في مبدأ نشوء الدول الحديثة، لا يختلف نشوء لبنان عن كل الدول العربية، ما عدا مصر، فهي أمة قائمة بقوتين، قوة التاريخ وقوة الفعل، كما يقول الفيلسوف الألماني هيغل في معرض حديثه عن قيامة الدول واستمرارها، وعلى هذه الحال، يتساوى لبنان والأردن والدول العربية الأخرى في حاجتها لـ”قوة التاريخ”، إذ لا يوجد دولة عربية تاريخية غير مصر، وإلى حدود معينة المغرب.
وفي مجال المقارنة، فالجغرافيا القلقة التي قامت عليها إمارة الأردن ومن ثم المملكة، هي أكثر توهجاً واشتعالاً واضطراباً من نظيرتها اللبنانية، بل إن الأرض القلقة التي نشأ عليها لبنان، تكاد تبدو برداً وسلاماً إذا ما قورنت بالأردن وبطبيعة تركيبته السكانية وبالتحديات الوجودية التي واجهها من الداخل والخارج على حد سواء.
من مسلمات القول ما يلي:
في الأردن جاءت رؤوس الدولة من “الخارج”، وهذا لا ينطبق على لبنان حيث رؤوس الدولة وصدورها من صلب بنيه ومواطنيه، ومع ذلك، فشل اللبنانيون في إدارة أحوالهم.
وفيما كان الإقتصاد اللبناني بقطاعاته التجارية والمالية قد قطع شوطا طويلا على طريق النضوج والإكتمال منذ منتصف القرن التاسع عشر، مضافا إليه الصناعة التي شهدت نمواً هو الأول في الشرق الأوسط خلال مرحلة الستينيات من القرن العشرين، ومعها البيئة المساعدة لقطاع الخدمات والسياحة، ناهيك عن توافر الأراضي الزراعية، فإن قلة الموارد وضعفها، كانت لصيقة بالأردن، ومع ذلك مرة ثانية: فأحوال الأردن الآن غير أحوال لبنان.
ذاك يتعلق بتحديات الداخل، وأما تحديات الخارج، فهي براكين في كل معانيها ودلالاتها ومفاعيلها، ولو تم استثناء “البركان الإسرائيلي” الذي يتأبط شراً بلبنان منذ عام 1947، كان جاز القول إن لبنان، وعلى الأقل منذ استقلاله، لا يقع على خط البراكين.
ما البراكين التي واجهها الأردن؟
أول هذه البراكين، تمثل بالصراع بين البيتين الهاشمي والسعودي، فخسارة الشريف حسين والد ملك الأردن عبدالله الأول للإمارة الهاشمية في الحجاز وخروجه منها إلى قبرص، ومن ثم سقوط عرش شقيقه علي بن الحسين في الحجاز نفسها وانتقاله إلى العراق عام 1926، أفضيا إلى إنتاج علاقات جوار متفجرة بين المملكتين الأردنية والسعودية، قد لا يحتاج سردها إلى استحضار تفاصيل الماضي، فصفحات كتاب “مذكراتي” ومجلدات “الوثائق الهاشمية” للملك عبدالله الأول، تحفل بمرارة النزاع مع الدولة السعودية الناشئة، وفي ذلك يقول عبدالله الأول في كتاب “مذكراتي”:
“إن فكرة إزالة الناهض المرحوم والمنقذ المظلوم ـ الشريف حسين ـ كانت قديمة وغاية في الإتقان، وأعلنت بريطانيا حيادها عندما صال إبن سعود على الحجاز المقدس، وألزمت العراق وشرق الأردن إلزاما إكراهيا”.
