قال نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في محاضرة بدعوة من “تجمع العلماء المسلمين”: “ما نجده مُناسباً (من وصفات صندوق النقد) نأخذ به، وما نجده غير مناسب نعترض عليه ونقول وجهة نظرنا. ليس هناك قبول أعمى ولا رفض مطلق. نناقش التفاصيل من خلال الحكومة، ونتخذ الموقف المناسب لما فيه مصلحة لبنان”.
هل في الأمر تقية شيعية أم وضوح جلي في الموقف العملاني الفارض نفسه؟
بداية، يتعين التذكير بأن خيار حزب الله في الاتجاه شرقاً لم يعد مطروحاً بقوة كما كان في بداية الأزمة المالية، لاعتبارات الواقعية السياسية ـ الاقتصادية.
***
أما بعد، ففي الملاحظات العامة يمكن إيراد الآتي:
أولاً؛ حزب الله جزءٌ من المنظومة الحاكمة، وهو برأي خصوم ومراقبين، الجهة الأقوى الراعية والحامية للهيكل والمانعة لسقوطه على رأس مفسديه وسيئي ادارته. ما حصل في مجابهة “حراك 17 تشرين”، ثم في اسقاط خطة حسان دياب للاصلاح المالي والمفاوضات مع صندوق النقد خير دليل على ان الحزب ليس مراقباً للأحداث بل صانعها بصخب في الأولى (الحراك)، ومجاريها صامتاً في الثانية (الصندوق).
ثانياً؛ حزب الله ليس اشتراكياً مناهضاً شرساً للنظام الليبرالي الرأسمالي في العالم ليتخذ موقفاً مسبقاً ونهائياً من صندوق النقد الدولي، ولم يعد صاحب اعتراض مبدئي “طفولي” رافض قطعاً للتفاوض معه، ولا يتبنى حذافير مقولة افقار الصندوق للشعوب التي يدخل مع دولها في اتفاقات تمويل مشروط. الحزب يؤمن بالتجارة والربح وتنمية رأس المال ورعاية المصالح الاقتصادية الليبرالية شأنه شأن كل من شاركهم ويشاركهم السلطة في لبنان.
اذا اعتقد حزب الله ان بإمكانه التعاطي مع صندوق النقد على قاعدة تجربة تعامله مع “المبادرة الفرنسية” بالاعتراض على ما هو حساس ودقيق لوضعه الاستثنائي، ثم القبول بباقي المبادرة وتطويعها بالمناورة السياسية، فان الامر مختلف هذه المرة
ثالثاً؛ كان حزب الله منذ اكثر من 15 عاماً شريكاً حكومياً بوزارات عملت ضمن النموذج الاقتصادي والمالي الذي وصل الى ما وصل اليه من أزمات. ولم يكن الأداء يشي بتفضيل الانتاج على الريع، بل مورس ضمن سياقات هي الآن محل طلب تعديل جذري فيها. لذا، فالحزب، معني كغيره في خوض مغامرة البحث عن نموذج بديل. بديل شاءت الظروف الكارثية، مكرهاً أخاك لا بطل، ان ينضوي تحت مظلة صندوق النقد الدولي!
رابعاً؛ اذا اعتقد حزب الله ان بإمكانه التعاطي مع صندوق النقد على قاعدة تجربة تعامله مع “المبادرة الفرنسية” بالاعتراض على ما هو حساس ودقيق لوضعه الاستثنائي، ثم القبول بباقي المبادرة وتطويعها بالمناورة السياسية، فان الامر مختلف هذه المرة. فالالتفاف على تلك المبادرة بدا ممكناً لصيانة توازنات المنظومة، بيد أن صندوق النقد غير معني مبدئياً حتى الآن الا بتطبيق شروط مالية غير شعبية واصلاحية ليبرالية في جزء ونيوليبرالية في آخر تضمن له استرداد القرض الذي يمنحه للبنان، ولا شأن له البتة بتوازنات يراد لها حفظ الهيكل الطائفي بأي ثمن.
خامساً؛ للصندوق بعض الشروط المتعلقة بكيفية مكافحة الفساد في الادارة العامة والمناقصات وأوجه الانفاق المختلفة، وله شرط خاص باستقلالية القضاء. في النقطة الاولى، يعترف حزب الله انه فشل حتى الان في الذهاب بعيداً في القضايا التي طرحها لمحاربة المفسدين واضعاً اللوم على تقصير القضاء. وفي قضية القضاء تحديداً بات طرفاً يجاهر باتهامه لقاضٍ بالانحياز والتسيسس والاستنسابية في قضية مرفأ بيروت.
سادساً؛ يرفض حزب الله أي وصاية خارجية، ويندد دائماً بالطريقة الغربية المعتمدة في لبنان ويحملها كل الشرور، حتى انه ذهب بعيداً في اتهام أميركا بحصار لبنان والمساهمة في انهيار اقتصاده واضعاً ذلك عاملاً أول قبل عوامل أكثر وضوحاً في اقتراض وتبديد ديون بـ 100 مليار دولار، وجذب وتبديد ودائع بـ 100 مليار أخرى.
وفي قضية الوصاية تحديداً، سيجد حزب الله عناوين لها مع صندوق النقد لا محالة، إذ لعله يعلم انه لمجرد الاتفاق وبدء التمويل، سنجد خبراء للصندوق قائمين ناشطين بيننا، فاحصين دورياً لحساباتنا وطرق إدارتنا للبلاد مالياً. فهل يحتمل الحزب خبراء منتدبين دوليين شبه دائمين وربما متدخلين في أعمال ادارات الدولة ومرافقها الحيوية منها وغير الحيوية؟
سابعاً؛ في صلب شروط صندوق النقد زيادة الايرادات العامة بالرسوم والضرائب وربما بالخصخصة او مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص أيضاً و”ترشيق” القطاع العام.. وكان حزب الله تاريخياً من اشد المعارضين لزيادة الاعباء على المواطنين وتحديداً ناخبيه الشيعة الفقراء.. وما أكثرهم هذه الأيام.
واذا كان الحزب ليس معترضاً جوهرياً على الخصخصة ومشاريع الشراكة لأنه مؤمن بدور القطاع الخاص وفقاً لتجربته في التجارة والصحة والتعليم والبناء وغيرها من القطاعات التي أسس لها شركات تربح وتنمو وتزدهر في السر والعلن، لكن الخصخصة تبقى، بالنسبة اليه، مشكوكاً فيها من زوايا اسئلة عمن سيحظى بهذا المرفق او ذاك مع قلق خاص من شركات اجنبية غربية، ومن رساميل محلية قد تكون على طرف نقيض سياسي معه أو محسوبة على منافسين شرسين له اقتصادياً، علماً بأن “اقتصاد الحزب”، اذا صح التعبير، هو اقتصاد مواز لا تنطبق عليه كل شروط الافصاح والشفافية التي يريدها الصندوق كاملة غير منقوصة.
هل نصل الى مرحلة يُمنع فيها صندوق النقد من الاتفاق مع لبنان بحجة سلاح حزب الله ونفوذه في تقرير سياسات سيادية محلية وتدخلات اقليمية؟ الجواب رهن الاشهر المقبلة التي أمام الحكومة لانجاز الاتفاق كما وعد نجيب ميقاتي؟
ثامناً؛ في جانب الايرادات، على سبيل المثال، لدى صندوق النقد شرط ضبط الحدود، فيما حزب الله متهم من جهات غربية وعربية وأخرى محلية بممارسة التهريب. وهو وإن كان ليس مهرباً بالتعريف، بل لانه محاصر وتحت الرقابة الدولية، سيجد نفسه بمواجهة من يريد ضبط الحدود ومنع التهريب، كما قد يجد نفسه معنياً باتهامات التهرب الضريبي وتجاوز الاصول التجارية كما يحصل الآن مع ادخال المازوت الإيراني الى البلاد، وما حصل سابقاً يوم استورد الحديد لاعمار ما دمّرته اسرائيل في عدوان 2006.
تاسعاً؛ النقطة المفصلية تبقى دائماً في قدرة حزب الله على رعاية مصالح المنظومة التي يتحكم بها سياسياً. وليس سراً ان بعض شروط الصندوق يمس تطبيقها حتماً مصالح هذا الفريق السياسي او ذاك، وهذه الزعامة الطائفية أو تلك. وهنا نتحدث عن التحاصص التاريخي غير القابل للنقض حتى تاريخه في الوزارات والادارات والمرافق والمجالس والصناديق.
عاشراً؛ على حزب الله وغيره من الاحزاب أن يتبينوا ان صندوق النقد لا يفرض نفسه على لبنان، ولا هو ظاهر علناً كأداة في معادلات التجاذب الاقليمي والدولي أو في هذا الملف الداخلي الخلافي او ذاك. لكن قضية السلاح غربية أميركية اسرائيلية بامتياز، ولاميركا ودول الغرب أعلى قدرات تصويت في الصندوق. فهل نصل الى مرحلة يُمنع فيها صندوق النقد من الاتفاق مع لبنان بحجة سلاح حزب الله ونفوذه في تقرير سياسات سيادية محلية وتدخلات اقليمية؟ الجواب رهن الاشهر المقبلة التي أمام الحكومة لانجاز الاتفاق كما وعد نجيب ميقاتي، مع الأخذ في الاعتبار ان الفرنسيين رعاة دفع لبنان الى التفاوض مع الصندوق لا يأتون على ذكر شروط من هذا القبيل.
***
تبقى الاشارة، وفقاً لمعلومات موقع “180 بوست”، الى ان حزب الله تواصل مع صندوق النقد الدولي مباشرة، وتبادلا احاديث مطولة عن المفاوضات وشروطها. وبنتيجتها ترك الحزب لنفسه هامش مناورة في مقولة “نجرب ونرى ما هو مناسب وما هو غير مناسب”. لكن قد لا يكون قد طرح على نفسه بعد سؤالاً محورياً مفاده؛ ماذا لو وجد ان اعتراضه على الشروط الأساسية والمحورية والوجودية سيحوله الى عازف نشاز منفرد بين عازفين قابلين صاغرين بشروط الصندوق على قاعدة فقدان الاطراف أفضل من الموت؟ فهل سيخرج من المنظومة؟
ما من مؤشر على أن حزب الله سيأخذ مسافة قاطعة مع الاحزاب النافذة في السلطة، بل هو متمسك بالمنظومة اليوم اكثر من اي يوم مضى بعدما بذل الغالي والرخيص لحمايتها من السقوط. فهذه هي الطبخة التي طبخها سيأكل منها حتى لو كانت سامة في مكان ما. خلاف ذلك هو المجهول حتماً، وحزب الله عدو ما يجهل!