

بعد أيام من الانهيارات التي لحقت بالأسواق الأميركية، علّق الرئيس دونالد ترامب الزيادات في الرسوم التي فرضها على أكثر من 60 دولة لمدة 90 يوماً، مستثنياً الصين، التي رفع نسبة الزيادة على الواردات منها إلى 145 في المئة، لترد الصين بزيادة بلغت نسبة 124 في المئة على الواردات الأميركية.
عندما بادر ترامب إلى إعلان الحرب التجارية، فإنه أقدم على هذا الإجراء غير المسبوق باسم تصحيح الخلل في الميزان التجاري مع الكثير من دول العالم، ومن أجل الضغط على الشركات الأميركية للعودة إلى الولايات المتحدة، مما يخلق متسعاً أكبر من الوظائف للأميركيين ويزيد من حجم الاستثمارات في الداخل. ومن يريد تجنب الرسوم الأميركية، فليعمد إلى رفع الرسوم التي يفرضها على الصادرات الأميركية.
ربما تفاجأ ترامب بمسارعة الصين إلى الرد بالمثل. فهل أساء الرئيس الأميركي تقدير رد الفعل الصيني أو اعتقد أن الرئيس شي جين بينغ سيؤثر التروي في الرد انطلاقاً من مبدأ أن الاقتصاد الصيني ليس على ما يرام، نتيجة وباء كوفيد-19 وتعثر شركات عقارية في السنوات الأخيرة؟
قد يكون الأمران معاً. ولا شك أن الرسوم الأميركية الجديدة قد أثّرت على بعض المصانع الصينية التي اضطر بعضها إلى الإقفال موقتاً، لكن الحكومة هرعت إلى مساعدة الشركات للوقوف على قدميها وسط مناخ من التعبئة ضد القرارات الأميركية.
تتحرك الولايات المتحدة لمواجهة عسكرية محتملة مع الصين، عبر تسريع خطط للتوسع في صناعة السفن الحربية؛ المجال الذي تُحقّق فيه الصين تفوقاً في بعض نواحيه مع توسيع لترسانتها من الأسلحة النووية. وأعلن ترامب عن زيادة موازنة الدفاع إلى تريليون دولار، وحذّر الصين من أن “الولايات المتحدة تملك أقوى الأسلحة في العالم”، من دون أن يُحدد ماهيتها
كسر شي جين بينغ صمته في شأن الرسوم الأميركية بالتأكيد أن الصين “ليست خائفة.. لكن لا منتصر” في الحرب التجارية. والتحرك العملي الأول له سيتمثل بالقيام بزيارات في الأسبوع المقبل إلى ماليزيا وفيتنام وكمبوديا، وهي دول استهدفتها أيضاً الزيادات الأميركية بنسب مختلفة كونها تشكل ملاذات آمنة لشركات صينية أو حتى لشركات أميركية نقلت نشاطها من الصين إلى هذه الدول تفادياً للقيود المتزايدة التي فرضتها إدارات أميركية متعاقبة على الاستثمار في هذا البلد.
تشابك اقتصادي
تنقل صحيفة “النيويورك تايمز” عن الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية بواشنطن جوزيف تورغيان أن “شي أمضى حياته السياسية وهو يعد بلاده لهذه اللحظة تحديداً.. إنه يعتقد بأن النظام السياسي الصيني متفوق على النظام الأميركي، لأنه يتمتع بانسجام وانضباط كبيرين. وهو يعتقد أن الشعب الصيني سيُضحي من أجل مهمة إعادة التجديد الوطني” التي يقول الزعيم الصيني إنها ستضمن تفوق بلاده على الولايات المتحدة بحلول عام 2049.
كما أن شي يرى في الرسوم الأميركية، دليلاً على صحة تحذيراته السياسة العدوانية التي يسلكها الغرب إزاء الصين. وبحسب عالمة السياسة في جامعة ميدلبوري بولاية فيرمونت والخبيرة في الشؤون الصينية جيسكا تيتس، أن “من شأن ذلك أن ينقذ شي من تحمل مسؤولية عدم نمو الاقتصاد في الصين”.
ولم تتردد الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ في استخدام حسابها على منصة “إكس” لنشر عبارة قالها الزعيم الصيني التاريخي ماو تسي تونغ إبّان الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي: “مهما طالت هذه الحرب، فإننا لن نستسلم”.
وينظر ترامب إلى الصين على أن السبب الرئيسي الذي جعلها تتبوأ المركز الثاني في الاقتصاد العالمي، هو السياسة الأميركية الخاطئة التي أتاحت انضمام بكين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، مما فتح أمامها الأسواق العالمية على مدى واسع، بما في ذلك الأسواق الأميركية، بحيث باتت السلع الصينية الرخيصة جزءاً من ثقافة المستهلك الأميركي. وهذا ما ساعد الصين كي تصير المنافس الاستراتيجي الرئيسي للولايات المتحدة.
تشابك الاقتصادان الأميركي والصيني مذاك، وأغرت السوق الصينية كبرى الشركات الأميركية، مما عزز نمو الصين وصعودها الاقتصادي في أنحاء العالم لتصير الشريك التجاري الأول لمعظم البلدان. وتقول “النيويورك تايمز” إن شي جين بينغ عمل جاهداً لتحقيق هدفه في جعل الصين رائدة في صناعة السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية، على رغم شكوى الشركاء الاقتصاديين من إغراق الأسواق بالصناعات الرخيصة.
قتال على القرن 21!
وبحسب احصاءات 2024، صدّرت الصين ما قيمته 400 مليار دولار من السلع إلى الولايات المتحدة في مقابل تصدير أميركا ما قيمته 180 مليار دولار إلى الصين. وبحلول عام 2023، شكّلت صادرات الصين إلى الولايات المتحدة فقط 13 في المئة من إجمالي صادراتها العالمية، مقارنة مع 20 في المئة عندما انتخب ترامب للمرة الأولى في 2016. وفي الفترة ذاتها، تراجعت واردات الصين من الولايات المتحدة من 10 في المئة من إجمالي وارداتها إلى 7 في المئة.
هذا يعني أن ترامب بدأ معركة الفصل بين الاقتصادين الأميركي والصيني منذ ولايته الأولى. ويعتقد أن هذه العملية هي المدخل الضروري لاحتواء صعود الصين، ليس تجارياً فقط وإنما عسكرياً أيضاً.
هنا نأتي إلى ما أسبغه الخبيران الأميركيان في الشؤون الصينية مات بوتنيجر وليزا توبين، وهما مسؤولان في إدارة ترامب الأولى، من بعدٍ أوسع لحرب الرسوم الجمركية، إذ نقلت عنهما مجلة “نيوزويك” الأميركية، أن “الصين وأميركا ليستا منخرطتين في حرب تجارية فحسب. إنه قتال على القرن الحادي والعشرين”.
وتتحرك الولايات المتحدة لمواجهة عسكرية محتملة مع الصين، عبر تسريع خطط للتوسع في صناعة السفن الحربية؛ المجال الذي تُحقّق فيه الصين تفوقاً في بعض نواحيه مع توسيع لترسانتها من الأسلحة النووية. وأعلن ترامب عن زيادة موازنة الدفاع إلى تريليون دولار، وحذّر الصين من أن “الولايات المتحدة تملك أقوى الأسلحة في العالم”، من دون أن يُحدد ماهيتها.
لكن أية مواجهة عسكرية محتملة بين أميركا والصين ستكون مختلفة عن الماضي، لا سيما وأن البلدين يستثمران في الذكاء الإصطناعي والقدرات الفضائية.
الحرب التجارية ليست سوى أحد وجوه الصراع الأشمل بين الولايات المتحدة والصين. والأنظار كلها الآن مُركّزة على ترامب والصين.. من يصرخ أولاً؟
من يصرخ أولاً؟
البعد الجيوسياسي في الحرب التجارية، يتبدى من شكوى مسؤولين في إدارة ترامب من أن الصين تغذي برامجها الدفاعية من العائدات التي تجنيها بفعل الخلل في الميزان التجاري مع الولايات المتحدة.
وترصد الصحافة الأميركية بكثير من القلق ما كشف عنه نائب الرئيس الأميركي جيه. دي فانس، من أن زيادة الرسوم الجمركية على الصين بهذا القدر، قد تؤدي إلى حرمان أميركا من سلع صينية تدخل في بعض الصناعات العسكرية الأميركية.
وسئل العالم السياسي الأميركي غراهام أليسون: هل الحرب حتمية بين الولايات المتحدة والصين؟ فأجاب: “من المحتمل”.
ذلك عائد إلى أن فرضية الترابط الاقتصادي بين البلدين، كانت تخفض من احتمالات الحرب بينهما. هذا الترابط بدأت تتفكك عراه مع الحرب التجارية المتصاعدة الآن.
ولا يغيب عن البال، أن الطموحات الإقليمية لترامب في قناة بناما وجزيرة غرينلاند، تأتي على خلفية محاصرة النفوذ الصيني المتمدد في أميركا الجنوبية، وكذلك في القطب الشمالي على التوالي. وحتى الانفتاح الأميركي على روسيا منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يأتي في سياقات يراد منها فصل “الشراكة بلا حدود” القائمة بين شي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. استمالة روسيا على حساب أوكرانيا وأوروبا، يُنظر إليها على أنها تُسهّل عملية الاحتواء الأميركي للصين.
كل ذلك، يؤكد أن الحرب التجارية ليست سوى أحد وجوه الصراع الأشمل بين الولايات المتحدة والصين. والأنظار كلها الآن مُركّزة على ترامب والصين.. من يصرخ أولاً؟