لبنان: نظام ضريبي يُحابي الرأسماليين.. ويَحدُل الفقراء

ينسب إلى الملياردير الأميركي وارن بافت قوله:"عندما ينحسر مد البحر ينفضح من كان يسبح عارياً"! وها هو المد المالي اللبناني الفقاعي ينحسر لينكشف النظام برمته، فاضحاً أسوأ أشكال الظلم الاجتماعي المتمادي في تاريخ لبنان الحديث.

المشهد سوريالي: ينغمس الساسة والزعماء، ومن لفّ لفهم من حزبيين وطائفيين وإعلاميين في لعبة تراشق اتهامات يومية حول مسؤوليات إنسداد الأفق الحكومي، ويجرون في عربات خطابهم الفئوي شرائح واسعة من المسكونين بهواجس موروثة من الحروب والانقسامات الأهلية الحادة. وقلما نجد بين المتبارين الأشاوس من لا يحاول التعمية على حقيقة متفجرة يفترض أن لها الأولوية المطلقة على ما عداها، وهي الفقر المتفشي بسرعة خيالية والمرتفع بنسبة 183% في سنة واحدة فقط وفقاً لتقارير “الإسكوا”، وتفاقم اللاعدالة الاجتماعية على نحو يضع لبنان بين الأسوأ في العالم في التقارير عينها. في الأثناء، يجتهد المتلهون بالسياسة الزواريبية للتنصل من النتائج الكارثية التي خلفتها سياسات شارك فيها جميع المتسلطين (بشكل أو بآخر) سواء من 1992 حتى 2005 أو من 2005 حتى تاريخه.

***

واذا كان الفساد مختلفاً عليه، ويشكل فتح ملفاته توازن رعب بين الجميع المتورط فيه، فان فشل كل أو معظم من توالى على السلطة ومفاصلها، سافر فاقع في بلد بات يستجدي المجتمع الدولي لاطعام فقرائه.

***

ومن الأمثلة الصارخة الماثلة للعيان يومياً، والمتفاقمة بسبب أزمة كورونا وما تفرضه من حجر وصرف من الخدمة بسسبب الأزمة الاقتصادية، أزمة المياومين الذين تقدر وزارة العمل نسبتهم إلى اجمالي القوى العاملة بنحو 50%، يعملون في قطاعات مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والمصالح المستقلة في القطاعين العام والخاص، فضلاً عن سائقي سيارات الأجرة وصيادي الأسماك وعمال الورش على انواعها الزراعية والصناعية والعقارية والانشائية والخدمية. وتلك النسبة تعني أن نحو 800 ألف أسرة  يجتاحها  تهديد الفقر والعوز ولا تتمتع بأبسط  التقديمات الاجتماعية، وليس لها أي تعويضات نهاية خدمة.

بدورها، لا تخفي وزارة الشؤون عجزها أمام هذا الواقع المأساوي، وتعترف بلسان مسؤوليها بأن الأزمة كشفت أن لبنان فاقد لأية شبكة أمان اجتماعي، وليس أمامه إلا الاقتراض والبحث عن مساعدات لسد بعض رمق الفقراء، لأن السلطة لم تحسب حساباً ليوم مثل هذا الرهيب!

***

انفقت حكومات لبنان 350 مليار دولار منذ ما بعد الطائف (منها 95 ملياراً ديناً عاماً) لكنها عجزت، و/أو تقاعست، عن انشاء صندوق للبطالة وآخر للشيخوخة ولو بنسبة نصف في المائة فقط من تلك المليارات لتغطية حاجات العمال وتجنيبهم شر العوز عند الصرف من الخدمة او فرض الحجر،  وللحفاظ على ماء وجه كبار السن من التسول او انتظار الاعاشات والمعونات الهزيلة والمهينة للكرامة الانسانية.

***

لم ينتهكوا الدستور (اتفاق الطائف) سياسياً فقط، بل اجتماعياً وانسانياً واخلاقياً أيضاً. ففي مقدمة الدستور بند يفرض ضرور “ارساء عدالة اجتماعية شاملة من خلال الاصلاح المالي والاقتصادي”. بيد ان الانتهاكات على هذا الصعيد الحيوي لا تعد ولا تحصى، وليس أقلها العجز عن التغطية الصحية المناسبة الشاملة والمنظمة لجميع اللبنانيين على حد سواء وانشاء نظام لضمان للشيخوخة. عجزوا عما هو أبسط من ذلك مثل اجبار القطاع الخاص على  تسجيل كل عماله وموظفيه في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي لا يغطي الا ثلث اليد العاملة فقط، لا بل تواطأوا مع أرباب العمل لتسجيل أدنى رواتب ممكنة للمضمونين هرباً من دفع الاشتراكات المناسبة وفقاً لشرائح الأجور.

***

أكثر من ذلك وأشد خطراً هو تجنب زيادة الضرائب على الأكثر ربحاً وملكاً للثروات وحيازة للأصول، مقابل زيادة الضرائب غير المباشرة على عموم المستهلكين  مثل ضريبة القيمة المضافة والرسوم “العمياء” غير المميزة بين الشرائح، والواقع عبؤها الأكبر على اصحاب المداخيل الضعيفة والمتوسطة. والنتيجة أنه خلال العقد الماضي، لم تشكل الضرائب المفروضة على الشرائح الأكثر غنى وضرائب الأرباح التجارية والريوع المصرفية والعقارية على الأفراد والشركات إلا ربع اجمالي الإيرادات الضريبة، مقابل 75% من حصيلة الضرائب غير المباشرة مثل الجمارك والقيمة المضافة وضرائب الاستهلاك والرسوم المختلفة التي تدفعها “العامة” مهما كان دخلها.