كان الأردن يبحث عن تشكيل نفسه، كما هي حال الأقطار العربية الأخرى، فيما مصر كانت تبحث عن عناصر الآمان لنفوذها الحيوي، فلا هي توافق على تمدد الأردن إلى حدودها، ولا السعودية استساغت وجود مملكتين هاشميتين في جوارها: العراق والأردن
مثل هذه المرارة ستتحدث عنها الأميرة بديعة بنت الملك علي بن الحسين اللاجىء إلى العراق، فتقول في “مذكرات وريثة العروش”:
“قضى أبي العقد الأخير من عمره (1926ـ1935) حزيناً متألماً، يقاسي بما كابده من محن وخيانات، ولعل ما كان يخفف عليه عبء الهموم وشدة الآلام، زيارات عمي (الملك فيصل) له، يحدثه عن الحرب في الحجاز وخيانة الإنكليز”.
إن سقوط الحلم الهاشمي في الحجاز، أنتج قلق الإسقاط في الأردن، خصوصا أن الصراعات المفتوحة مع دول الجوار العربية، وخصوصا الكبرى منها، مثل السعودية ومصر، جعلت المملكة الأردنية مقيمة على حدود الزلازل.
يقول الملك عبدالله الأول في مذكراته “عني المرحوم الملك ـ الشريف ـ الحسين أن تكون البلاد العربية تحدها من الغرب الحدود المصرية والبحران الأبيض والأحمر”، كما أن شقيقه “الملك علي المعظم، ملك البلاد المقدسة الحجازية، ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارتنا”.
في هذه المرحلة كان الأردن يبحث عن تشكيل نفسه، كما هي حال الأقطار العربية الأخرى، فيما مصر كانت تبحث عن عناصر الآمان لنفوذها الحيوي، فلا هي توافق على تمدد الأردن إلى حدودها، ولا السعودية استساغت وجود مملكتين هاشميتين في جوارها: العراق والأردن.
ما التداعيات الناجمة عن ذلك؟
وما وجوه الصراع التي خاضها الأردن؟
حول ولاية العقبة ومعان، يقول المفكر اللبناني عادل إرسلان في الجزء الثاني من مذكراته، “إن الملك عبد العزيز بن سعود، يطلب الآن العقبة ومعان، بعد الحرب العامة كانت تلك المنطقة لسوريا، ثم أعيدت العقبة إلى الحجاز وبقيت معان لسوريا، ثم حدد المندوب السامي البريطاني حدود شرقي الأردن، فترك العقبة ومعان للحجاز، وجعل الحد حدود قضاء الطفيلة، فصارت كل المنطقة تحت إدارة الحجاز إلى أن زال ملك الهاشميين منه، فوقف الجيش السعودي قريباً منها ولم يدخلها، وزعم أمير الأردن أن أخاه الملك عليا نزل له عنها قبل نزوله عن العرش في جدة”.
وليس بعيدا عن السعودية وسوريا، يورد عادل إرسلان في يوميات مذكراته المؤرخة في 8 ـ 2ـ 1946، التالي:”في عمان الآن مؤتمر يراد به توحيد قوى الأردن والعراق، أرى أن الهدف منه هو سوريا والسعودية، إن مات عبد العزيز بن سعود، طمع الهاشميون ببلاده أو على الأقل ببلادهم الحجاز، وإن طال عمره انصرفوا إلى العمل في سوريا”، وحول مستقبل الأخيرة يقول في الثالث من تموز/ يوليو 1946:”الخوف من سوريا الكبرى تحت عرش عبدالله ملك الأردن يذهب بالحكومة السورية إلى ما يشبه الجنون”.
تلك التحديات التي واجهها الأردن على “الجبهات” السعودية والعراقية والسورية، لها أشباه ومتشابهات على “الجبهة” المصرية، ولا يرتبط أمر هذه “الجبهة” بتناقض السياسات بين الأردن ومصر الناصرية، فذلك خطا شائع، فعناصر التوتر بين الأردن ومصر الملكية، لم تكن أقل سخونة
وفي السياق السوري أيضا، إنما مع بعده العراقي، يتوقف عادل ارسلان ملياً وجلياً (7 ـ 6 ـ 1950) عند زيارات رئيس الوزراء العراقي صالح جبر إلى بيروت وعمان، فيراها “ذات صلة بسياسة العراق والأردن، ولعل الهاشميين يحاولون إقناع اللبنانيين بأن ضم سوريا إلى العراق لا يضر بلبنان، فالفوضى التي شهدتها سوريا في عهد خالد العظم وأكرم الحوراني هي أشد تأثيراً في نفوس السوريين من دعوة الهلال الخصيب”.
