“نشبت الأزمة في أوكرانيا في وقت تصاعدت حدة التوتر في الشرق الأوسط حيال ما يراه كثيرون تراجعاً في مكانة الولايات المتحدة التي تطمح إلى حل الأزمات عبر الوسائل الدبلوماسية (كما يحدث في الموضوع النووي الإيراني)، وتتفادى التدخلات العسكرية (كما تجلى في أفغانستان). هذا إلى جانب تعاظُم جرأة بعض الأطراف الإقليمية، وعلى رأسها إيران، الذين شعروا بأن مجال عملهم بات أوسع اليوم في ظل الواقع الجيو استراتيجي الآخذ في التشكل.
سؤالان أساسيان يدوران في رؤوس اللاعبين في الشرق الأوسط اليوم، ومن ضمنهم إسرائيل: أولاً، هل هناك تغيير يحدث في الهندسة السياسية الدولية، وفي الأساس تراجُع مكانة وهيمنة الولايات المتحدة وارتفاع مكانة قوى منافسة، وفي مقدمتها روسيا؛ ثانياً، هل تشكل العملية العسكرية في أوكرانيا بداية تأسيس “عقيدة القوة” في الساحة الدولية وتراجُع مكانة الأدوات الدبلوماسية السياسية والاقتصادية التي تمثلها واشنطن؟
المعسكر السّني العربي؛ السير بين القطرات
حتى اللحظة، تبنّى العالم العربي سياسة حذرة إزاء ما يخص الأزمة، ويفحص كيفية تطورها، في محاولة لتفادي الضرر في مصالح العرب مع الغرب، ومع روسيا أيضاً. إذاً، وباستثناء سوريا والحوثيين في اليمن الذين وقفوا إلى جانب موسكو، امتنعت الدول العربية من إدانة العدوان الروسي على أوكرانيا بصورة مباشرة. وفي الخلفية، يبدو القلق واضحاً لدى “الدول السّنية” من الضرر الذي يمكن أن يلحق بصورة الولايات المتحدة بسبب العملية الروسية، والأمر الذي يمكن أن يعزز القلق الموجود أصلاً لدى العرب بسبب سياسات واشنطن منذ وصول إدارة جو بايدن إلى الحكم وتعامُلها المتهاون مع طهران، وكذلك انسحابها المتسرع من أفغانستان، وعدم رغبتها في التدخل في أزمات إقليمية، كالصراع القائم بين دول الخليج والحوثيين المدعومين من طهران في اليمن.
خلال جلسة طارئة لجامعة الدول العربية لبحث التطورات في أوكرانيا، امتنعت الدول من إدانة روسيا، ودعت إلى التوصل إلى حل دبلوماسي بين الأطراف. وزارة الخارجية المصرية أصدرت بياناً أشار إلى أن “مصر تتابع، بقلق، تطورات الأمور في أوكرانيا”، وشدد على الحاجة إلى الدفع قدماً بالحوار، وإلى خطوات دبلوماسية لحل الأزمة سياسياً. أما قطر، والكويت، والأردن، وليبيا، فأصدرت بياناً في صيغة مشابهة شددت فيه على أهمية احترام سيادة أوكرانيا ووحدتها مع حفظ سلامة المواطنين، من دون إدانة واضحة لروسيا. وفي هذه المرحلة، يمكن الإشارة إلى أن العالم العربي، باستثناء سوريا التي دعمت روسيا كلياً، يحاول أن يناور ما بين واشنطن وموسكو من دون تحمُّل التبعات التي يمكن أن تنتج من دعم مباشر وصريح لأحد الطرفين.
الإمارات والسعودية امتنعتا من إدانة روسيا بسبب الرغبة في الحفاظ على التعاون في مجاليْ الأمن والطاقة مع موسكو، اللذين ارتفعت أهميتهما ومكانتهما خلال الأعوام الأخيرة. فالإمارات التي لديها مقعد موقت في مجلس الأمن، امتنعت من التصويت على إدانة روسيا مع الصين والهند، على الرغم من الضغط الأميركي عليها. وهنا، من المهم الإشارة إلى أن التحفُّظ السعودي – الإماراتي عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يتمحور على توجُّه واشنطن نحو آسيا، والتنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا، والتقليص المستمر للوجود والتدخل الأميركي في الشرق الأوسط.
