الشرق الأوسط الجديد بلغة خرائط أميركا القديمة

يُقدّم أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن مارك لينش قراءة تفصيلية للتغيرات الحاصلة في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين، الأمر الذي يستوجب من صناع القرار العالمي ولا سيما الولايات المتحدة قراءة الخريطة الجديدة للشرق الأوسط بكل دينامياتها وقواها وعلاقاتها ومصالحها المتحركة.

ما زالت السياسة الخارجية للولايات المتحدة ترتبط بخريطة ذهنية ضيقة للشرق الأوسط. منذ السنوات الأولى للحرب الباردة، نظرت واشنطن إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي ومعه إيران وإسرائيل وتركيا.. إستناداً إلى الإستمرارية الجغرافية، والتفاهمات المنطقية الخاصة بالمنطقة، وتاريخ القرن العشرين، هذا هو الشرق الأوسط بالنسبة للجامعات والمؤسسات الأميركية ومراكز الفكر وكذلك وزارة الخارجية، وهو الأمر الذي يشير إلى إختلال في صنع السياسات الأميركية في ظل التمسك بالنموذج القديم للمنطقة (…).

الرسم التخطيطي للحرب الباردة

في القرن التاسع عشر، أدَّت المشاريع الإمبراطورية البريطانية والفرنسية إلى ظهور فكرة منطقة متميزة حددتها بشمال إفريقيا والشام. فخلال فترة (1830- 1912)، احتلت فرنسا الجزائر وتونس والمغرب، وساهمت في التمييز بين إفريقيا السوداء الفرنسية والمغرب العربي الفرنسي من العرب والأمازيغ من ذوي البشرة الفاتحة (وفق التصنيف العرقي وليس الحاجز الطبيعي للصحراء). كما رسمت العنصرية نفسها حاجزاً صعباً بين السكان المتشابهين ثقافياً في حوض البحر الأبيض المتوسط، مع تمييز جنوب أوروبا الأبيض بالقوة عن شعوب الشرق الأدنى عبر البحر في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية.

من جانبهم، أطلق البريطانيون على المنطقة اسم “الشرق الأدنى” بسبب دورها كنقطة عبور على طول الطريق إلى مصالحهم الاستعمارية الأساسية في الهند و”الشرق الأقصى” أو آسيا. بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، اكتسبت المنطقة أهمية جديدة. ربطت المصالح الإمبراطورية البريطانية الآن شبه الجزيرة العربية بمصر والشام، مع تمييز تلك المناطق من النقاط الشمالية والشرقية والجنوبية. وظلَّت سلسلة من المحميات على طول شبه الجزيرة العربية تحت السيطرة البريطانية حتى عام 1971، ما عزَّز الحدود الاستعمارية القديمة بعد فترة طويلة من بدء القوات الأخرى في إعادة تشكيل المنطقة. كما ساعدت مجموعة من الافتراضات الأيديولوجية حول الغرائبية المفترضة للعرب والفُرس والأتراك، وهي النظرة التي أطلق عليها الباحث الأميركي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، “الاستشراق”، في تشكيل فكرة أن هذه المنطقة الشاسعة يجمعها قاسم مشترك أساسي، وهو: التخلف الثقافي.

من خلال بقائها عالقة في مفهوم قديم عفا عليه الزمن للمنطقة، تُخاطر واشنطن بمصالحها وبعلاقاتها مع اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وتسيء فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى، مثل الصين؛ وتفشل في تقدير آثار الإنسحاب الأميركي

بعد الحرب العالمية الثانية، ودخول الولايات المتحدة في حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي، عدَّلت وزارة الخارجية الأميركية المفهوم الأنجلو-فرنسي للمنطقة ليتلاءم وأغراضها الخاصة. وضع صانعو السياسة الخارجية الأميركية أهدافاً رئيسية، هي: ضمان الوصول إلى النفط في شبه الجزيرة العربية، حماية إسرائيل، إبقاء ممتلكات البريطانيين والفرنسيين في شمال إفريقيا خارج دائرة النفوذ السوفياتي. ثم استوحوا من هذا كله اسم “الشرق الأوسط” الخاص بهم.

