مصر وحادثة قناة السويس.. تحويل الأزمة إلى فرصة

أتت حادثة تعطل الملاحة في قناة السويس لتزيح جانباً كافة الأخبار والعناوين المتصلة بالصراعات الإقليمية والدولية، لتصبح الحدث الأهم، ضمن مستويات تتجاوز السرديات التقليدية الخاصة بإدارة الصراعات على مختلف المقاييس.

أتت أزمة قناة السويس في سياق تحولات جيوسياسية لا تقف عند حدود الصراع بين الصين وطريق حريرها وبين الولايات المتحدة وتحولات استراتيجيتها الخارجية، ذلك أن تعطل الملاحة لأيام عدّة وضع الجميع أمام أسئلة حرجة حول مستقبل تغيرات المشهد الاقتصادي العالمي، لا سيما في ظل التنافس بين القوى الكبرى على توظيف أزمات كورونا والكساد الوشيك بما يتوافق مع مصلحة كل منها، ومدى تموضع القوى الإقليمية مع هذه المتغيرات وإعادة انتاج نمط توظيف الأزمات بل وتصديرها الى الخارج، وهو السلوك الذي أصبح السمة الغالبة للسياسات الإقليمية في السنوات الأخيرة.
أهمية الحادثة لا تقتصر على تفاصيل حدوثها وكيفية حلها وتداعياتها على التجارة العالمية والخسائر المترتبة عليها، والتي كانت بدايتها حدوث انكماش في مجمل نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.4% عن كل يوم تعطيل للقناة، وإنما في كونها وضعت الفاعلين الدوليين والإقليميين مجدداً أمام بديهيات الجغرافيا والاقتصاد، وكذلك التاريخ، حيث اعادت تسليط الضوء على أهمية القناة كمرتكز جيوسياسي كان ولا يزال بمثابة مفتاح تشكّل واقع المنطقة طيلة ما يقارب القرن ونصف القرن، وكذلك مستقبلها، خاصة في ظل متغير هو الأكثر تأثيراً عليها وعلى العالم ككل، والمتمثل في مبادرة الحزام والطريق الصينية وأيضاً التعاطي الأميركي معها، ولاحت بشائره في ما عُرف على مدى العقد الماضي بالانكماش الأميركي، والذي يأتي لانتفاء إثنين من ثلاث محددات رئيسية للتواجد الأميركي في المنطقة بأشكاله المختلفة، وهي:
أولاً، تأمين واردات النفط العربي للأسواق الأميركية، والذي انتهى تقريباً منذ ازدهار ومنافسة صناعة النفط الصخري، وغيرها من السياسات التي تحد من أهمية النفط العربي بالنسبة لواشنطن.
ثانياً، ضمان أمن إسرائيل، والذي حل محله، وفي نفس المدى الزمني، فورة تحالفات بين تل أبيب وعواصم عربية، بلغت ذروتها في التطبيع الرسمي نهاية العام الماضي.
ثالثاً، ضمان أمن وسلامة الملاحة في الممرات البحرية الاستراتيجية في المنطقة وعلى رأسها قناة السويس، التي تعاظمت أهميتها السياسية ليس فقط كانعكاس للأهمية الاقتصادية -13% من مجمل حركة التجارة العالمية تمر بها- ولكن أيضاً لكونها مفتاحاً جيوسياسياً هاماً في إقرار أية سيناريوهات مستقبلية للمنطقة وتموضع قواها الفاعلة، سواء مع الانكماش الأميركي أو التقدم الصيني عبر مبادرة الحزام والطريق، فضلاً عن الاستراتيجية الروسية بخصوص أفريقيا، التي باتت القوى الإقليمية في حالة من المنافسة عليها، إن من ناحية تطوير بناها التحتية وموانئها، أو لجهة السعي لتكريس نفوذ جيوسياسي في مناطق رخوة مثل القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر.