يبدو قرار السعودية والإمارات بشأن تعزيز التعاون مع روسيا والصين في مجال الطاقة وعلى المستوى الأمني ضرورياً، في ضوء قراءة الوضع الاستراتيجي، وحاجة كل منهما إلى تنويع الاعتماد على أكثر من مصدر للتعاون، واتخاذ قرارات بشأن إدارة سياسة خارجية مستقلة، حتى لو كانت غير مطابقة للمصالح الأميركية
بالإضافة إلى هذا، لا يزال التوتر موجوداً في العلاقات السعودية – الأميركية في أعقاب قتل الصحافي جمال خاشقجي، على الرغم من العلاقة الاستراتيجية بين البلدين. فلا يزال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الحاكم الفعلي للسعودية، شخصية غير مرغوب فيها في البيت الأبيض. هذا بالإضافة إلى تجميد بيع مقاتلات F-35 للإمارات بسبب التخوف من استخدامها في اليمن وتسريب بياناتها السرية التكنولوجية إلى الصين، وعدم استعداد الولايات المتحدة لتصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية وفرض عقوبات عليهم. والأهم، الاتفاق النووي الذي تنوي الولايات المتحدة توقيعه مع إيران في فيينا، والذي يزعزع استقرار السعودية والإمارات، أدى إلى بلورة سياسة خارجية نفعية، تخدم قبل كل شيء المصالح الخاصة بالأمن القومي الخاص بالرياض وأبو ظبي.
لذلك، يبدو قرار السعودية والإمارات بشأن تعزيز التعاون مع روسيا والصين في مجال الطاقة وعلى المستوى الأمني ضرورياً، في ضوء قراءة الوضع الاستراتيجي، وحاجة كل منهما إلى تنويع الاعتماد على أكثر من مصدر للتعاون، واتخاذ قرارات بشأن إدارة سياسة خارجية مستقلة، حتى لو كانت غير مطابقة للمصالح الأميركية. ونموذج من ذلك رفض السعودية زيادة إنتاج النفط على الرغم من ارتفاع الأسعار، وكذلك التنسيق المستمر بين الرياض وموسكو في “أوبك +”، حيث تلعبان دوراً مركزياً.
وفي الخلاصة، يبدو أن السعودية والإمارات لن تسارعا إلى تصديع العلاقات الاستراتيجية مع موسكو، والتي تم بناؤها في الأعوام الأخيرة، وبصورة خاصة في ظل الإدراك أن الولايات المتحدة تقوم بتقليص وجودها في الخليج، ولا تردّ على الاستفزازات والعمليات الهجومية التي تقوم بها أذرع إيران في المنطقة ضدها وضد حلفاء لها (…).
في موازاة ذلك، فإن القلق الأساسي في النقاش المؤسساتي والشعبي العربي يتعلق بارتفاع الأثمان الاقتصادية الباهظة التي يمكن أن تنجم عن ارتفاع أسعار الطاقة، والنقص المتوقع في التزود بالقمح، والتدهور إلى أزمة اقتصادية دولية، في ضوء الحرب المستمرة في أوكرانيا، والتي من الممكن أن تنعكس، بالتالي، على استقرار الأنظمة.
مفاوضات فيينا في ظل الحرب الأوكرانية
وصلت المفاوضات بشأن الاتفاق النووي في فيينا إلى مراحلها الحاسمة. تبدو واشنطن كأنها تريد “تنظيف الطاولة” مقابل إيران، لتتفرغ للمنافسة الاستراتيجية مقابل روسيا والصين، وألّا تضطر إلى الانجرار إلى حرب إضافية في الشرق الأوسط. هذه الخطوة، يتم التعامل معها على أنها تهديد استراتيجي لأمن دول الخليج والدول العربية، وتؤدي منذ الآن إلى إعادة تنظيم شاملة لمنظومة التحالفات والعلاقات في المنطقة.
