هل يفعلها أم لا؟ كان هذا هو السؤال الرئيسي في مثل هذا الوقت من العام الماضي. كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد حشد قرابة 200 ألف جندي على حدود بلاده مع أوكرانيا. والمخابرات الأميركية حذرت من أن روسيا تستعد لحرب شاملة. ومع أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن اعتداء ما سوف يقع، كان هكذا احتمال غير مرغوب فيه ولا قدرة لأحد على التفكير فيه لدرجة الرغبة في عدم اعتباره احتمالاً وارداً (…).
بالنسبة لروسيا، كانت نتائج عمليتها العسكرية في أوكرانيا حتى الآن كارثية. فالهجوم، الذي كان من المفترض أن يُخضع أوكرانيا، ويُضعف الغرب، ويُقوي الكرملين، قد فعل العكس، حتى الآن. فقد جعلت القومية الأوكرانية المشحونة أصلاً أكثر قوة، ودفعت كييف إلى الحضن الأوروبي أكثر من أي وقت مضى. كما أنها نفخت هدفاً جديداً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، جعله يبدو وكأنه بدأ يعود إلى مساره الصحيح، بعد أن كان يسير على غير هُدى قبل الحرب في أوكرانيا. إن انضمام فنلندا والسويد للحلف لن يُضاعف فقط طول حدود روسيا مع دول “الناتو”، بل وأيضاً سيغيّر من ميزان القوة في شمال أوروبا بشكل كبير. لقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن نقاط ضعف في الجيش الروسي كانت تُخفيها عملياته في سوريا (2015) وأوكرانيا (2014 و2015). كما كشفت عن عزم وكفاءة لدى الغرب كانت الإخفاقات في أفغانستان والعراق وليبيا قد حجبتهما (…).
لا تزال الحرب في أوكرانيا بعيدة عن النهاية. لقد تكيّف الاقتصاد الروسي مع العقوبات الغربية برغم ضخامتها. ويبدو أن الكرملين مقتنع بأن لدى روسيا ما يكفي من القوة لتصمد حتى النهاية. قد تفرض موسكو تسوية غير متكافئة وتشن إعتداءات غير مسبوقة في أماكن أخرى. ولكن إذا شعر بوتين أنه في خطر حقيقي، فمن المحتمل أن يستخدم السلاح النووي كحلقة أخيرة للنرد. صحيح أن كثيرين يعتبرون أن مثل هذا الاحتمال مستحيل، لكن أيضاً يصعب استبعاده تماماً (…).
هل يشهد عام 2023 حرباً عالمية بين القوى الكبرى؟ هل يتم كسر المحرمات النووية التي صمدت ما يقرب 80 عاماً؟ هل نشهد انهياراً اجتماعياً على مستوى العالم نتيجة تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والمناخية؟
بالنسبة للصين، كانت الحرب الأوكرانية في الغالب عبارة عن “صداع مزعج”. فعلى الرغم من الاحتضان واستمرار المصالح التجارية بين البلدين التي ساعدت روسيا على تجاوز العقوبات، كان الدعم المادي الذي قدمته بكين ضعيفاً. لم يرسل الرئيس الصيني شي جين بينغ أسلحة. ويبدو أن المتاعب التي يسببها بوتين وتبجحه باستخدام النووي يزعجه كثيراً. صحيح أن بكين لا تريد تقويض موسكو، ومن غير المرجح أن تُجبر بوتين على القبول بتسوية. لكنها أيضاً لا ترغب في استفزاز العواصم الغربية (…). وهي تراقب بحذر حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وهم يعزوزن دفاعاتهم ويحرصون على إبقاء واشنطن في الجوار وفي الوقت نفسه لا يريدون الإستغناء عن الأسواق الصينية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحرب الأوكرانية أجّجت المخاوف من غزو صيني لتايوان، برغم تراجع احتمالاته في الوقت الحالي (…).
أما بالنسبة للعلاقة الصينية-الأميركية؛ والتي ستُهيمن على العقود المقبلة؛ فإن الحرب الروسية الأوكرانية لم تغير الأساسيات. صحيح أن الزيارة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى تايوان، في آب/أغسطس الماضي، أثارت غضب بكين، لكن الاجتماع الذي عُقد بعد ثلاثة أشهر فقط بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ وعد بإستئناف الحوار بينهما. ومع ذلك، تبقى المنافسة محتدمة في السياسات الخارجية للبلدين (…).
كذلك سلّطت الحرب في أوكرانيا الضوء على نفوذ واستقلالية قوى متوسطة غير غربية، أبرزها تركيا والسعودية والهند؛
تركيا؛ التي كانت تسير منذ فترة طويلة على حبل مشدود بين عضوية “الناتو” وعلاقاتها مع موسكو؛ توسطت مع الأمم المتحدة في صفقة لنقل الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية عبر البحر الأسود. هذه المبادرة جاءت بعد سنوات من الحزم التركي في الخارج (ليبيا وجنوب القوقاز) وتوسيع دائرة مبيعاتها من الطائرات العسكرية المُسيَّرة.
بالنسبة للسعودية، كان قرار بوتين وقف إمدادات نفط بلاده إلى الأسواق الأوروبية والأميركية بمثابة “نعمة”. فهذا الوضع أجبر بايدن على زيارة السعودية، والجلوس مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (…). ولكن الرياض، قرّرت مع مجموعة “أوبك بلاس”، إبقاء أسعار النفط مرتفعة، الأمر الذي أثار غضب واشنطن.
أما بالنسبة للهند، الشريك الأمني للولايات المتحدة والمشتري الرئيسي للأسلحة الروسية في وقت واحد، فقد اشترت النفط الروسي “المُقَلّد” وفي الوقت نفسه وبَّخت بوتين بسبب قعقعة سيوفه النووية (…). إن القوى المتوسطة الناشطة تشعر بأن لديها مساحة لرسم مسارها الخاص. ففي حين ترحب بعض هذه القوى بالتنافس القائم بين القوى العُظمى، فإنها تحاول الإستفادة من الفرص التي سيوفرها عالم مُتعدد الأقطاب.
الحرب في أوكرانيا سلطت الضوء على نفوذ واستقلالية قوى متوسطة غير غربية، أبرزها تركيا والسعودية والهند
لقد كشفت الحرب أيضاً عن مشاعر باطنية مخفية في أماكن أخرى من جنوب الكرة الأرضية. فقد صوتت معظم العواصم غير الغربية مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة ضد العدوان الروسي. لكن قلَّة منها أدانت بوتين علناً. الكثير من هذه العواصم لديها أسبابها لعدم التخلي النهائي عن موسكو، وفي الغالب هذا السبب له علاقة بالمصالح التجارية، وبالعلاقات التاريخية والأمنية (…). يرى كثير من هذه العواصم أن موقف الغرب من الحرب الروسية في أوكرانيا يكيل بمكيالين، نظراً لتدخلاته في أماكن أخرى وسجله الاستعماري. ويعتقد العديد من قادة الجنوب أن الحكومات الغربية جعلت مصلحتها في محاربة روسيا-بوتين فوق كل إعتبار بما في ذلك إستقرار الاقتصاد العالمي (…).
في الواقع، فإن أكبر تداعيات الحرب الأوكرانية خارج أوروبا اقتصادية بحتة. فقد أدَّت التوترات المالية الناجمة عن هذه الحرب وإعلان العقوبات على روسيا إلى زعزعة الأسواق التي لم تهدأ بعد من الهزة التي تسببت بها جائحة كورونا. لقد ارتفعت أسعار الوقود والسلع الغذائية بشكل جنوني، والجميع يعاني من أزمات معيشية، والتضخم يزداد كل يوم وهو ما يؤدي بدوره إلى تضخيم الديون. إن جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية الراهنة هما من بين عدة تهديدات أخرى (بما في ذلك أزمة تغير المناخ وانعدام الأمن الغذائي) تتفاقم كل يوم، ويمكن أن تُحدق بالبلدان الضعيفة قبل غيرها وبالتالي تؤجج الاضطرابات. وفي قائمة هذا العام، كانت باكستان خير مثال.
هل قدّم العام 2022 أي سبب للتفاؤل للعام المقبل؟
لو كانت مقاومة كييف أقل، ولو كان الغرب أقل اتحاداً، ولو انتصرت روسيا، لكانت أوروبا، وربما العالم، في وضع أكثر خطورة مما هو عليه الآن. وما كان بوتين ليكون الرجل القوي الوحيد الذي مرَّ بعام سيئ. قكثير من الشعبويين خسروا أيضاً (…). بالإضافة إلى ذلك، فإن الدبلوماسية متعددة الأطراف مشوشة إلى حد كبير. كما أنه وعلى الرغم من الخلافات المريرة بينهم، لا تزال الصين وروسيا والقوى الغربية يعتبرون مجلس الأمن الدولي المكان الأنسب لإدارة الأزمات. والإتفاق الذي يمكن أن يُنهي الحرب المروعة في إثيوبيا، ويجعل العلاقات بين كولومبيا وفنزويلا أكثر تقارباً يؤكد أن صنع السلام في أماكن أخرى يمكن أن يسير على قدم وساق برغم الصراع في أوروبا.