سارع السيسي الى الاستفادة من زخم أزمة القناة لرسم خطوط حمر جديدة، وتوجيه رسائل للخصم والصديق حول خطورة عدم تسوية ملف حيوي مثل مياه النيل، وكذلك خطورة القفز فوق بديهيات الجغرافيا في ما يتعلق بطموح بعض القوى الإقليمية في مد نفوذها باتجاه ساحات مثل البحر الأحمر والقرن الأفريقي

بالنسبة إلى مصر، أتت حادثة جنوح السفينة “ايفرغرين” كضارة نافعة، حيث أظهرت، وبشكل عملي، لكل الفاعلين الإقليميين والدوليين أهمية قناة السويس باعتبارها المرتكز الجيوسياسي الأهم في الشرق الأوسط، ليس على مستوى اقتصادي مرتبط بسلاسل الإمدادات والتجارة العالمية فحسب، ولكن أيضاً كورقة هامة يمكن استثمارها مصرياً وتعظيمها كسياسة إقليمية تتماشى مع توجهات الإدارة الأميركية الجديدة.
ما سبق يمتد الى نمط استثمار الأزمات الذي طغى على مجمل السياسات الدولية خلال العقد الأخير، ولا سيما في الشرق الأوسط، ولكن ليس كما تفعل تركيا مثلاً التي احترفت خلق الأزمات وتوظيفها، وانما من خلال استثمار أزمة حدثت بالفعل بغية تسوية نزاعات مرشحة للانفجار مثل سد النهضة، حيث سارع الرئيس عبد الفتاح السيسي الى الاستفادة من زخم أزمة القناة لرسم خطوط حمر جديدة، وتوجيه رسائل للخصم والصديق في آن حول خطورة عدم تسوية ملف حيوي مثل مياه النيل، وكذلك خطورة القفز فوق بديهيات الجغرافيا في ما يتعلق بطموح بعض القوى الإقليمية في مد نفوذها باتجاه ساحات مثل البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وعلى مدار السنوات القليلة الماضية، شكل البحر الأحمر محوراً أساسياً من محاور الصراع والتنافس والتوافق في آنٍ معاً بين مختلف القوى الإقليمية، مثل السعودية وإسرائيل وإيران والإمارات وتركيا وقطر، وذلك عبر مستويات مد نفوذ مختلفة وصلت إلى حد إيجاد مواطئ قدم عسكرية، تمثلت في سباق القواعد العسكرية على سواحله الجنوبية، لا سيما في جيبوتي وإريتريا والسودان.

تصريحات السيسي انطوت على تحذير من أن تجاهل أولويات مصر وأمنها من قبل الفاعلين الإقليميين لن يتوقف تأثيره على حدود مصر، بل على المنطقة، وربما العالم كله، خاصة وأن حجم المتغيرات الدولية على المستوى الجيوسياسي مرتبط بمستقبل طرق التجارة العالمية.

إقرأ على موقع 180  الصين وأمريكا.. لوبيات متنافرة ومشهدية حرب باردة!

كل ذلك جاء في سياق محاولة استغلال الانكماش الأميركي وإدارته عبر تحالفات إقليمية مستجدة في بوصلتها وأولوياتها، وتتعارض مع مصلحة مصر وأمنها القومي.
فعلى سبيل المثال، جاءت التحالفات بين الدول الخليجية وإسرائيل ومحاولات تعزيزها إلى مستويات جيوسياسية على حساب مصر، بدءاً بقضية جزيرتي تيران وصنافير وانتهاء بحرب اليمن. هنا بدا واضحاً أن القائمين على هذه التحولات تناسوا ما يسميه البروفسور روبرت كابلان بـ”انتقام الجغرافيا”، والذي يعني باختصار أن تكريس أي متغير سياسي على المدى الطويل يجب أن يتم عبر الجغرافيا، وهو ما حدثت محاولات بشأنه بين تل أبيب وبين العواصم الخليجية على مدار السنوات الماضية في البحر الأحمر، وفق أولويات أهملت دور مصر وموقعها ومحددات أمنها ومصالحها، في حين استندت الأخيرة إلى مرتكز جيوسياسي يتمثل في قناة السويس، التي تعتبر مفتاح التصديق الجغرافي على هذا الواقع السياسي الجديد أو تعطيله وجعله بلا فائدة.