11 أيلول.. والعراق

خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ساعدت الأولويات الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة في إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الخريطة في الدوائر الأكاديمية وصنع السياسات. وجه قانون تعليم الدفاع الوطني لعام 1958 الموارد الفيدرالية بإجراء دراسات عن المنطقة ودعم أولويات الحرب الباردة. وقد انضمت إلى هذا الجهد منظمات غير ربحية كبيرة، مثل مؤسسة فورد. قسّم النهج الجديد العالم إلى مناطق مختلفة، كان الشرق الأوسط إحداها. نتيجة لذلك، طوَّر علماء الشرق الأوسط خبرة عميقة حول ثقافات ولغات وتاريخ وسياسات هذه البلدان. ولم يتوقعوا أن يعرفوا الكثير عن جنوب الصحراء الكبرى أو أفغانستان وباكستان.

في تلك السنوات الأولى من الحرب الباردة، عزَّزت الوحدة العربية، التي دعا إليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فكرة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية وليست بُنية مُصطنعة. أدت القضية الفلسطينية والنضال من أجل إنهاء الاستعمار إلى تنشيط العالم العربي وتوحيده (…).

وفَّر هذا المفهوم للشرق الأوسط الأساس لسلسلة من السياسات الخارجية الأميركية والتحالفات الأمنية، وهي علاقات ساهمت في الحفاظ على تدفق النفط لعقود طويلة، برغم الاضطرابات وعدم الإستقرار، مثل الثورة الإسلامية في إيران (1979). ومع ذلك كانت هناك تكاليف. فقد تم تدريب الأكاديميين وصانعي السياسات على التفكير وفقاً لهذه الخريطة، وغالباً ما استلهموا من وجهات النظر الاستشراقية الموروثة من الحقبة الاستعمارية، وكانوا يميلون إلى استخلاص استنتاجات حول المنطقة دون مراعاة للقوى الاجتماعية والسياسية العديدة التي تجاوزت حدودها. على سبيل المثال، سُرعان ما أنتجت هجمات 11 أيلول/سبتمبر إجماعاً على أنها كانت مدفوعة بأمراض معينة في الشرق الأوسط العربي. وكل التحليلات انحصرت في شرح مفهوم “الجهاد” من خلال الثقافة العربية وتجاهلت الصعود الموازي للإسلاميين وأشكال أخرى من التطرف الديني في إفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء أخرى كثيرة من العالم.

وبالمثل، فإن الفكرة الراسخة بأن الدول الإسلامية؛ دون سواها؛ تقاوم الديموقراطية إنما هي فكرة تتجاهل الوقائع الحقيقية وراء ظاهرة الاستبداد في الشرق الأوسط: ممالك النفط المدعومة من الغرب والرجال العرب الأقوياء مع القليل من المساءلة والحكم السيئ. كما أنها تتجاهل حقيقة المشاركة المنتظمة للمسلمين في العديد من الديموقراطيات خارج الشرق الأوسط؛ من الهند وإندونيسيا إلى الولايات المتحدة نفسها. ولتبرير عقود من الفشل الأميركي في دعم الإصلاح السياسي الحقيقي هناك، أُستخدم الإفتراض القائل بأن المسلمين سيختارون حتماً حكومات إسلامية راديكالية إذا أُتيحت لهم الفرصة.

تشكل “شرق أوسط” الولايات المتحدة على أساس: ضمان الوصول إلى نفط الجزيرة العربية، حماية إسرائيل، وصون التاريخ الاستعماري

كان المفهوم الأميركي للشرق الأوسط في كثير من الأحيان بمثابة قيد أكثر منه رصيداً، وأثبت على مدى عقود أنه مفهوم لزج. حتى بعد أن كشفت أحداث 11 أيلول/سبتمبر؛ وبقوة؛ عن الروابط العالمية لمجموعة مثل تنظيم القاعدة؛ الذي له جذور في أفغانستان ومصر والسعودية والسودان؛ استمرت السياسة الأميركية في أن تكون مدفوعة بالنموذج القديم. كان غزو العراق مبرراً جزئياً من خلال التصميم على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، مع “أجندة الحريات والحقوق” لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش التي دفعت بحرب أفكار تستهدف عالماً عربياً كان من المفترض أن يكون عرضة للاستبداد والعنف الطائفي. وفي الآونة الأخيرة، أدَّت افتراضات مماثلة إلى فشل واشنطن في توقع موجة الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في الفترة 2010-2011، أو الرد عليها بفعَّالية.

سياسات خارج الحدود

بالنسبة لصنَّاع السياسة في واشنطن، قدَّمت الانتفاضات العربية درساً مُخادعاً. في البداية، بدا أن الانتشار السريع للاحتجاجات؛ من تونس ومصر إلى معظم أنحاء المنطقة؛ يُظهر التماسك المتجدد في الشرق الأوسط. ومما زاد من التأكيد على فكرة الساحة الجيوسياسية الواحدة كان التنافس الذي تلا ذلك: فقد تدخلت قطر والسعودية والإمارات في حروب ليبيا وسوريا واليمن، وكان لها دورٌ اساسي في التحولات التي حدثت في مصر وتونس. ومع ذلك، فإن دول المنطقة التي نما نفوذها أكثر من غيرها؛ إيران وإسرائيل وتركيا؛ لم تكن جزءاً من العالم العربي. علاوة على ذلك، سُرعان ما أصبح المستبدون العرب ينظرون إلى الترابط بين شعوبهم على أنه تهديد لبقائهم، وسعى كثيرون إلى قمع الحركات السياسية العربية مثل جماعة الإخوان المسلمين وشبكات النشطاء الليبراليين على حدٍ سواء. وبالتالي، تم القضاء على آمال التغيير السياسي في جميع أنحاء المنطقة من خلال تصدع جديد، مع انزلاق ليبيا وسوريا إلى الفوضى، وبحث العديد من الملوك العرب عن مصادر جديدة للشرعية ليس لها علاقة تُذكر بالجمهور العربي الأوسع.

التطورات السياسية في العديد من دول الشرق الأوسط جعلت الحدود التقليدية للمنطقة بلا معنى على نحو متزايد. أظهرت ثورة السودان في العام 2018؛ والإنقلاب العسكري الأخير الذي دعمته مصر وعارضه الاتحاد الإفريقي؛ مدى انقسام البلاد بين منطقتين. وفي أماكن أخرى في إفريقيا، أدت الهجرة ونمو حركات التمرد الإسلامية عبر منطقة الساحل إلى تحويل المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لدول المغرب العربي نحو الجنوب. وقد غذَّت الحرب الأهلية الليبية تدفقات المهاجرين والأسلحة والمخدرات والتطرف في جميع أنحاء وسط إفريقيا، ما زاد من ضبابية الخط الفاصل بين شمال إفريقيا وبقية القارة. العديد من المهاجرين الذين يصلون إلى أوروبا من الشرق الأوسط ينحدرون من بلدان جنوب الصحراء. واستجابة للأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الساحل، ركَّز المغرب على نشر سلطته الدينية في غرب إفريقيا، وشاركت الجزائر في العمليات الأمنية في مالي.

كشفت ديناميات سياسية أخرى أيضاً عن القيمة المحدودة لتعريف الشرق الأوسط كمنطقة جغرافية واحدة. فالتنافس الإيراني- السعودي، على سبيل المثال، ليس له أهمية تُذكر في شمال إفريقيا. والمعركة السياسية التي اندلعت بين قطر والسعودية والإمارات؛ بعد حصار قطر عام 2017؛ لعبت دوراً في المنافسة للحصول على الدعم ليس فقط في الدول العربية المجاورة ولكن أيضاً في جميع أنحاء القارة الإفريقية وحتى في واشنطن. كانت جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أكثر من جاذبية “القاعدة”، وكانت عالمية أكثر منها إقليمية، كما اتضح من تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا وانتشار الحركة عبر إفريقيا وآسيا. من الصعب الحفاظ على نماذج مكافحة الإرهاب القائمة على المشاكل التي يُقال إنها عربية عندما تتكشف بعض حركات التمرد الجهادية الأكثر نشاطاً في مالي ونيجيريا والصومال.

