مفاوضات فيينا.. إحياء إتفاق ميت أو إعلان وفاة؟

يقول محمد جواد ظريف قبل أشهر على تركه منصبه وزيراً للخارجية الايرانية: "ظروف اليوم لن تتكرر بعد ستة أشهر والعالم سيكون عالما آخر، كل شيء يتغير".. وهذا ما حدث بالفعل. كيف؟

بالصدفة توقفت مفاوضات فيينا لاحياء الاتفاق النووي تزامنا مع بدء الحرب الروسية على اوكرانيا في نهاية شباط/فبراير الماضي. لکنها لیست صدفة أن تتغير الظروف الدولية والاقليمية. أزمات دولية غير مسبوقة منذ إنتهاء الحرب الباردة قبل ثلاثة عقود. أزمات إقليمية تشتعل وأخرى تلوح في الأفق. ظروف إيران الداخلية كما ظروف الولايات المتحدة ودول الترويكا الاوروبية أو روسيا أو الصين كلها تتغير. بإختصار؛ ظروف عالم السياسة سائلة وغير مستقرة وهذه قاعدة يعرفها الجميع.

بهذا المعنى، تواجه مفاوضات فيينا المتوقفة منذ أكثر من شهرين حقولاً من الألغام والأزمات والأسئلة: أي تأثير للأزمات كلها على مفاوضات فيينا؟ ما مصير هذه المفاوضات؟ هل مات الاتفاق النووي فعلا، أم أن الآمال بانعاشه ما تزال قائمة؟

الحرب الروسية على اوكرانيا

قبل أسابيع قال مندوب روسيا الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا ميخائيل اوليانوف: “لو کانت الظروف مختلفة لكان ربما بإمكان روسيا مساعدة الطرفين (ايران والولايات المتحدة) للتوصل الى اتفاق لاحياء الاتفاق النووي ولكن الآن لا”. كلام ليس بعيدا عن حقائق الصراع الدولي ولو أن إيران الرسمية، على عكس ايران الشعبية، لا تأخذه على محمل الجد. يقول المتحدث باسم الخارجية الايرانية سعيد خطيب زاده: “دور روسيا في مفاوضات فيينا بناء، والصوت الذي نسمعه منها هو ما سمعناه خلال اللقاء مع السيد (سيرغي) لافروف في موسكو، ولا تهمنا تغريدات بعض الاشخاص”.

وبعيدا عن النظرة الشعبية الايرانية لروسيا والمرتبطة بالذاكرة التاريخية للشعب الايراني، وبعيدا عن المواقف الرسمية فإن تبعات الحرب الروسية على اوكرانيا تفرض نفسها في معادلات ايران.

سلاح الطاقة، من النفط الى الغاز، الذي اشهره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ بداية الحرب بوجه اوروبا دفع الاتحاد الاوروبي والدول الاوروبية للتحرك سريعا، بإتباع استراتيجية حلول قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى لتنويع مصادر الطاقة سواء من ناحية الاعتماد على النفط والغاز او من ناحية عدم الاعتماد على عدد محدود من الدول. هنا برزت الحاجة الى عودة النفط والغاز الايراني الى السوق الدولية سريعاً، خاصة مع ارتفاع الأسعار، “ما دفع روسيا الى الحذر من التفاف ايران عليها”، كما يقول خبراء، خاصة مع مسارعة الاوروبيين لتحريك مفاوضات فيينا من خلال زيارة منسق مفاوضات فيينا ومندوب الاتحاد الاوروبي اينريكي مورا الى طهران.

تقول مصادر مطلعة ان الدوحة “تنشط في ملفات أخرى بينها تحرير اموال إيرانية محتجزة في الخارج وتبادل السجناء بين ايران ودول غربية خاصة الولايات المتحدة الاميركية”، وهذا برأي العديد من المراقبين يمكن أن يساعد في ترطيب الاجواء المرتبطة بمفاوضات فيينا

ماذا حمل مورا الى طهران؟

في طهران، خاض مورا مفاوضات ماراتونية مع كبير المفاوضين الايرانيين علي باقري كني، على مدى اكثر من 48 ساعة امضاها في العاصمة الايرانية لم يتمكن خلالها من عقد لقاء خاص مع وزير الخارجية الايراني حسين امير عبد اللهيان ولا مع أي مسؤول في المجلس الأعلى للأمن القومي الايراني، برغم طلبه ذلك كما كانت وزارة الخارجية الايرانية قد أعلنت. وتقول مصادر دبلوماسية في طهران إن مورا حمل طيفاً من المقترحات أحدها يتضمن تعليق العقوبات المفروضة على الحرس الثوري (رفعها عن أكثر من عشرين شخصية من قادته) لكنه يبقي قيادات ومؤسسات للحرس على لائحة الارهاب الاميركية، “لكن أياً من مقترحات مورا لم تفلح في اقناع الجانب الاميركي برفع الحرس الثوري عن قائمة الارهاب الاميركية”.

مباحثات مورا لم تحقق خرقاً ولم تكن سهلة “إلا أنها لم تكن مخيبة للآمال”، على حد تعبير المصادر الإيرانية، ذلك أن الدبلوماسي الأوروبي أتى بمقترحات وغادر طهران مُحمّلاً بإقتراحات جديدة حول إشكالية الحرس الثوري. لكن مشكلة مفاوضات فيينا لا تتوقف على بقاء الحرس الثوري الايراني على لائحة ارهابية او تحت العقوبات الأميركية، كما يقول مستشار الوفد الايراني المفاوض في فيينا د. محمد مرندي، “فالمسألة المهمة بالنسبة لايران هي بقاء الولايات المتحدة في الاتفاق (الضمانات) وانهاء العقوبات”.

وبين أفكار طهران والاتحاد الاوروبي، تنشط اطراف مختلفة لتسهيل مفاوضات فيينا: سلطنة عمان الحاضرة دائماً؛ قطر التي لا تألو جهدا في دعم دبلوماسية مفاوضات فيينا “باعتبارها الخيار الوحيد”، كما يقول أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال لقائه الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي في طهران تزامنا مع اليوم الأخير من مفاوضات مورا في طهران. في السياق ذاته، يوضح أمير قطر في كلمة له في الجلسة الافتتاحية لمنتدى دافوس الإقتصادي العالمي أن الدوحة “لا تدعي أنها تلعب دور الوسيط الرسمي بين إيران والغرب.. إيران جارتنا ونحن نحاول مساعدتهم وحث الجميع للعودة إلى الاتفاق النووي”.

وتقول مصادر مطلعة ان الدوحة “تنشط في ملفات أخرى بينها تحرير اموال إيرانية محتجزة في الخارج وتبادل السجناء بين ايران ودول غربية خاصة الولايات المتحدة الاميركية”، وهذا برأي العديد من المراقبين يمكن أن يساعد في ترطيب الاجواء المرتبطة بمفاوضات فيينا.

أميركا المتناقضة!

جهود اوروبية واقليمية تسابق الزمن في وضع يبدو معقدا جدا رسمه المبعوث الاميركي الخاص بايران روبرت مالي في افادته امام الكونغرس الاميركي حيث قال “انه بعد الانسحاب من الاتفاق النووي حققت ايران تقدما تكنولوجيا وبات قادرة على حيازة قنبلة نووية خلال أسابيع”.

مالي الذي أشار الى ان “احتمالات نجاح مفاوضات العودة للاتفاق النووي أقل من احتمالات فشلها”، لم يغلق باب الدبلوماسية الذي يقول انه “الحل الوحيد مع ايران”، لكنه المح ايضا الى “احتمال شن هجمات لمنع ايران ووكلائها من تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة ومصالحها”، وجمع روبرت مالي الشيء وضده بانتقاده سياسة عقوبات دونالد ترامب، ذلك أن “سياسة الضغوط القصوى لم تنتج قيودا قوية وطويلة الأمد على برنامج ايران النووي” من جهة واعلانه “استعداد واشنطن لفرض وتكثيف العقوبات على ايران في حال عدم التوصل لاتفاق” من جهة أخرى. افادة مالي تكشف جانبا من تعقيدات مفاوضات فيينا النووية.

جنوب سوريا

ويقول مسؤول استخباراتي اميركي لصحيفة “نيويورك تايمز” إن اسرائيل ابلغت الولايات المتحدة بأنها وراء مقتل العقيد في الحرس الثوري حسن صياد خدايي، وأن اسرائيل ارادت أن يكون ذلك بمثابة تحذير لإيران لوقف استهداف المواطنين الإسرائيليين في الخارج.

حادثة غير مسبوقة، فهي المرة الاولى التي تستهدف فيها اسرائيل شخصية عسكرية ايرانية بشكل مباشر داخل الاراضي الايرانية.

ويقول مراقبون إن الأمر ليس ببعيد عن تطورات تحصل في المنطقة الجنوبية في سوريا، في اطار ما فرضته تبعات الحرب الروسية على اوكرانيا والتطورات في سوريا والانتشار العسكري للقوات الاجنبية على اراضيها، ويقول وزير الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، في حوار معه مؤخرا “إن القوات الروسية في سوريا، لم يتبق لديها مهام عسكرية تقريبا وعددها على الأرض تحدده مهام محددة، وعلى أساس مبدأ المصلحة”.

يتقاطع مصدران ايراني وأوروبي عند القول بأن الأوروبيين قدموا مقترحا يدعو إلى تطبيع العلاقات الاقتصادية بين ايران ومجموعة 4+1 بضوء اخضر اميركي لكن بشكل غير رسمي، فهل سينجح أم أن تداخل الملفات يدفع باتجاه إحياء ميت إسمه الإتفاق النووي أو إعلان وفاته رسمياً

وفي سياق متصل، تنفي مصادر ايرانية اي انسحاب للقوات الروسية من المنطقة الجنوبية، سواء أكانت شرطة عسكرية ام قوات خاصة، وتوضح أن “المركز الرئيسي للقوات الروسية في الجنوب ما زال في منطقة ازرع، وحيث مقر الفرقة الخامسة السورية، ومن هناك تنطلق الدوريات المشتركة بين الشرطة العسكرية الروسية والامن العسكري السوري، وتصل الى الحدود الاردنية السورية أحيانا”. ووفق المصدر فإنه “في ذروة نشاطها كان عديد القوات الروسية بحدود 40 ألف عنصر، وتقلص بعد انحسار المعارك إلى ما بين 20 الى 25 الفا”. وينفي المصدروجود أي قوات ايرانية في الجنوب السوري، منذ عام 2018. لكن بعيدا عن هذه التفاصيل وعن تسريبات نقلتها وسائل اعلامة ايرانية عن دور صياد خدايي في نقل تكنولوجيا الطائرات المسيرة الى سوريا ولبنان، فإن توعد طهران بالانتقام يفتح باب التكهنات حول مزيد من التعقيد في ملف الصراع الايراني الاسرائيلي، خاصة في ضوء الحادثة التي تلت ذلك في مجمع بارتشين العسكري في طهران.

إقرأ على موقع 180  لبنان وحدوده الجنوبيّة.. في تهافت الخطاب "السّيادي"

وقد نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية عن ثلاثة إيرانيين ومسؤول أميركي، أن الحادثة التي وقعت مساء الأربعاء 25 أيار/مايو 2022 وأدت الى مقتل مهندس واصابة اخر، كانت نتيجة هجوم بطائرة من دون طيار على مجمع بارتشين الذي تجري فيه عمليات تطوير الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة.

حرب الناقلات من جديد

في معادلات المفاوضات النووية وفي خضم إختلاط حابل الملف النووي بنابل الدور الإقليمي، يبحث الجميع عن اوراق القوة، وليس غريبا ان يصل النفط الايراني الى فنزويلا بالتزامن مع توقيف ناقلة تنقل نفط ايرانية تحت علم روسيا، وبعدها بأيام يتم توقيف ناقلة نفط تحمل علم ايران.

تطور لم يكن أمام الدبلوماسية الكثير من الوقت لحله، فبعد ثمان واربعين ساعة من استدعاء ايران للقائم بأعمال السفارة اليونانية في طهران ومطالبته بالافراج عن الناقلة الايرانية واستدعاء القائم بأعمال السفارة السويسرية كراعية للمصالح الاميركية في طهران بعد اعلان اثينا نيتها تسليم شحنة النفط الى الولايات المتحدة لأن التوقيف تم بناء على طلبها، سارعت بحرية الحرس الثوري الى توقيف ناقلتين يونانيتين في المياه الخليجية مقابل بندر لنغه وعسلوية وسحبهما إلى الموانىء الإيرانية مع شحنتيهما القادمتين من البصرة في العراق والمتجهة احداهما الى الولايات المتحدة، لا بل ان طهران هددت بتوقيف المزيد من الناقلات اليونانية في المياه الخليجية، بحسب ما نقلت وكالة “تسنيم” عن “مصادر ايرانية مطلعة”.

وبعيدا عن الاسباب التي تسوقها طهران بشأن توقيف الناقلتين اليونانيتين، فإن التهديد يحمل في طياته ركيزتين اساسيتين تضعهما ايران عنوانا عريضا لتحركاتها:

الأولى؛ ما كان المرشد الايراني علي خامنئي قد قاله قبل سنوات بأن “زمن اضرب واهرب قد انتهى.. ومن يضرب سيتلقى الرد عشرة اضعاف”، وهذا ما أكده سلوك ايران خلال السنوات القليلة الماضية المعلن وغير المعلن، من استهداف قاعدة عين الأسد الاميركية في العراق إلى توقيف الباخرتين اليونانيتين وقبلهما ناقلة النفط البريطانية ستینا ایمبرو رداً على توقيف ناقلة نفط ايرانية (غريس 1) قبل اكثر من عامين.

الثانية، ما اعلنه الرئيس ابراهيم رئيسي عن سياسة حكومته “بالعمل على رفع العقوبات من خلال المفاوضات وابطال اثرها من خلال تحشيد الجهود”، وهذا ما تسعى اليه طهران من خلال الحديث عن صفحة جديدة من التعاون الاقليمي والانفتاح على دول الجوار من اسيا الوسطى الى منطقة الخليج وبالتأكيد الدول الحليفة كروسيا والصين وفنزويلا وغيرها.

لعل أبرز اوراق ايران في معادلات المفاوضات النووية هو قدراتها التقنية النووية التي مكنتها من توطين التقنية النووية ورفع نسبة التخصيب الى 60 بالمئة وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، والأهم امتلاكها التكنولوجييا التي تمكنها من الوصول الى العتبة النووية

العتبة النووية.. والسيناريوهات

ولعل أبرز اوراق ايران في معادلات المفاوضات النووية هو قدراتها التقنية النووية التي مكنتها من توطين التقنية النووية ورفع نسبة التخصيب الى 60 بالمئة وزيادة مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، والأهم امتلاكها التكنولوجييا التي تمكنها من الوصول الى العتبة النووية وهذا تحول كبير يقترب من الواقع مع مضي الزمن ويتساوى ربما مع امتلاك القنبلة النووية، مع فارق وحيد وهو القرار السياسي.

كل هذه التطورات من المواقف الاوروبية الى الاميركية مرورا بالروسية، وكل هذه الجهود بما فيها الاقليمية تضع المفاوضات النووية أمام احتمالات وسيناريوهات مفتوحة:

  • بدءاً من انهيار المفاوضات والاتفاق النووي وبالتالي إرتفاع إحتمالات التصعيد والتوتر، اقليميا ودوليا، مع ما قد يفضي به هذا السيناريو من تدحرج الامور وصولاً الى حرب لا أحد يستطيع التكهن بخواتيمها، وهو خيار لا يرغبه أحد من المشاركين في المفاوضات ولا سيما إيران والولايات المتحدة.
  • وصولا الى العودة الى المفاوضات بعد جولة تصعيدية جمعت فيها الاطراف المختلفة اوراقها ورتبت ملفاتها، وهو خيار يفضله الجميع ويدفع باتجاهه، لكنه الاصعب في ظل مناخ إنعدام الثقة بين الجانبين الأميركي والإيراني.
  • وبينهما سيناريوهات متعددة، تراوح بين عض الأصابع.. وكسر العظام!

وبين سيناريو وآخر، يتقاطع مصدران ايراني وأوروبي عند القول بأن الأوروبيين قدموا مقترحا يدعو إلى تطبيع العلاقات الاقتصادية بين ايران ومجموعة 4+1 بضوء اخضر اميركي لكن بشكل غير رسمي، فهل سينجح أم أن تداخل الملفات يدفع باتجاه إحياء ميت إسمه الإتفاق النووي أو إعلان وفاته رسمياً؟

سيناريوهات عديدة، لا يمكن عزلها لا عن الإنتخابات الأميركية النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ولا عن باقي التطورات الإقليمية والدولية، ولا سيما الحرب الروسية ـ الأوكرانية.

Print Friendly, PDF & Email
حازم كلاس

كاتب وصحافي سوري، متخصص بالشأن الدولي

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مفاوضات فيينا: أبواب مفتوحة.. ولا إتفاق!