السيناريو الكارثي حقاً هو تصعيد مُحتمل نووي بين “الناتو” وروسيا، برغم جهود الطرفين المضنية لتجنب الاشتباكات المباشرة
بشكل عام، كان 2022 عاماً غير مستقر وأثار الكثير من القلق، سبقته سلسلة من الإضطرابات عمَّت العالم كله: جائحة كورونا، اقتحام مبنى الكابيتول الأميركي، ارتفاع درجات الحرارة في أجزاء واسعة من العالم بمستويات باتت تُهدد بقاء الإنسان. والآن، تحتدم حربٌ كبرى في أوروبا، ومهندسها يستحضر التصعيد النووي، فيما تواجه العديد من البلدان الفقيرة أزمات الديون والجوع والمناخ، ويسقط العديد من القتلى نتيجة نزاعات تحتدم هنا وهناك، ويزداد عدد النازحين والجائعين بسبب الحروب أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية (…).
إذن، هل سيشهد عام 2023 حرباً عالمية بين القوى الكبرى؟ هل يتم كسر المحرمات النووية التي صمدت ما يقرب 80 عاماً؟ هل نشهد انهياراً اجتماعياً على مستوى العالم نتيجة تراكم الأزمات السياسية والاقتصادية والمناخية؟
أوكرانيا وكارثة النووي
حتى الآن، قاومت أوكرانيا الهجوم الروسي، بفضل شجاعة الأوكرانيين والمساعدات الغربية. ولكن بعد ما يَقرُب من عام من القتال، لا يبدو أن هناك نهاية تلوح في الأفق.
حتى الآن، ليس هناك الكثير مما يوحي بأن كييف أو موسكو ستتراجعان. يرى الأوكرانيون في كل هجوم جديد يشنه الجيش الروسي وفي كل انتهاكات يرتكبها سبباً إضافياً للقتال. وفي روسيا، تعمل الدعاية والقمع على ردع المعارضة. كلا الجانبين لا يبديان رغبة حقيقية في إجراء محادثات سلام. فمن المنطقي أن يرفض الأوكرانيون التخلي عن أرضهم عندما بدأوا يستعيدونها، فيما موسكو لا تنفك تطالبهم بالإستسلام (…).
من جهة، يبدو أن شن هجوم جديد على وسط أوكرانيا من بيلاروسيا غير محتمل، نظراً لانخفاض احتمالات النجاح. وتأمل موسكو في أن يؤدي برد الشتاء وأسعار الغاز المرتفعة إلى إفساد الدعم الأوروبي لأوكرانيا. لكن الوحدة الغربية حتى الآن لم تُظهر سوى القليل من الشقوق. ويعتقد العديد من العواصم الأوروبية أن هزيمة أوكرانيا، ستعرضهم للخطر. وزيارة الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إلى واشنطن كشفت دعم الحزبين هناك لبلاده، على الرغم من تذمر الجناح الأيمن للحزب الجمهوري.
السيناريو الكارثي حقاً هو تصعيد نووي مُحتمل بين “الناتو” وروسيا. حتى الآن تبذل كل من موسكو والعواصم الغربية جهوداً مضنية لتجنب الاشتباك المباشر. لقد رفض الغرب فكرة فرض مناطق حظر الطيران، ورسم خططاً لتوفير أسلحة متطورة لكييف. في المقابل، تجنبت روسيا توجيه ضربات على أراضي “الناتو”. وتباهى بوتين مراراً بقدرات بلاده النووية بهدف تحذير الغرب، على ما يبدو، برغم من تراجع خطابه مؤخراً. الضربة النووية المحتملة لن تخدم غرضاً عسكرياً كبيراً ويمكن أن تؤدي على وجه التحديد إلى تدخل “الناتو” المباشر، وهو ما تتجنبه موسكو. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال الكارثي، خاصة إذا شعر بوتين بأن قبضته على السلطة تنهار. في الواقع، لقد أوجدت الحرب في أوكرانيا على الأرجح أعلى مخاطر المواجهة النووية منذ ستين عاماً. كما أنها تمهد الطريق لما يمكن أن يكون مواجهة طويلة، حيث تستعد أوروبا لمواجهة أكثر خطورة من أي وقت مضى.
بالتأكيد، يجب على القادة الغربيين إبقاء الباب مفتوحاً أمام التسوية من خلال توضيح الفوائد للكرملين، لا سيما في تخفيف العقوبات وعقد صفقة يمكن أن تتعايش معها أوكرانيا. في الوقت الحالي، وعلى الرغم من كل أهوال الحرب ومخاطر التهديد النووي، يرى الأوروبيون أن دعم أوكرانيا أفضل من السماح لروسيا بالانتصار. هكذا خيار، وعلى الرغم من أنه يزعج ويربك أجزاء أخرى من العالم، غير أنه الخيار الصحيح حتى الآن.
– يمكنكم الوصول إلى الأجزاء الأخرى بالإنكليزية هنا.