هذا الإندماج السوري ـ العراقي تحت التاج الهاشمي، كان سبقه قلق عالي المنسوب من سقوط مُلك الهاشميين في العراق عام 1941، وانعكاسه على الأردن، بل تهديد وجوده، فالإنقلاب العسكري الذي رعاه رشيد عالي الكيلاني مع ضباط “المربع الذهبي”، كان شديد الميل نحو ألمانيا النازية، وعلى ما يقول الباحث العراقي جعفر الخياط في كتابه “حوادث العراق في سنة 1941″، الصادر عام 1954، إن ألمانيا مهدت لوجودها في العراق قبل حركة الكيلاني بسنوات، وبما أن سوريا كانت خاضعة لحكومة “فيشي” الفرنسية المتحالفة مع ألمانيا النازية، كان من المحتمل أن تندمج الدولتان العراقية والسورية في دولة واحدة برعاية ألمانية، وهذا ما يلاحظه الملك عبدالله الأول حين يتحدث عن “فتنة العراق” التي شارك الأردن في “إخمادها” حيث كان من “المقرر إعلان وحدة سوريا والعراق بتعضيد من الألمان”، ولما عاد المشهد العراقي إلى نصابه الهاشمي، انتهت مهمات الوحدات العسكرية الأردنية في العراق، فألقى عبدالله الأول على الجنود الأردنيين العائدين كلمة جاء فيها:
“مرحبا بالقوة الموفقة، لقد عدتم من مهمة دقيقة، مثلتم فيها الوفاء وواجب الطاعة للبيت الهاشمي”.
تلك التحديات التي واجهها الأردن على “الجبهات” السعودية والعراقية والسورية، لها أشباه ومتشابهات على “الجبهة” المصرية، ولا يرتبط أمر هذه “الجبهة” بتناقض السياسات بين الأردن ومصر الناصرية، فذلك خطا شائع، فعناصر التوتر بين الأردن ومصر الملكية، لم تكن أقل سخونة مما جرت عليه مشاهد الإضطراب بين الأردن والرئيس جمال عبد الناصر.
وفي وقائع تلك العلاقات ما يُروى ويُحكى:
يقول رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق بشارة الخوري في كتابه الشهير “حقائق لبنانية”:
“سافر رئيس الوزراء رياض الصلح إلى مصر لحضور اجتماع اللجنة السياسية، وجدول أعمالها مخصص لضم القسم العربي من فلسطين إلى شرقي الأردن، وجاءتنا أخبار اجتماعات اللجنة تنذر بخطر يهدد الجامعة، فقد وقفت حكومة مصر موقفاً عدائياً علنياً من حكومة الأردن، وخيّرت مندوبي الدول في واحد من أمرين: إما إخراج الأردن أو خروجه من جامعة الدول العربية”.
المفكر الإرسلاني الثاني شكيب إرسلان يورد في “مدونة أحداث العالم العربي ووقائعه”، أنه في الخامس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 1948 “بعث ملك الأردن عبدالله بن الحسين برقية الى الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام، محتجاً على تأليف حكومة عموم فلسطين، مصرحاً أن الأردن لا يتساهل بتشكيل أية حكومة في أماكن الحكومة الأردنية من حدود المملكة المصرية الى حدود سوريا”، وفي التاسع والعشرين من نيسان/ أبريل 1950، نشرت صحيفة “المصري” حواراً مع الملك الأردني عبدالله الأول، قال فيه إنه بلاده ستخرج من الجامعة العربية.