في الوقت نفسه، زعزعت الحرب الأهلية في ليبيا استقرار مالي والدول الإفريقية المجاورة الأخرى. وعندما أقامت السعودية تحالفاً لدعم تدخلها ضد الحوثيين في اليمن (2015)، لم تطلب المساعدة فقط من الدول العربية ذات التفكير المماثل، بل ومن إريتريا وباكستان والسودان أيضاً. كذلك، كان الحصار البحري الذي فرضته الإمارات ضد الحوثيين بوابتها لبناء وجود عسكري لها عبر القرن الإفريقي وتحصين جزيرة سُقطرى ذات الموقع الإستراتيجي، والتي هي أقرب إلى إفريقيا من شبه الجزيرة العربية. إن الصراع في اليمن لعب دوراً في إثارة التساؤل حول الحدود المفترضة للمنطقة.

إقرأ على موقع 180  إلى أين وصلت المباحثات السعودية الإيرانية؟ 

الأسواق تتحرك شرقاً

الديناميات السياسية الأخيرة جعلت الخريطة القديمة للشرق الأوسط مستند عفا عليه الزمن. منذ الخمسينيات وحتى الثمانينيات، أدَّت الهجرة الجماعية للعمال من الدول العربية الأكثر فقراً إلى دول الخليج سريعة التطور والثراء إلى خلق روابط قوية داخل المنطقة. ولعبت التحويلات المالية دوراً رئيسياً في الاقتصادات غير الرسمية في مصر ومعظم دول بلاد الشام. كما أن الإقامات الطويلة للعمال في دول الخليج ساهمت في انتشار الأفكار الإسلامية المحافظة التي كانت محصورة في السعودية. ولكن بعد الغزو العراقي للكويت (1990)، وتصنيف العمال الفلسطينيين واليمنيين على أنهم غير موالين، تم استبدال العمال المهاجرين العرب بعمال من جنوب آسيا على إعتبار أنهم أكثر أماناً من الناحية السياسية. وهذا أضعف الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين منطقة الخليج وبقية دول الشرق الأوسط إلى حد كبير، بينما عزَّزها بين الخليج ودول المحيط الهندي.

وبالمثل، فقدت وسائل الإعلام العربية الكثير من تماسكها. حتى عام 2011، ساهمت الفضائيات العربية كثيراً في تشكيل ثقافة مشتركة على المستوى الشعبي، حتى أثناء الانتفاضات العربية. ولكن في العقد الذي تلا ذلك، أصبح المشهد الإعلامي مبلقناً، ما يعكس الاستقطاب السياسي في المنطقة. وهكذا، فبعد أن كانت قناة “الجزيرة” منصة مشتركة للسياسة العامة العربية في التسعينيات والسنوات الأولى من هذا القرن، أصبحت بعد عام 2011 مثل العديد من المنصات الإعلامية الحزبية، بما فيها مجموعة “روتانا” (مقرها السعودية) وقناة “العربية” (مقرها الإمارات)، و”العالم” (مقرها إيران). هذه المحطات عزَّزت الاستقطاب السياسي. حتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت ذات يوم قوة لتكامل الجمهور العربي، تم إستغلالها من قبل أنظمة (مصر والسعودية) وتحولت إلى صوامع معادية.

دبي لديها الكثير من القواسم المشتركة مع سنغافورة وهونغ كونغ أكثر مما لديها مع بيروت أو بغداد. والسعودية والإمارات تستخدمان أدوات مراقبة رقمية إسرائيلية مثل الصين

على مدى العقدين الماضيين، أعادت الأسواق المالية العالمية تشكيل توجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الكويت وقطر والسعودية والإمارات. ونظراً لاستثماراتها الكبيرة في العقارات والأندية الرياضية الغربية، وروابطها الاقتصادية المتنامية مع آسيا، وتعدادها الكبير من عمال الخدمات غير العرب، فمن المنطقي أن ننظر إلى هذه الأماكن على أنها مراكز للرأسمالية العالمية أكثر من كونها دولاً شرق أوسطية؛ فدبي لديها الكثير من القواسم المشتركة مع سنغافورة وهونغ كونغ أكثر مما لديها مع بيروت أو بغداد. وبالمثل، فإن استخدام السعودية والإمارات لأدوات المراقبة الرقمية الإسرائيلية الصنع يعكس نموذج الصين بقدر ما يعكس نموذج الأنظمة العربية الأخرى. وقد تلعب هذه الروابط العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا قريباً دوراً كبيراً في السياسات الخارجية لهذه الدول كما تفعل أي أولويات إقليمية تقليدية؛ دفعها إلى الاقتراب من آسيا، على سبيل المثال، أو توفير حوافز جديدة لها للتلاعب بالانتخابات في الديموقراطيات الغربية.

في المقابل، تلاشت أهمية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي كان يوماً ما قوة موحدة في العالم العربي، بشكل كبير. في حين أن مواضيع مثل حركة المقاطعة وسحب استثمارات وفرض عقوبات ضد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية صارت تجتذب اهتماماً أكبر في حرم الجامعات الأميركية وفي قاعات الكونغرس أكثر من الشرق الأوسط. وأصبحت أوروبا والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ساحات معركة مركزية للنزاعات الإسرائيلية الفلسطينية أكثر من أي عاصمة عربية. وبينما تحظى القضية الفلسطينية اليوم بتأييد غير مسبوق في الغرب، إلا أنها نادراً ما تحظى بتعاطف مماثل في المنطقة العربية، كما يتضح من قرار البحرين والإمارات بتطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقات أبراهام 2020. وبرغم الآثار الملموسة المحدودة لهذه الاتفاقية، يبدو أن الإسرائيليين يتبنون هذا الإتفاق بشعور من التنفيس، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنه يتم التعامل مع الشرق الأوسط كميدان أساسي للمخاوف الأمنية أو السياسية؛ للعرب والإسرائيليين.

خريطتهم وليس خريطتنا

على مدى 75 عاماً، كان الشرق الأوسط كما نعرفه في جزء كبير منه بنيان التفوق الأميركي. كانت الخريطة الأميركية منطقية لأن أولويات واشنطن في المنطقة يمكن أن تقطع طريقاً مهماً نحو التأثير على سياسة المنطقة. لقد شكلت مذاهب واشنطن الإستراتيجية للحرب الباردة تحالفات وتدخلات منذ أزمة السويس عام 1956؛ عندما أزاحت فرنسا والمملكة المتحدة كقوة غربية أساسية في المنطقة؛ حتى سقوط جدار برلين (1989). ثم رسَّخت حرب الخليج (1990-1991) نظاماً إقليمياً أميركياً بدا فيه أن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. احتكرت أميركا قيادة عملية السلام بين العرب وإسرائيل، وحدد إحتواؤها المزدوج لإيران والعراق الجغرافيا السياسية لمنطقة الخليج.

لكن الموقف العالمي للولايات المتحدة قد تراجع بسرعة. فوسط تداعيات القرار الكارثي لغزو العراق في العام 2003، سعى ثلاثة رؤساء أميركيين متعاقبين إلى خفض التزامات بلادهم في الشرق الأوسط والتحول نحو آسيا. بمقابل هذا التراجع، أكدت قوى إقليمية تعريفاتها الخاصة للمنطقة: نظام يتمحور حول المحيط الهندي لدول الخليج، وتوجه عبر الساحل لدول شمال إفريقيا. هذا لا يعني أن مناطق الصراع التقليدية قد اختفت. فعلى سبيل المثال، نشرت إيران شبكاتها ونفوذها في جميع أنحاء الدول الممزقة مثل العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي تخوض منافسة متزايدة مع إسرائيل والسعودية. ولكن مثل منافسيها الإقليميين، كثَّفت إيران أيضاً أنشطتها في إفريقيا وبدأت في بناء شراكات مع دول في آسيا، وخاصة الصين.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإن صعود حركات التمرد الجهادية في إفريقيا جنوب الصحراء جعل عقيدة مكافحة الإرهاب التي تركز على الشرق الأوسط والتي ظهرت بعد 11 أيلول/سبتمبر غير فعَّالة. فعلى الرغم من انسحاب جزء كبير من القوات الأميركية من العراق وسوريا، تستمر الهجمات التي تشنها الطائرات المسيَّرة الأميركية وعمليات مكافحة الإرهاب من الصومال وعبر منطقة الساحل. المُربك، أنه حتى مع إعلان واشنطن نيتها الخروج من الشرق الأوسط، فإنها تحافظ على البنية العسكرية نفسها بل وتوسعها، للتعامل مع العديد من المخاوف الأمنية نفسها، في منطقة الساحل وشرق إفريقيا.

