على الحدود البيلاروسية-البولندية، يوجد سبعة آلاف مهاجر، أمامهم 17 ألف جندي بولندي، وخلفهم عدد مماثل من الجنود البيلاروسيين، بينما دفعت أوكرانيا هي الأخرى بتعزيزات قبالة بيلاروسيا خشية أن يتوجه المهاجرون نحو حدودها. وعلى الحدود الروسية-الأوكرانية يحتشد، بحسب تقديرات الإستخبارات الأميركية، أكثر من مئة ألف جندي روسي.
وبينما كانت قطع بحرية تابعة لحلف شمال الأطلسي تجري مناورات بحرية بالإشتراك مع البحرية الأوكرانية الأسبوع الماضي في البحر الأسود، إقترح جنرالات روس على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إجراء مناورات مضادة في المنطقة نفسها، لكنه رفض وإكتفى بإعطاء الأوامر بمراقبة المناورات الأطلسية عن كثب. لم يمنع هذا روسيا من تفجير مفاجأة مدوية للغرب في الفضاء، من طريق إختبار صاروخ مضاد للأقمار الإصطناعية. ردَّ حلف الأطلسي بإرسال قاذفة إستراتيجية لتحلق على مسافة 20 كيلومتراً من الحدود الروسية. وكان رد موسكو تسيير دورية قاذفات إستراتيجية روسية مع مقاتلات صينية، يوم الجمعة الماضي، فوق المحيط الهاديء مع توغل قصير في منطقة الدفاع الجوي الكورية الجنوبية.
والأسبوع الماضي ايضاً، كان رئيس الأركان البريطاني الجنرال نيكولاس كارتر يستشعر خطورة المناخات السائدة، فأطلق تحذيراً لافتاً للإنتباه، جاء فيه، أن نشوب حرب بـ”الصدفة” بين الغرب وروسيا هو أمرٌ أكثر إحتمالاً من أي وقت مضى. ولاقاه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي حذر بدوره من “تزايد إحتمال نشوب صراع كبير على مستوى العلاقات بين روسيا والغرب”.
ومؤخراً، نشر الباحثان في معهد كارنيغي إيوجين رومر وأندرو ويس مقالاً وصفا فيه أوكرانيا بأنها “العمل الذي لم ينجزه” فلاديمير بوتين بعد، وذلك في سياق سعيه إلى “إستعادة الهيمنة على أجزاء واسعة من إمبراطوريته التاريخية”، وأن ما من شيء يضاهي، أو أكثر محورية بالنسبة له، من إعادة أوكرانيا إلى الحضن الروسي. ويعتبر بوتين أن ضم القرم عام 2014 كان مفخرة إنجازاته على طريق الوحدة مع أوكرانيا وبيلاروسيا.
الهجوم الشامل على الشرق “الروسي” قد يتسبب هذه المرة بغزو روسي شامل لأوكرانيا، التي هي أقرب اليوم من بودابست في 1956 وتشيكوسلوفاكيا في 1968
وفي المقابل، ترى روسيا أن إندفاع الغرب لتسليح أوكرانيا، هدفه تهيئة الأرضية لضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي وقلب النظام الموالي لروسيا في مينسك. وهذان الهدفان في نظر موسكو مهمة لم ينجزها تماماً الغرب، الذي ضم دول أوروبا الشرقية والوسطى التي كانت تدور في الفلك الروسي إبان حقبة الحرب الباردة، إلى الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي خلال العقود الثلاثة الماضية.
في هذا السياق، ذكّر الناطق باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف قبل يومين، بكلام لبوتين عن أن حلف شمال الأطلسي “خدع روسيا” عندما تعهد عدم الامتداد شرقاً في أوائل التسعينيات الماضية. وحذّر من أن “هناك الآن سيناريو مشابه إلى حد كبير” في إشارة إلى المساعدات العسكرية الغربية التي تتدفق على أوكرانيا وكأنها باتت عضواً في حلف شمال الأطلسي من دون إعلان رسمي عن ذلك.
ولا تفوّت موسكو مناسبة إلا وتُذكّر أنقرة بقلقها إزاء تزويد أوكرانيا بمسيرات تركية متطورة من طراز “بيرقدار”، كان لها الدور الحاسم في قلب نتائج المعارك في ليبيا وناغورنو كره باخ. وبدأ الجيش الأوكراني فعلاً في إستخدام المسيرات التركية ضد إنفصاليي منطقة دونباس في شرق البلاد.