في كتاب “حربنا مع إسرائيل” يروي الملك حسين بن طلال وقائع زيارته إلى مصر في الثلاثين من أيار/ مايو 1967، بعد قطيعة معهودة ومديدة، فقال له عبد الناصر بلهجة فيها بعض التهكم “ما دامت زيارتك سرية، ماذا يحصل إذا قبضنا عليك”؟
حين سقط النظام الملكي المصري بإنقلاب 23 تموز/ يوليو 1952، كان الموروث المتفجر بين الأردن ومصر، ثقيل ويصعب احتواؤه، وفي ظل سياسة التمحور بين الشرق والغرب خلال مرحلة الحرب الباردة، تناقضت اتجاهات وسياسات القاهرة وعمان، ولعل الإشارة إلى خطب ومواقف جمال عبد الناصر ومقالات “بصراحة” في صحيفة “الأهرام” لمحمد حسنين هيكل، وما تتضمنه من نعوت وصفات سيئة طالت رؤوس النظام الهاشمي في الأردن، ما يغني عن استحضارها والإقتباس منها.
وفي هذا الجانب بالتحديد، قد يكون من المناسب المرور على هاتين الواقعتين اللتين توجزان طبيعة الإضطراب في العلاقات الأردنية ـ المصرية خلال حقبتي الحكم في مصر، الملكية والناصرية:
ورد في مقدمة كتاب “عامان في عمان” لخير الدين الزركلي الذي شغل مناصب عدة في أولى حكومات الأردن في أوائل عشرينيات القرن الماضي، أن ملك مصر فاروق الأول أغضب ملك الأردن عبدالله الأول، بتعاليه وكبريائه، فما كان من الثاني إلا ان قال له “ليس بوسعك ان تجعل من فلاح بلقاني سيداً”.
وفي كتاب “حربنا مع إسرائيل” يروي الملك حسين بن طلال وقائع زيارته إلى مصر في الثلاثين من أيار/ مايو 1967، بعد قطيعة معهودة ومديدة، فقال له عبد الناصر بلهجة فيها بعض التهكم “ما دامت زيارتك سرية، ماذا يحصل إذا قبضنا عليك”؟
بالإجمال، لم يشهد لبنان تلك الإختبارات البركانية والزلزالية التي عرفها الأردن، إلا أن ثمة اختبارين شديدي الشبه خضع لهما الطرفان، وفي الإختبارين نجح الأردن وسقط لبنان، والإختباران هما:
في ذروة المد الناصري بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، أفلح الأردن في تجاوز المفصل الخطير والمتمثل بالإنقلاب العسكري المدعوم من القاهرة، والذي قاده سليمان النابلسي ورئيس الأركان علي أبو نوار عام 1957، وأما لبنان فوقع في لهيب المحظور عام 1958، جراء سياسة الرئيس كميل شمعون الموالية للغرب و”حلف بغداد” من جهة، وخصومه في “المقاومة الشعبية” ذات الطابع الناصري أو المتحالف مع مصر الناصرية من جهة ثانية.
وما كاد عقد الستينيات من القرن الفائت، يشارف على الأفول، كان “عصر” المقاومة الفلسطينية قد بزغ وأقبل، فارضاً جدالاته وتحدياته على الأردن ولبنان، وبصرف النظر عن صواب أو خطأ ما حدث في الأردن عام 1970 وما بعده، فإن انزلاق لبنان عام 1975 إلى الحرب لعوامل سببية عدة، منها عامل المقاومة الفلسطينية، أدى بالنتيجة إلى تشظيه المستمر حتى أيامنا هذه.
كيف نجا الأردن من براكينه؟
الجواب يحتاج إلى نقاش مستفيض.
لماذا سقط لبنان في قاع البراكين؟
الجواب يحتاج إلى فيض المستفيض وفائضه.
من أين نبدأ؟