بإعتراف وزارة الاقتصاد هناك 8 شركات فقط تهيمن على تأمين 70% من الحاجات الاستهلاكية والغذائية، فضلاً عن كارتيلات الترابة والنفط والأدوية والقمح التي لا يتجاوز عدد اللاعبين فيها والمسيطرين على أكبر حصص سوقية منها 20 شركة وفقاً لسجلات الاستيراد

وحتى العام 2020 شكل لبنان حالة شاذة عالمياً في نسبة الايرادات الضريبية الى الناتج، بمعدل وسطي لا يتجاوز 15 الى 18%  منه، أي نحو نصف ما يجب أن يكون عليه لتحقيق توازن ضريبي نسبي  يبنى عليه طموح توزيع عادل للثروة. كل ذلك بعلم ومعرفة وتواطؤ الحكومات والبرلمانات المتعاقبة. وابلغ دليل تاريخي الحؤول دون زيادة الضرائب المباشرة على الأرباح بشكل نوعي صعوداً خلال حقبات كل الحكومات المتعاقبة في مدى 30 عاماً، واستسهال فرض الضرائب غير المباشرة على العموم، وعدم مكافحة التهرب الضريبي المنظم منه وغير المنظم والذي يحرم الخزينة العامة من إيرادات يمكن اعادة توزيعها على الأكثر حاجة. فالتحصيل الضريبي في لبنان، بالنظر الى قلة الضرائب على الأرباح والريوع من جهة  والتهرب الضريبي من جهة اخرى، لم يشكل في متوسطه العام خلال 10 سنوات حتى 2020 نصف المعدل البالغ 34% في الدول الرأسمالية المنضوية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، والنسبة على سبيل المثال لا الحصر 46% في فرنسا والدانمارك بفضل ارتفاع مساهمة الضرائب على الأرباح والشركات و25% في الولايات المتحدة. أي أن النظام الضريبي في لبنان يحابي الرأسماليين أكثر من أي دولة راسمالية في العالم!

إقرأ على موقع 180  إنفجار بيروت بعيون تل أبيب: إبعاد الحرب أم إقترابها؟

والأنكى ان اللاعدالة الضريبية في لبنان تمييزية بين ارباح قطاعات وأخرى. فالعقاريون والمصرفيون واصحاب الرساميل والودائع الدسمة الغانمة بالفوائد  المليارية محظيون تاريخياً، مقابل حوافز أقل بكثير للصناعيين والزراعيين.

***

في الموازاة، تكرست الاحتكارات في معظم القطاعات. فباعتراف وزارة الاقتصاد هناك 8 شركات فقط تهيمن على تأمين 70% من الحاجات الاستهلاكية والغذائية، فضلاً عن كارتيلات الترابة والنفط والأدوية والقمح التي لا يتجاوز عدد اللاعبين فيها والمسيطرين على أكبر حصص سوقية منها 20 شركة وفقاً لسجلات الاستيراد والانتاج الرسمية.

***

وفي القطاع المصرفي مثال صارخ أيضاً على الهيمنة التي يمارسها تحالف السلطة والمال على حساب كل الآخرين. وآخر ابداعات ذلك الحلف “المقدس” النجاح في تأخير اقرار ضبط التحويلات (كابيتال كونترول)، والمماطلة في إعادة هيكلة القطاع المقترحة على حساب واحد في المائة فقط من المودعين لانقاذ مدخرات أكثر من مليوني مودع صغير ومتوسط، وعدم المساس بثروات أصحاب المصارف الكبيرة المملوكة من 10 الى 15 عائلة مرتبطة عضوياً بالطبقة السياسية وقوى النفوذ الطائفية. لا بل حاولوا تسويق انشاء صندوق سيادي توضع فيه عقارات واملاك ومؤسسات وشركات عامة تشكل ضمانة للمصارف واصحابها وكبار مودعيها رداً على اعلان الدولة توقفها عن دفع سندات “اليوروبوندز” ونشر خطة لتوزيع الخسائر اثارت حفيظة اصحاب الرساميل.

***

وتؤكد دراسات “الإسكوا” والبنك الدولي ان لبنان بين أسوأ 20 دولة في العالم من حيث عدم المساواة في توزيع الثروة. ففي 2019، كان أغنى 10% من اللبنانيين يملكون 71% من مجموع الثروات الشخصية، وهذا أسوأ من الولايات المتحدة الاميركية المتهمة بجشع رأسمالييها. وأكد تقرير لصندوق النقد الدولي في 2017 أن 1% من المودعين اللبنانيين يملكون أكثر من نصف الودائع، وأن 1% يستحوذون على نحو ربع الدخل الاجمالي، و10% فقط يستحوذون على 57% من إجمالي الدخل الوطني.

***

قد لا يكون لبنان بحاجة لمساعدات وقروض دولية بقدر حاجته الى عدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة وتصحيح اختلالات تركزها في يد القلة القليلة التي لا تتجاوز واحداً في المائة من السكان. لكن الصعوبة تكمن في كيفية فك العرى الموثوقة بين الطبقتين السياسية والثرية وتماهيهما بتواطؤات تحت الطاولة وفوقها تجارياً ومصرفياً وعقارياً وانتاجياً.

***

لا أفق يشي بتحقيق أي عدالة منشودة، فلا المبادرة الفرنسية أتت على ذكر علاج التفاوت الهائل في توزيع الثروة ولا “روشتات” صندوق النقد تعبأ كثيراً بذلك، ليبقى لبنان – اذا قيض له ونهض يوماً – محكوماً بنظام ظالم للسواد الأعظم من سكانه.

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  إبادة جماعية في غزة.. أين القانون الدولي؟