فهل يجازف حلف شمال الأطلسي بدفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إلى خوض مغامرة عسكرية في الشرق الأوكراني، بغطاء جوي من المسيرات التركية، وبمعدات عسكرية أميركية متطورة؟
بناء على تجربة 2014، لن يكون الأمر بهذه السهولة، إذ أنه في عامذاك عندما أطاحت “ثورة ملونة” الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، ردَّ بوتين بضم شبه جزيرة القرم كي لا يغلق الغرب طريق روسيا إلى المياه الدافئة ويحافظ على وصية كاترين الثانية. فالهجوم الشامل على الشرق “الروسي” قد يتسبب هذه المرة بغزو روسي شامل لأوكرانيا، التي هي أقرب اليوم من بودابست في 1956 وتشيكوسلوفاكيا في 1968.
وعلى غرار ما يسيّج الكرملين أوكرانيا بالخطوط الحمر منذ 2014، كذلك فعل عام 2020 في بيلاروسيا، عندما هرع بوتين لمساعدة لوكاشنكو ووضع مينسك في إطار “إتحاد” بين روسيا وبيلاروسيا، وقدّم لها قرضاً بثمانية مليارات دولار بدافع من “الأخوة السلافية”، بعدما نبذتها الدول الأوروبية، على أثر الإنتخابات وفرار مرشحة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا إلى بولندا ودول البلطيق، والتي تحولت بالمناسبة إلى شبه منسية على غرار خوان غوايدو في فنزويلا، وفق ما رأى الكاتب نيكولاس ك. غفوسديف في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية.
في ذروة أزمات سابقة، لم يقفل بوتين كل الأبواب مع الغرب، واحتفظ بالنافذة الألمانية عند أوقات الضرورة، على غرار الطلب من ميركل قبل أيام مهاتفة لوكاشنكو والتفاهم معه على وسائل “لخفض التصعيد” على الحدود. بل أن بوتين ذهب أبعد من ذلك عندما نأى بنفسه عن تلويح حليفه بإقفال أنبوب الغاز الذي يمر بالأراضي البيلاروسية نحو أوروبا
وفي رأي الكاتب نفسه فإن “الحكومة الروسية صمدت في وجه الإنتقادات المتعلقة بتعاملها مع شخصيات معارضة أمثال أليكسي نافالني أو حادث طائرة شركة “ريان إير” البيلاروسية التي جرى تحويلها إلى مينسك من أجل إعتقال معارضين بيلاروسيين كانوا على متنها. وأخيراً وبإسم مكافحة التغير المناخي وحماية البيئة، كان هناك حديث حول كيف يمكن إعفاء المشاريع الخضراء في روسيا من عقوبات أميركية أو أوروبية مستقبلية”.
وحتى في ذروة أزمات سابقة، لم يقفل بوتين كل الأبواب مع الغرب، واحتفظ بالنافذة الألمانية عند أوقات الضرورة، على غرار الطلب من المستشارة أنغيلا ميركل قبل أيام مهاتفة لوكاشنكو والتفاهم معه على وسائل “لخفض التصعيد” على الحدود. بل أن بوتين ذهب أبعد من ذلك عندما نأى بنفسه عن تلويح حليفه بإقفال أنبوب الغاز الذي يمر بالأراضي البيلاروسية نحو أوروبا، وبدا أنه منزعج من إثارة الموضوع في هذا الوقت على الأقل.
هذا يشير أيضاً إلى براغماتية روسية، يتوخى بوتين من خلالها التوصل إلى تسوية مع الغرب، تبقي الأطلسي بعيداً عن أوكرانيا وبيلاروسيا وجورجيا. كما أن أوروبا التي تريد الغاز الروسي، تحاذر كثيراً التمادي في إغضاب الكرملين، علماً أن بيع الغاز لأوروبا يدر على روسيا أموالاً هي في حاجة ماسة إليها لترميم إقتصادها الذي تضرر بالعقوبات الأميركية والأوروبية وبوباء كورونا. ولم تكن روسيا مرتاحة للعقبة القانونية التي حالت دون بدء الضخ في أنبوب “نورد ستريم 2” الذي يمر مباشرة في قاع البحر من الأراضي الروسية إلى ألمانيا.
وإذا كان الدرس الأفغاني قد جعل الغرب يتروى في الدخول في تنافس مع روسيا في دول مجاورة في آسيا الوسطى، فإن تركيا هي الدولة الأطلسية الوحيدة التي تنبري اليوم لمزاحمة موسكو على النفوذ في المنطقة وفي القوقاز. وقد ينطبق على السياسة الروسية حيال تركيا قول الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيديف إن “روسيا تعرف كيف تصبر”.
وبعد كل ذلك، ليس مستغرباً تصوير مسألة المهاجرين على الحدود البيلاروسية-البولندية، على أنها جزء من الصراع الجيوسياسي بين روسيا والغرب، بينما لم يبرز هذا الوصف عندما غض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الطرف عام 2015 عن تدفق مئات آلاف المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا عبر اليونان.