في هذا الإطار، تقود السعودية والإمارات عملية حوار مع إيران بهدف تخفيف التوتر ووقف التصعيد، تخوفاً من مواجهة مباشرة مع طهران، والتقدير أن الاتكال على الولايات المتحدة غير ثابت. هذا التقدير تعزّز بعد الخروج الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان، ويمكن أن يتعزز أكثر في حال حققت عملية القوة الروسية في أوكرانيا أهدافها الاستراتيجية. ضمن هذا الإطار، فإن تعزيز العلاقات بين دول الخليج وإيران، من شأنه أن ينعكس على تطور العلاقات الأمنية والسياسية مع إسرائيل، وعلى قدرة “القدس” على بلورة تأسيس بنية دفاعية إقليمية للجم إيران.
وفي المقابل، تُظهر الحرب في أوكرانيا أهمية وجود بنية عسكرية، ومركزية وجود قوة ردع نووية بهدف تعزيز السيادة وإبعاد التهديدات. فالتعاظم العسكري الإيراني المتوقع ما بعد توقيع الاتفاق النووي، سيؤدي إلى تسريع بناء القوة العسكرية لدول الخليج والدول السّنية، وإلى سباق تسلُّح إقليمي. هذا بالإضافة إلى أن الإدراك أن إيران قادرة على إنتاج قوة نووية شرعية بعد عقد، سيدفع، بمعقولية عالية، دولاً أُخرى في المنطقة (السعودية، مصر، تركيا) للاستثمار في هذا أيضاً، بهدف بناء توازن ردع استراتيجي.
تركيا؛ تفادي نقطة “اللا عودة“
تركيا هي اللاعب الشرق الأوسطي التي تتبنى الموقف الأكثر وضوحاً حيال الأزمة، والوحيدة التي توجّه انتقادات واضحة ضد موسكو. في الخلفية، هناك تضافُر لعدة عوامل، أولها حقيقة أن تركيا هي جزء من حلف شمال الأطلسي – الناتو، بالإضافة إلى طموح أردوغان إلى تحسين صورته ومكانته في الغرب، على أمل أن يثمر الموقف التركي، مستقبلاً، مساعدة خارجية تخفف من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تركيا. ومع هذا، فإن العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وروسيا تخفف من السياسة الخارجية لأنقرة، التي لا تزال تمتنع من اتخاذ خطوات “لا عودة” عنها.
التعبير العملي عن الموقف التركي كان إعلان إغلاق مضيقيْ البوسفور والدردنيل أمام السفن العسكرية، بناءً على طلب من كييف والناتو. وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أشار إلى أن الحرب في أوكرانيا تُرغم تركيا على تفعيل معاهدة مونترو التي وقّعتها في سنة 1936، والتي تحدّ من حركة السفن العسكرية الروسية في البحر الأسود (في حالة الحرب). ومع ذلك، تعبّر الخطوة، في الأساس، عن تضامن رمزي مع الناتو، ومن غير المتوقع أن تؤثر في الحرب في أوكرانيا.
تدير تركيا شبكة علاقات معقدة مع روسيا. فمن جهة، هناك تنسيق وتعاون وطيد في القضايا الأمنية وقضايا الطاقة (غاز، وسياحة، واستخدام نووي لأغراض مدنية، وبيع سلاح، وغيرها)، ومن جهة أُخرى، يقف كلّ من موسكو وأنقرة على جانبيْ المتراس في سوريا وليبيا، كما أن الأزمة الحادة التي اندلعت بين الدولتين بسبب اعتراض مقاتلة روسية في سنة 2015 لا تزال تؤثر في الوعي التركي. وعملياً، عارضت تركيا ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، وأعربت عن تأييدها العلني لسيادة أوكرانيا، وباعت طائرات متطورة من دون طيار لكييف، وهو ما أثار غضباً روسياً، يومها.
نجاح الاستراتيجيا الروسية في أوكرانيا، بالإضافة إلى إظهار موقف صامد، والتمسك بأهدافها، مع إبراز ضعف الغرب وأميركا في ردعها، سيسرّع مسار النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط. وهذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى المزيد من زعزعة أمن “المعسكر السّني” الذي يواجه جرأة إيرانية متزايدة على أكثر من جبهة
وفي مقابل إعلان إردوغان تفعيل الصلاحيات التي تمنحها له المعاهدة لمنع عبور سفن حرب (28 شباط/فبراير)، صرّحت تركيا عن امتناعها من فرض عقوبات وإغلاق المجال الجوي أمام الطيران الروسي. ومع ذلك، من شأن استمرار الأزمة الأوكرانية وازدياد الضغوط من جانب الناتو والولايات المتحدة، أن يؤديا إلى التشدد في السياسة التركية حيال موسكو، وزيادة التوتر القائم أصلاً بين البلدين.
