هذا السؤال اعترض دبلوماسيتنا فى الجلسة الطارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة، التى نظرت في قرار إدانة التدخل العسكرى الروسى فى أوكرانيا بعدما فشل مجلس الأمن فى استصداره بقوة الفيتو الذى تمتلكه روسيا.
تساعد مداخلات وأجواء واتجاهات التصويت فى فهم ما جرى، وما قد يجرى من تفاعلات وتحولات فى بنية النظام الدولى المأزوم.
بظاهر الأرقام، واجهت موسكو هزيمة دبلوماسية لا سبيل إلى التقليل من أثرها الفادح على صورتها، رغم أن القرار بذاته غير ملزم، حيث وافقت (141) دولة على الإدانة مقابل (5) دول رفضت، فيما امتنعت (35) دولة عن التصويت.
وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» عزا تلك الهزيمة الدبلوماسية إلى حجم الضغوط التى مارستها الولايات المتحدة وحلفائها بالترهيب والابتزاز.
هذه نصف الحقيقة، النصف الآخر أن روسيا فشلت على نحو ذريع أن تحشد الدول القريبة منها بالتاريخ أو بالمصالح، التى يفترض أنها حليفة، أو مستعدة لتفهم روايتها للأزمة وأسبابها الأمنية.
إذا ما استثنينا روسيا نفسها مع حليفتها بيلاروسيا المتهمة بالضلوع معها فى نص القرار الأممى، فإن الذين صوتوا بـ«لا» ثلاث دول: سوريا وكوريا الشمالية وإريتريا!
إذلال روسيا بالتهميش والعزل والعقوبات المفرطة يؤسس موضوعيا لحرب عالمية ثالثة سوف تكون نووية هذه المرة
خسرت موسكو معركة الصورة بالتضييق الإعلامى وحملات التشويه، التى طالت كل شىء حتى نالت من الإرث الثقافى والفكرى والحضارى للأمة الروسية، فكل ما هو روسى ممنوع تدريسه حتى روايات أديبها العظيم «ديستوفيسكى»، كما حدث فى بعض الجامعات الإيطالية.
الهيستيريا نفسها نالت من فنون رفيعة كالأوبرا والبالية والموسيقى الكلاسيكية، كأنها مكارثية جديدة فى قلب أوروبا تطارد فكرة الحضارة نفسها.
هذه قضية الإنسانية المعاصرة، قبل روسيا وبعد روسيا.
إذلال روسيا بالتهميش والعزل والعقوبات المفرطة يؤسس موضوعيا لحرب عالمية ثالثة سوف تكون نووية هذه المرة.
لم تكن مثل هذه الهزيمة الدبلوماسية ممكنة، أو متخيلة، فى زمن الاتحاد السوفييتى السابق، الذى تمتع بنفوذ سياسى واستراتيجى وعسكرى وأيديولوجى.
لم تنجح موسكو طوال سنوات ما بعد الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتى، فى بناء نموذج سياسى ملهم ومؤثر، ولا بنت دولة مؤسسات حديثة تصوب القرار السياسى وفق التحديات الماثلة.
ولا كانت الهزيمة الدبلوماسية تعبيرا عن موازين القوة الحالية بقدر ما كانت انعكاسا لفوضى الحسابات والمواقف فى نظام دولى قديم، لا يريد أن يخلى مواقعه دفاعا عن مصالحه ونفوذه فيما الجديد لم تتضح معالمه أو تبلورت قواه.
بالنظر فى قائمة الدول التى امتنعت عن التصويت فإنها تضم أكبر دولتين أسيويتين، الصين والهند بكل ثقلهما الاقتصادى والبشرى.
امتناعهما عن التصويت فيه درجة من التفهم للأسباب الروسية، دون استعداد للقفز إلى تحالف قبل استكمال مقوماته خشية أية عواقب وخيمة على مصالحهما الاقتصادية والاستراتيجية.
فى توجهات التصويت بدا العالم الثالث بلا عمود فقرى سياسى قادر على تحمل أية ضغوط قبل اتخاذ قرار مستقل.
قائمة الذين امتنعوا عن التصويت ضمت كتلة يعتد بها من القارة الإفريقية، بينها دول لم يكن متصورا أن تصوت على هذا النحو مثل إفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية ومدغشقر ومالى ونامبيا.
كان لافتا أن دولة كباكستان تربطها علاقات صداقة وتحالف مع الغرب منذ استقلالها امتنعت عن التصويت، فيما بدا أنه نزوع للخروج عن السرب الأمريكى واحتذاء للجارة اللدودة الهند، لكن لأسباب أخرى تستحق الإجلاء فى عالم مضطرب فى مواقفه وحساباته.
كما كان لافتا أن إيران، التى بدت أكثر تأهبا واستعدادا للدخول بأى تحالف يضمها إلى روسيا والصين، احتذت الموقف الصينى فى عدم التصويت خشية أية أضرار تلحق بها فى «مباحثات فيينا» لإحياء الاتفاق النووى معها.
هكذا وجدت الدبلوماسية المصرية نفسها داخل متاهة الحسابات المتعارضة.
أين تقف بالضبط؟.. أو كيف تتصرف؟
الأمريكيون والأوروبيون يضغطون عبر قنوات عديدة، قبل أن يتجاوزوا كل أعراف العمل الدبلوماسى بصورة غير مسبوقة!
لم تكن القضية فى استكشاف أين تقف القاهرة، ولا فى الاتصال معها بشأن التنسيق فى المواقف.
الجديد والمثير أن الأمور أفلتت مما هو طبيعى إلى ما هو غير طبيعى باجتماع مجموعة سفراء الدول السبع الكبرى فى القاهرة واستصدار بيان يطلبون فيه من كافة الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة إدانة جماعية لما يحدث فى الحرب الروسية الأوكرانية.
«ليس هناك دولة فى العالم تستطيع أن تقبل المساس بسيادة الآخرين لمجرد أن جارها الأقوى يريد ذلك».
لم تكن لتلك الإشارة أية قيمة وصدقية بالنظر إلى مواقف هذه الدول بالذات إلى قضايا الشرق الأوسط المستباح فى أمنه ووجوده!
تبدت فى البيان إشارتان خطيرتان كأنهما تهديدان أحدهما أمنى واستراتيجى والآخر اقتصادى وسياحى.
الأولى: «إن محاولة روسيا زعزعة استقرار النظام الدولى سوف يكون لها صدى أيضا على منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا بما فى ذلك مصر».
والثانية: «إن العدوان الروسى يعنى ارتفاع أسعار القمح والسلع الغذائية فى مصر وأفريقيا».. فضلا عن أنه: «سوف يتعذر على ملايين السائحين الأوكرانيين.. القدوم إلى مصر، الأمر الذى يتسبب فى ضرر مباشر لقطاع صناعة السياحة».
اللافت فى أداء الدبلوماسية المصرية الحيرة التى شابت حركتها، صوتت بـ«نعم»، وأفاضت كلمة مندوبها فى ذكر الأسباب التى دعتها لاتخاذ هذا الموقف، قبل أن تعود لتخفيف أية آثار سلبية محتملة فى العلاقات مع روسيا إلى تبنى موقف آخر
فى محاولة للإفلات من الضغوط المتصاعدة، التى شملت دول العالم بلا استثناء، دعت القاهرة إلى اجتماع للجامعة العربية.
شابت ذلك الاجتماع، الذى عقد على مستوى المندوبين، تباينات حادة أفضت إلى موقف وصفه الأمين العام المساعد السفير «حسام زكى» فى حديث متلفز بأنه «حيادى»، «لا نلوم أو ندين ولكننا نرغب فى المساعدة»!
فى تصويت الأمم المتحدة امتنعت ثلاث دول عربية هى الجزائر والعراق والسودان فيما وافقت الدول العربية الأخرى.
كان ذلك تعبيرا مستجدا عن الفجوات العميقة فى المواقف العربية بشأن أية قضية وجودية أو غير وجودية، مهمة أو غير مهمة!
اللافت فى أداء الدبلوماسية المصرية الحيرة التى شابت حركتها، صوتت بـ«نعم»، وأفاضت كلمة مندوبها فى ذكر الأسباب التى دعتها لاتخاذ هذا الموقف، قبل أن تعود لتخفيف أية آثار سلبية محتملة فى العلاقات مع روسيا إلى تبنى موقف آخر ترجمته المفترضة: «الامتناع عن التصويت».
أهم ما جاء فى إيضاح الخارجية المصرية: «أنه لا ينبغى غض الطرف عن بحث جذور ومسببات الأزمة الراهنة»، وهو نوع من التفهم للمخاوف الأمنية الروسية وشرعيتها.
وأقوى ما فيه: «رفض توظيف منهج العقوبات الاقتصادية خارج إطار آليات النظام الدولى متعدد الأطراف من منطلق التجارب السابقة، التى كان لها آثارها الإنسانية السلبية البالغة وما أفضت إليه من تفاقم ومعاناة المدنيين طوال العقود الماضية».
وهو اعتراض صريح من حيث المبدأ على الحصار المفروض على روسيا.
كان ذلك تصحيحا وضبطا للمواقف خارج قاعة الجمعية العامة، لكنه ضرورى وصحيح ويدعو بمنطقه وظروفه وملابساته لإعادة هيكلة السياسة الخارجية المصرية فى لحظة تحولات عاصفة يقال فيها عن حق إن الأسوأ فى الأزمة الأوكرانية لم يأت بعد.
(*) بالتزامن مع “الشروق“