مع تراجع واشنطن في المنطقة، تعيد القوى الإقليمية تعريف الشرق الأوسط

الآن، يجب على واشنطن أيضاً أن تتعامل مع بكين، التي تفكر في الشرق الأوسط بشكل مختلف عمَّا تفكر هي فيه. فالخريطة التي تتبعها الصين للمنطقة تلحظ مصالحها الإستراتيجية الخاصة، وليس مصالح واشنطن. ومن خلال مبادرة الحزام والطريق، وسَّعت بكين مصالحها في مجال الطاقة في الخليج وعزَّزت وجودها في إفريقيا، ووقعت اتفاقيات مع دول الخليج لرأب الصدع مع إيران وذلك من خلال التقليل من أهمية السياسة والتركيز على البنية التحتية وموارد الطاقة. المشاركة الصينية المتزايدة فتحت آفاقاً جديدة لتحقيق الاستقرار في إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي، لكنها أيضاً ضاعفت فرص سوء التفاهم، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الإقليمية وتنافسها المتزايد مع الصين.

إذا بدأ الباحثون والمحللون وصُنَّاع القرار الأميركيون في تغيير فهمهم للشرق الأوسط على أنه منطقة جغرافية منفصلة، فإن العديد من هذه التطورات الأخيرة ستبدو أقل إثارة للدهشة، وسيؤدي إلى فهم أفضل للواقع المتغير على الأرض.

لكن ثمة مخاطر من إتباع نهج عابر للأقاليم. إن مجرد تبني تعريف البنتاغون الأوسع للمنطقة قد ينتهي به الأمر إلى إعادة إنتاج التركيز المدفوع بالأمن الذي ميَّز العديد من السياسات الأميركية الفاشلة في أفغانستان والشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. ستكون هذه مأساة جديدة. يجب على الأكاديميين وصانعي السياسات ليس فقط تجاوز النماذج القديمة ولكن أيضاً إعادة التفكير في كيف يمكن لواشنطن دعم التنمية والحكم الرشيد في المنطقة. هذا سيساعدها في التعامل بفاعلية أكثر مع أزمة الهجرة في إفريقيا وأوروبا، ومواءمة القوى العالمية بشكل أفضل للرد على الحروب الكارثية في ليبيا واليمن، وتجنب الصراع غير الضروري مع الصين في المجالات والقضايا التي سيكون التعاون بشأنها أكثر منطقية. إن التخلي عن الافتراضات الثقافية والسياسية القديمة حول الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة في سياق عالمي أوسع يمكن أن يمكّن واشنطن وحلفاءها من العمل بجدية في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز التغيير الديموقراطي الحقيقي هناك.

ومن خلال بقائها عالقة في مفهوم قديم عفا عليه الزمن للمنطقة، تُخاطر واشنطن بمصالحها وبعلاقاتها مع اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وتسيء فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى، مثل الصين؛ وتفشل في تقدير آثار الإنسحاب الأميركي. سيكون من الصعب التفكير خارج الشرق الأوسط: فالخبرة المتراكمة، وأنماط التفكير، والهياكل البيروقراطية الراسخة، كلها تقف في الطريق. لكن الديناميات المتغيرة للقوى العالمية والممارسات الإقليمية تعيد توجيه العديد من الدول الرائدة في الشرق الأوسط بسرعة، ولا تعد الخريطة المتبعة هي خريطة واشنطن وحدها. الأمر متروك الآن لواشنطن لتتعلم قراءة الخريطة الجديدة.

(*) النص بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مثلث الصين ـ السعودية ـ إيران.. تقاطع المصالح