إيران وحزب الله وحماس
كما سائر العالم العربي، الفلسطينيون يجدون أنفسهم وسط مصالح متشابكة أمام الأزمة في أوكرانيا، ويحرصون على عدم تبنّي موقف رسمي وواضح من الموضوع، باستثناء بعض فصائل اليسار الصغيرة، وعلى رأسها الجبهة الديمقراطية التي وقفت إلى جانب موسكو منذ بداية الحرب (…). من جهة أُخرى، يبدو أن هناك بوادر تساؤلات لدى “حماس”، مفادها أن الأزمة الحالية ستؤدي إلى ضرر كبير في صورة ومكانة واشنطن بشكل سينعكس مباشرةً على إسرائيل.
موقف “حماس” يعكس متابعة ودراسة معمقة تجري أيضاً، كما يبدو، لدى حزب الله وإيران بخصوص الأزمة، تصاحبها محاولة لفهم الدلالات الاستراتيجية العميقة لها، وفي رأسها: هل هناك تغيير في النظام الدولي، وفي إطاره هناك شرعية أكثر مما مضى لاستخدام القوة العسكرية، بصورة تسمح لمحور المقاومة باتخاذ خطوات أكثر جرأة؛ ما هو حجم الضرر الذي لحق بقوة الغرب بقيادة الولايات المتحدة، وكيف سينعكس هذا على مكانة إسرائيل وسلوكها؛ وإلى أي درجة سيؤثر الواقع الدولي الجديد في مناطق عمل إسرائيل في كل ما له علاقة بسورية، على سبيل المثال.
خلاصات
سيكون لنتائج الحرب في أوكرانيا انعكاسات مباشرة على الشرق الأوسط على الصعد الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. النجاح الغربي في وضع حدّ للعدوان الروسي، وإظهار قوة من خلال الأدوات الاقتصادية والسياسية للحفاظ على النظام الدولي القائم بقيادة الولايات المتحدة، من شأنه تعزيز مكانة واشنطن في الشرق الأوسط، وبصورة خاصة مع “المحور السّني” الذي عبّر منذ وقت عن قلقه المستمر من تضعضُع مكانة الدعامة الأميركية. هذا الأمر يمكن أن يحدث في الأساس في حال “تراجُع” موسكو، ولكن أيضاً في حال غرقت في صراع طويل ومستمر يستنزف قدراتها في أوكرانيا.
في المقابل، فإن نجاح الاستراتيجيا الروسية في أوكرانيا (إخضاع الدولة عسكرياً، أو تنصيب حكومة طوارئ توقّع تنازلات سياسية)، بالإضافة إلى إظهار موقف صامد، والتمسك بأهدافها، مع إبراز ضعف الغرب وأميركا في ردعها، سيسرّع مسار النفوذ الروسي والصيني في الشرق الأوسط. وهذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى المزيد من زعزعة أمن “المعسكر السّني” الذي يواجه جرأة إيرانية متزايدة على أكثر من جبهة، إلى جانب توقيع متوقع للاتفاق النووي، وسيدفع به إلى تفاهمات إضافية مع موسكو، بهدف لجم التهديدات المتزايدة لهم.
في جميع الأحوال، إن عودة “الحرب الباردة” بين روسيا والولايات المتحدة ستؤثر في قدرة إسرائيل على المناورة بين القوتين، ومن شأنها حصْد ثمن عالٍ جداً منها. فوجودها الواضح إلى جانب الولايات المتحدة، وتعريفها الولايات المتحدة بأنها السند الاستراتيجي، من شأنه أن ينعكس مباشرة على صورة إسرائيل في عيون اللاعبين في الشرق الأوسط، وفهمهم لحدود العمل مقابلها، وبصورة خاصة إذا اتضح أكثر الافتراض أن تغييراً حدث في قواعد اللعبة والتوازنات الاستراتيجية”. (المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية).