الأجواء الفاترة التي رافقت الحملة الانتخابية التي سبقت الاقتراع في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية سرعان ما ترجمت في الاقبال الضعيف جداً على صناديق الاقتراع بحيث بلغت نسبة الممتنعين عن التصويت اكثر من 52 بالمئة وهو رقم قياسي لمثل هذا الاستحقاق ومؤشر واضح لحال اللامبالاة وعدم الاهتمام وايضاً فقدان الثقة بالطبقة السياسية.
وتأتي الانتخابات التشريعية في وقت تشهد فرنسا ارتفاعا مقلقا لأسعار العديد من المواد الغذائية الأولية كالبنزين والمواد الاستهلاكية دون أن تكون الحكومة قادرة على تقليص هذه الأسعار أو تخفيضها، ما أدى ربما بالعديد من الناخبين إلى العزوف عن مراكز التصويت بحكم أن لا شيء قد يتغير في المستقبل.
وقد بدت المواجهة واضحة منذ اللحظة الاولى لانطلاق الحملة بين جهتين سياسيتين: الاولى، ممثلة بفريق الأكثرية الحاكمة الداعمة للرئيس ايمانويل ماكرون؛ الثانية، بزعامة رئيس حزب “فرنسا الأبية” اليساري المتطرف جان- لوك ميلونشون الذي استطاع تكوين تحالف لاحزاب اليسار والتفافها حوله كرئيس لحكومة “تعايش”يسارية تنبثق من اكثرية برلمانية جديدة تعيد التوازن السياسي مع رئيس للجمهورية ينتمي الى اليمين الوسط.
مصير الحكومة الحالية التي تم تعيينها في منتصف أيار/مايو، معلق إلى حين صدور النتائج النهائية للانتخابات التشريعية التي ترشح إليها أعضاء في الحكومة بينهم رئيسة الوزراء إليزابيت بورن. بالتالي سيكون على المرشحين من اعضاء الحكومة البالغ عددهم 15 الاستقالة في حال هزيمتهم بموجب العرف الساري منذ 2017 والذي كرّسه ماكرون
ونظراً لتقارب أصوات المقترعين لمصلحة هذين الفريقين سارع كل منهما للاعلان عن فوزه في المركز الأول الى ان حسمت وزارة الداخلية الموضوع معلنة ان الفارق لا يتجاوز العشرين الف صوت لمصلحة تحالف الاحزاب المؤيدة لماكرون التي نالت 25,75 بالمئة في حين نال تحالف احزاب اليسار 25,66 بالمئة.
ولكن ما هو وضع كل من الاحزاب المتنافسة في ضوء نتائج الدورة الاولى والتي تبقى جزئية في انتظار نتائج الدورة الثانية خصوصاً ان النظام الانتخابي المتبع حالياً يستند الى النظام الأكثري ولا يعتمد النسبية؟ ذلك ان الحصول على نسبة معينة من الاصوات على الصعيد الوطني العام قد لا تترجم بالضرورة على ارض الواقع بعدد مناسب من المقاعد النيابية الموزعة على الدوائر الصغيرة.
أولاً، تحالف اليمين الوسط
استطاع حزب “النهضة” (الاسم الجديد لحزب “الجمهورية الى الأمام” الذي أسّسه ماكرون)، في اطار تحالف “معاً” مع حزب “الحركة الديمقراطية” برئاسة الوزير السابق فرنسوا بايرو وحزب “آفاق” الذي اسسه رئيس الوزراء السابق ادوار فيليب، من المحافظة على المركز الاول الا انه سجل تراجعاً ملحوظاً عن الانتخابات النيابية السابقة 2017 بنسبة 7 بالمئة.
والتحدي الاساسي المطروح أمام ماكرون، عشية الدورة الثانية، هو هل سيتمكن حزبه من الاحتفاظ بالأكثرية النيابية المطلقة (289 مقعداً) داخل الجمعية الوطنية الجديدة (البرلمان) بغية تمكين الحكومة الجديدة التي شكلها بعد تجديد ولايته من العمل بالحد الادنى من الاستقرار السياسي مستندة الى “اكثرية قوية وواضحة” كما دعت اليها رئيسة الحكومة الجديدة ايزابيل بورن؟
وبالتالي، تظهر هذه الانتخابات التشريعية إعادة التشكيل الواسع للمشهد السياسي الفرنسي الذي بدأ بانتخاب ماكرون عام 2017. ومعلوم أن حصول الرئيس على غالبية غير مطلقة ولكن ضيقة في الجمعية الوطنية سيعقد مسار الإصلاحات التي يرغب في إجرائها عل الصعد الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
لذلك ان مصير الحكومة الحالية التي تم تعيينها في منتصف أيار/مايو، معلق إلى حين صدور النتائج النهائية للانتخابات التشريعية التي ترشح إليها أعضاء في الحكومة بينهم رئيسة الوزراء إليزابيت بورن. بالتالي سيكون على المرشحين من اعضاء الحكومة البالغ عددهم 15 الاستقالة في حال هزيمتهم بموجب العرف الساري منذ 2017 والذي كرّسه ماكرون.
ثانياً، تحالف أحزاب اليسار
صحيح ان تحالف احزاب اليسار المنضوية تحت اسم “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد” تمكن من اثبات وجوده السياسي واظهار ثقله الانتخابي كقوة اساسية، الا ان التوقعات تشير الى انه من المستبعد ان يتمكن من تحقيق الخرق المطلوب القادر على انتزاع الاكثرية البرلمانية وفرض تشكيل حكومة يسارية جديدة برئاسة ميلونشون تتساكن وتتعايش مع ماكرون. لذلك يعول ميلونشون على حث الممتنعين الى التوجه الى الاقتراع في الدورة الثانية علّه يعزز موقعه ويحقق طموحاته.
وأثبت ميلونشون (70 عاماً)، السياسي المخضرم الذي حل ثالثاً في الانتخابات الرئاسية، أنه خصم ماكرون الرئيسي، متقدماً على مارين لوبن، المرشحة اليمينية النهائية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وهو يتزعم تحالفا غير مسبوق يضم الاشتراكيين والشيوعيين والخضر بالاضافة إلى حزبه “فرنسا الأبية”.
الصراع الانتخابي محتدم في الدورة الثانية للإنتخابات التشريعية الفرنسية وتبقى النتائج رهن قرار المترددين والممتنعين وكيفية اتمام عملية تجيير الاصوات خصوصا ان المنافسة ستقتصر على مرشحين اثنين في كل دائرة بعد عملية تصفية المرشحين في الدورة الأولى
ثالثاً، “التجمع الوطني” اليميني المتطرف
أوساط “التجمع الوطني”اعتبرت نتائج الدورة الأولى “مشرفة” كون الحزب عزز رصيده بـست نقاط كاملة مقارنة مع الانتخابات التشريعية السابقة. ويطمح الحزب في ان يحصل على عدد مهم من المقاعد بشكل يسمح له بتشكيل كتلة برلمانية. واظهرت النتائج حصوله على حوالي 19 بالمئة من الاصوات وبالتالي يشكل القوة السياسية الثالثة مع تمثيل نيابي وازن للمرة الأولى.
أما حزب “الاسترداد” (أقصى اليمين) بزعامة إريك زمور فلم يتجاوز عتبة 4 بالمئة من الأصوات. هذا الأخير فشل في التأهل إلى الدورة الثانية بعد أن حل في المرتبة الثالثة وراء مرشح حزب “النهضة” الحاكم وحزب “التجمع الوطني”.
وبهذه النتيجة “المخيبة للأمل” يطوي الصحافي السابق أول صفحة من حياته السياسية التي بدأت قبل شهور قليلة فقط من الانتخابات الرئاسية التي لم يتمكن خلالها من التأهل إلى الدورة الثانية. ومن شأن هذا الفشل الذريع تعزيز دور وموقع حزب لوبن كقوة اساسية ممثلة لليمين المتشدد.
رابعاً، حزب “الجمهوريون”
بالرغم من الهزيمة الكبيرة التي مني بها حزب “الجمهوريون” اليميني الديغولي المعتدل في الانتخابات الرئاسية الاخيرة، تمكن هذا الحزب العريق من استرداد بعض شعبيته المفقودة ويتوقع ان يحافظ على كتلة برلمانية وازنة قد تأخذ اهمية غير منتظرة في حال لم يتمكن حزب ماكرون من الحصول على الأكثرية المطلقة داخل البرلمان واضطراره الى قيام تحالف ظرفي “وعلى القطعة” لتمرير بعض مشاريع القوانين الاصلاحية.
وعشية الدورة الثانية، تسارعت التطورات الداخلية والخارجية واستجد اكثر من موضوع قد يلقي بظلاله على مزاج الناخب الفرنسي وتحديد خياراته.
الموضوع الاول، يتناول الزيارة المفاجئة للرئيس ماكرون الى كييف على رأس وفد اوروبي يضم المستشار الالماني اولاف شولتز ورئيس الوزراء الايطالي ماريو دراغي للاعراب عن تضامن الاتحاد الاوروبي مع اوكرانيا في حربها مع روسيا. وقد قوبلت هذه المبادرة الرئاسية بانتقادات لاذعة من قبل المعارضة الفرنسية اليمينية واليسارية المتطرفة (مارين لوبن وجان- لوك ميلونشون) لجهة توقيتها وتوظيفها السياسي الداخلي وذلك قبل ثلاثة ايام فقط من موعد الدورة الثانية للانتخابات التشريعية.
الموضوع الثاني، يتعلق بقرار لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي نشر تقريرها حول ما وصف بـ”مهزلة الاخفاق الأمني” التي رافقت استضافة فرنسا في 28 ايار/مايو الماضي لنهائي دوري ابطال اوروبا لكرة القدم في استاد دو فرانس في مدينة سان دوني ضاحية باريس الشمالية وتحديد المسؤوليات حول مشاهد الفوضى العارمة وفشل الشرطة في استيعاب الموقف والتجاوزات التي رافقتها.
الموضوع الثالث، لجهة الكشف عن اتهامات جديدة حول اعتداءات جنسية اضافية وجهت الى وزير التضامن داميان اباد العضو في حكومة ايزابيل بورن الحالية وزيادة الاصوات المطالبة باستقالته وخروجه من الحكومة.
في الخلاصة، الصراع الانتخابي محتدم في الدورة الثانية للإنتخابات التشريعية الفرنسية وتبقى النتائج رهن قرار المترددين والممتنعين وكيفية اتمام عملية تجيير الاصوات خصوصا ان المنافسة ستقتصر على مرشحين اثنين في كل دائرة بعد عملية تصفية المرشحين في الدورة الأولى. لذلك تبقى مقولة “لا تقول فول ليصير بالمكيول” الاكثر تعبيراً عن حال الانتظار قبل اقفال صناديق الاقتراع يوم الأحد المقبل وصدور النتائج النهائية.