصناديق.. ما يستدعي تعديل العقد وبكلفة أكبر تتطلب تفويضات وموافقات رسمية استثنائية لأن الحكومة الحالية مستقيلة.
وبالعودة الى ما طلبته “الفاريز أند مارسال” من إيضاحات، فان رياض سلامة، وفي أحاديث لعدة محطات تلفزة بعد تعديل القانون، أكد أنه سبق وأعطى الشركة ما طلبته، أي انه متمسك بصوابية ما فعل في وقت أكدت فيه “الفاريز” انها لم تتسلم إلا 45 في المائة من الأجوبة على اسئلتها، تتضمن عملياً 15 في المائة فقط من الأجوبة الحقيقية!
أما بشأن الحصول على مكتب في مصرف لبنان، فقد يتحجج الحاكم مجدداً بأن العقد ليس موقعاً مع مصرف لبنان، وبالتالي على الجهة المتعاقدة معها توفير مكاتب لها (أي البقاء في وزارة المالية).
الى ذلك، ثمة اشكالية “عويصة” في ما تطلبه الشركة عن آليات العمل التنظيمي في مصرف لبنان وقواعد الحوكمة فيه، والتي سبق ورفض رياض سلامة تزويد الشركة بمعلومات حولها بحجة انتهاكها قانون النقد والتسليف. فهل بتنا أمام معضلة جديدة يتطلب حلها تعديل ذلك القانون بعدما تعدل قانون السرية المصرفية بصعوبة شديدة، وكم من الوقت سيستغرق التوافق على اقرار التعديل الجديد المطلوب لقانون النقد والتسليف؟ وماذا إذا رفضت شركة “الفاريز” في ضوء الأجوبة الرسمية اللبنانية على أسئلتها الأربعة، إستئناف مهمتها وبالتالي الإنسحاب كلياً من لبنان، ومن هي الشركة التي يقول مقربون من رئيس الجمهورية إنها أعطت موافقة أولية على مهمة التدقيق ومن هي المصادر التي ستعتمد عليها الشركة الجديدة لأجل تطوير “داتا” المعلومات التي تحتاجها.. وهي حتماً خارج لبنان؟
خلاصة القول، أن المعركة القانونية لم تنته فصولاً، وليس مسموحاً بسهولة بعد كشف مصير 70 الى 80 مليار دولار تعود للبنوك وبالتالي المودعين؟ ولماذا ينكر مصرف لبنان وجود تلك “التوظيفات” (ودائع الناس) لديه في الوقت الذي تؤكد جمعية المصارف عكس ذلك؟ بالاضافة الى صعوبة كشف المسؤوليات الخاصة بخسائر مصرف لبنان والفجوة الهائلة في حساباته بنتيجة سياساته النقدية.
الأجوبة المنتظرة ليست بسيطة، لأن عليها تبنى كل نظريات مصير أموال المودعين او توزيع خسائرها، بالإضافة إلى كشف طبيعة الهندسات المالية التي أفادت منها المصارف وبعض عملائها بمليارات الدولارات على حساب المال العام؟ ومن هي الجهات التي حولت أموالاً بالمليارات الى الخارج بعد 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2019 ولماذا الاستنسابية فيها؟ كما أن الوصول الى حسابات المصارف في مصرف لبنان قد يفتح الباب على ضرورة الوصول الى حسابات عملاء المصارف إذا أرادت الشركة التوسع في التحقق من شبهات قد تجدها هنا وهناك.
والقطبة المخفية الحائلة دون فتح أبواب الشفافية على مصراعيها تكمن في ان المشرعين استسهلوا “أرنب” التدقيق في كل جهات الدولة ونصوا على ذلك بالتفصيل الممل في تعديل قانون السرية، بينما طمسوا، او تجاهلوا ضرورة وضع إيضاح واحد من كلمتين في ما خص حسابات المصارف.
وتسقط الغرابة عندما نعلم أن كل حسابات الدولة وجهاتها التابعة أقرت في موازنات واعتمادات في المجلس النيابي ويراجعها ديوان المحاسبة، أما هدرها في سياسات عبثية، وفسادها بالإثراء غير المشروع، فلا يظهران جلياً إلا في حسابات الأفراد والبنوك التي أؤتمنت مع مصرف لبنان على كل الأسرار التي لن يسمح أحد في هذا “النظام المسخ” بفضحها.. وإلا فعلى النظام السلام!