أمام مؤتمر ميونيخ الأمني، قال الرئيس الأميركي جو بايدن في ندوة مشتركة مع المستشارة الألمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون:”سننخرط في محادثات مجموعة 5+1 مع إيران بشأن برنامجها النووي”، لكنه حذّر أيضا مما وصفه “نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”.
العودة إلى ما يعرف بالسداسية الدولية، التي كانت الإطار الذي تفاوض مع طهران خلال العقد الماضي وتوصل إلى الاتفاق التاريخي في تموز/ يوليو من العام ٢٠١٥، هو بحد ذاته نقطة عودة مهمة بعدما كان سلف بايدن، دونالد ترامب، قد أعلن خروج بلاده كليا من الاتفاق. هي نقطة مهمة إذا قيست بما فعله ترامب، لكنها من المنظور الإيراني، تحديدا من وجهة نظر القائد الأعلى آية الله علي خامنئي الذي أكد سابقا، وعاد ونشر من خلال حسابه على انستغرام قبل خطاب بايدن صورة لسبابته وكأنه يوجه أمراً، مصحوبا بمقتطف من خطاب له قبل أيام وفحواه أن شرط إيران الرئيس والذي لا يمكن العدول عنه للعودة العملية للاتفاق النووي تتمثل برفع العقوبات ابتداء والتحقق من أن ذلك ليس على الورق فقط.
بالنسبة لخامنئي المسألة ليست ترفاً دبلوماسيا يمكن الركون إليه للوصول إلى الهدف المرجو، بالعكس تماما، هو يدرك أن اللحظة تحتمل تفاوضاً قاسيا يقوده هو مباشرة بعيدا عما قد يكون جرى أو يجري أو سيجري بين الحكومتين.
يتسلح القائد الإيراني بتذكيره الدائم بأن الأميركيين ليسوا محل ثقة، العبارة التي كررها مراراً وتكراراً قبل وخلال وبعد المفاوضات، والتي جعلته يطلب الكثير من الضمانات للاستمرار في المسار التفاوضي. ليس هذا للقول أن خامنئي لم يكن موافقا على الاتفاق النووي، في نهاية المطاف هو رأس الهرم ولا شيء يمرّ دون معرفته وموافقته، ولو على مضض. لكنه اليوم متخفف من الضغط الذي كان يرزح تحته سابقا للقبول بما قد لا يعجبه أو يتعدى الخطوط التي رسمها لمفاوضيه.
سياسة “الضغوط القصوى” لدونالد ترامب رفعت السقف كثيرا بحيث بات أي شيء دونها، بالنسبة لإيران، عاديا ويمكن أن يمرّ، على قاعدة أنا الغريق فما خوفي من البلل. بالتالي، بات التفاوض بالحدود القصوى من جانب طهران ممكنا بل أن عملية بايدن يبدو وكأنه يساعدها من حيث يعلم أو لا يعلم على استعادة المبادرة تدريجيا، أكان ذلك على المستوى النووي أم على مستوى الإقليم، ومن غير المعلوم أكانت هذه تحفيزات آنية تهدف لبناء سياق لمحادثات جدية، ام أنها نتيجة حتمية للفجوة التي لا يبدو أنها سهلة الرتق بين الإدارة الأميركية الجديدة وحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، ونتحدث هنا بشكل خاص عن إسرائيل والمملكة العربية السعودية. مجددا يحضر ترامب في المشهد من زاوية صناعة ظروف هذا التباعد الذي انعكس على غير مستوى، منها الخطوات الأميركية تجاه حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، رفعهم عن لائحة الإرهاب الأميركية، التواصل معهم بشكل مباشر وغير مباشر، وتأكيد التوقف عن دعم العمليات الهجومية للسعودية والإمارات على اليمن.
مصدر إيراني لـ”جاده إيران”: “المسألة ليست أي إدارة تحكم واشنطن، رفضنا الجلوس سابقا عندما عرض علينا ذلك ترامب، ونرفض اليوم التفاوض على حقوقنا مع بايدن، هناك اتفاق وعلى من انتهك الاتفاق القيام بما يجب عليه القيام به لا الطلب إلينا مساعدته للنزول عن الشجرة، هذه ليست مهمتنا”
بالنسبة لإسرائيل يبدو المشهد أكثر تعقيدا، وما كشفه موقع أكسيوس حول القلق الإسرائيلي من الخطوات الأميركية تجاه إيران، يؤكد مجددا أن الشرخ عميق حول هذه الجزئية وهو يعيدنا إلى مربع الكيمياء المفقودة خلال إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما. فإسرائيل ترى أن سياسة ترامب تجاه طهران كانت ناجعة والتراجع عنها الآن بالعودة إلى أطر المفاوضات سيعطي طهران فرصة لتطوير برامجها المختلفة، أكان باليستيا أو نوويا، وذلك من شأنه أن يرفع من منسوب الخطر الإيراني. المثير للاهتمام هنا أن الاتصال الأول لبايدن بنتنياهو بعد شهر على دخوله البيت الأبيض جاء بالتوازي مع الإعلان الأميركي عن خطوات متلاحقة تجاه إيران من ضمنها، تخفيف القيود السفر عن الدبلوماسيين الإيرانيين وإلغاء الطلب السابق من إدارة ترامب لمجلس الأمن الدولي بإعادة فرض عقوبات على إيران، وأخيرا القبول بدعوة الاتحاد الأوروبي لإجراء محادثات جديدة مع طهران تحت مظلة مجموعة 5+1.
وبين السقف الإسرائيلي الداعي للإطباق على طهران والسقف الإيراني المطالب بخطوات عملية لصناعة ظروف مؤاتية لإنعاش الاتفاق النووي، يبدو الناظم الأميركي الأساسي للمسار مدى الفعالية في تطبيق رؤية إدارة بايدن للمنطقة لا قدر مواءمتها للأطراف الأخرى، لكن واشنطن لا تلعب في مساحة فارغة أو لوحدها أو معزولة عن سياقات متصلة قد تؤدي إلى تداعيات غير محمودة، على العكس تماما، الأدوار الإقليمية لإيران وإسرائيل تساهم في الضغط على واشنطن لأخذ القرار والمضي في اتجاه محدد لأن الانتظار طويلا قد يصبح لاحقا عاملا جديدا من عوامل فقدان المبادرة الأميركية في المنطقة، بل وفي تفجير المنطقة أو على الأقل أخذها إلى مساحة توتر خارجة عن السيطرة.
في لقاء بعيدا عن العدسات بين مسؤول أميركي رفض الكشف عن إسمه وبين مجموعة من الصحافيين، رد المسؤول على اتهامات لإدارته بتقديم تنازلات لإيران بالقول إن ما يجري واقعا هو تنازلات لما يفرضه العقل. مع ذلك، من منظور طهران، لم تخرج الإدارة الأميركية الجديدة بعد من جدلية العربة أم الحصان التي فرضها ترامب في العلاقات بين البلدين، فالجلوس إلى الطاولة كان مطلبا أساسيا لترامب للقيام بأي خطوة مقابلة، هو عينه الطلب الذي نقله رئيس الوزراء الياباني السابق شينزو آبي إلى خامنئي، والرسالة التي اوصلها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في بياتريس في فرنسا على هامش قمة مجموعة السبع في آب/ أغسطس من العام ٢٠١٩. في هذا الإطار، يقول مصدر إيراني لـ”جاده إيران” بشكل مقتضب “المسألة ليست أي إدارة تحكم واشنطن، رفضنا الجلوس سابقا عندما عرض علينا ذلك ترامب، ونرفض اليوم التفاوض على حقوقنا مع بايدن، هناك اتفاق وعلى من انتهك الاتفاق القيام بما يجب عليه القيام به لا الطلب إلينا مساعدته للنزول عن الشجرة، هذه ليست مهمتنا”.
خلال أيام ستوقف طهران التزامها بالبروتوكول الإضافي والذي يسمح لمراقبي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالمزيد من الشفافية حول البرنامج النووي، ويسبق ذلك زيارة مهمة لرفاييل غروسي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى طهران، في الساعات المقبلة، لمحاولة التوصل إلى تسوية مقبولة للطرفين لمواصلة التحقق من سلمية البرنامج النووي الإيراني. نتائج زيارة غروسي سيكون لها انعكاس على مسار الأمور، لا سيما وأن الطرف الأميركي بات على ذات الصفحة تقريبا مع الأوروبيين، وهذا من شأنه أن يضع طهران في موضع الطرف الخارج عن الإجماع من الآن وصاعدا، لا واشنطن.
(*) ينشر بالتزامن مع “جاده إيران“