مصر نجحت في استثمار الأزمة الأخيرة على مستويات مختلفة أقلها اعادة التأكيد على تأثيرها وثبات قدرتها على استعادة أوراق نفوذها الإقليمي بوتيرة متزايدة منذ العام الماضي، وكذلك تحويل الأزمة الى فرصة فريدة ربطت من خلالها الاستقرار الإقليمي بمحدد جديد هو ملف سد النهضة

من هذا المنظور، يمكن تفسير تصريحات السيسي، عقب استئناف حركة الملاحة في قناة السويس، والتي ربط فيها أمن مصر المائي بأمن المنطقة، وهي تصريحات انطوت على تحذير من أن تجاهل أولويات مصر وأمنها من قبل الفاعلين الإقليميين لن يتوقف تأثيره على حدود مصر، بل على المنطقة، وربما العالم كله، خاصة وأن حجم المتغيرات الدولية على المستوى الجيوسياسي مرتبط بمستقبل طرق التجارة العالمية.

أخذاً في الحسبان الكباش القائم بين القوى الكبرى، فإن أية محاولة أميركية على سبيل المثال للإضرار بمصلحة مصر، بما تمتلكه من مرتكز جيوسياسي مهم متمثل في قناة السويس، قد يخرب حسابات سياساتها الجديدة لصالح روسيا أو الصين، التي عقدت مؤخراً اتفاقية استراتيجية مع ايران ضمن مبادرة الحزام والطريق، بمعزل عن فرص وضعها موضع التنفيذ.
يضاف إلى ذلك أن حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي أشار إليها السيسي لن تكون في صالح أحد، حتى في ظل حديث (أقرب إلى الأحلام) عن بدائل مستقبلية لقناة السويس، فتأثيرات الإضرار بمصالح مصر ستشمل، بالحد الأدنى، المخاطرة باستقرار سلاسل التوريد وسلاسة حركة التجارة الدولية في المديين المتوسط والبعيد.
في الصورة العامة، يمكن القول أن مصر نجحت في استثمار الأزمة الأخيرة على مستويات مختلفة أقلها اعادة التأكيد على تأثيرها وثبات قدرتها على استعادة أوراق نفوذها الإقليمي بوتيرة متزايدة منذ العام الماضي، وكذلك تحويل الأزمة الى فرصة فريدة ربطت من خلالها الاستقرار الإقليمي بمحدد جديد هو ملف سد النهضة، وليس الصراع مع إيران كما هي الحال “حلفاء” واشنطن الذين تتعارض تحركاتهم مع أولويات القاهرة، وذلك وفق المحدد الأميركي الأهم وهو أمن الملاحة في الممرات الاستراتيجية، في ما يتسق أيضاً مع توجهات إدارة جو بايدن في الإسراع في إنهاء حرب اليمن على حساب الطموحات السعودية، وذلك خشية أن تنتقل هذه الحرب، في حال إطالتها، إلى مستوى جديد من التصعيد الإقليمي والدولي عبر اصطناع أزمات لتعطيل الملاحة في الممرات المائية الاستراتيجية في الخليج والبحر الأحمر، وهو ما ألمحت إليه حركة “أنصار الله” الحوثية خلال تعليق بعض قياداتها على حادثة قناة السويس، ما يعني عملياً امكانية الإضرار بالمصالح الأميركية المباشرة، والأهم من ذلك توفير فرصة لنفوذ روسي وربما صيني عبر ايران وأذرعتها.

Print Friendly, PDF & Email
إسلام أبو العز

كاتب صحافي ومحلل مختص بالشؤون الإقليمية والعلاقات الدولية - مصر

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  فلسطين تفضحنا.. هل تسمعنا يا الله؟