إتفاق تبادل السجناء (خمسة أميركيين ممن يحملون جنسية مزدوجة في مقابل إفراج واشنطن عن خمسة سجناء إيرانيين) والإفراج عن ودائع إيرانية مجمدة في الخارج تصل إلى 10 مليارات دولار، بحسب ما تقول إيران، و6 مليارات بحسب ما تقول واشنطن، لن يُنفذ سريعاً وإنما تقصد الطرفان، جعله عملية متدرجة بسبب إنعدام الثقة بينهما.
وبعد كف يد المبعوث الأميركي المعني بالملف الإيراني روبرت مالي ومنحه إجازة مفتوحة للتحقيق معه في ما إذا كان سرّب معلومات حساسة في إطار وظيفته، ساد الإعتقاد بأن المفاوضات الأميركية-الإيرانية غير المباشرة قد توقفت، وبأن إسرائيل قد نجحت في تسديد ضربة قاضية لفرص التوصل إلى أي تفاهم أميركي-إيراني حول الملف النووي.
الإعلان عن صفقة تبادل السجناء تشي بالعكس، وتفيد بأن الإتصالات عبر القنوات الخلفية لا تزال ناشطة ومتعددة من سلطنة عُمان إلى قطر وسويسرا، للتوصل إلى تفاهم “نووي” يتضمن تجميد تخصيب إيران لليورانيوم عند نسبة 60% في مقابل تخفيف بعض العقوبات الأميركية، وربما الإفراج عن ودائع إيرانية أخرى “لشراء الغذاء والدواء” وفق التوصيف الأميركي.
والملاحظ أنه في الأشهر الأخيرة، خفتت إلى حد كبير الإحتكاكات بين الفصائل المتحالفة مع إيران والقوات الأميركية في العراق وسوريا. وكأن في الأمر تهدئة غير معلنة، على رغم سريان سيناريوات مؤخراً عن إعتزام أميركا قطع التواصل البري بين العراق وسوريا عند نقطة البوكمال-القائم، وذلك للتضييق على وصول الإمدادات إلى الفصائل المتحالفة مع إيران.
لكن في أجواء معاكسة للتصعيد، كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن إيران أبطأت في الأسابيع الأخيرة من وتيرة تكديس اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وبأنها قلّصت جزءاً صغيراً من مخزونها المخصب بهذه النسبة التي تعتبر قريبة من نسبة الـ90 في المئة اللازمة لصنع سلاح نووي.
هل يمكن وضع إتفاق تبادل السجناء وتراجع الإحتكاكات الإقليمية في سوريا والعراق وإبطاء تخصيب اليورانيوم والإفراج عن ودائع مجمدة، في غير خانة القول إنه من مُقدمات تُمهّد للوصول إلى تفاهم “نووي” في نهاية المطاف.
ومن أبرز الدلائل على ذلك، مخاوف أبداها المسؤولون الإسرائيليون من إحتمال التوصل إلى “تفاهمات أوسع” بين إيران وأميركا، مع تكرار معارضتهم الشديدة لهذا الأمر.
برغم أن السياسة الخارجية لا تعتبر عاملاً حاسماً في تقرير من سيُنتخب رئيساً لأميركا، فإن بايدن يهمه أن يخرج بتفاهم معين مع إيران، بسبب صلة هذه المسألة بإسرائيل. ويريد القول للناخبين الأميركيين إنه تمكن من منع قيام إيران نووية بالطرق الديبلوماسية، ولم يضطر إلى خوض غمار حربٍ أخرى في الشرق الأوسط
الرئيس الأميركي جو بايدن إستبق الإعتراضات الإسرائيلية على سياسته حيال إيران، بسلسلة من الإجراءات الرامية إلى القول بأن واشنطن تقارب الملف الإيراني من موقع قوة وليس من موقع ضعف. وقبل أيام فقط، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية إرسال ثلاثة آلاف بحّار ومُدمرتين إلى مياه الخليج، بعدما كان تم إرسال مقاتلات “إف-35″ و”إف-16” بهدف معلن هو “ردع” إيران ومنعها من إعتراض ناقلات النفط في مضيق هرمز.
ليس هذا فحسب، بل عزّز بايدن القوات الأميركية في سوريا، وتمكن من تجميد مسارات التطبيع مع سوريا، عربياً وتركياً. وفي مسعى واضح لدحض فرضية أن الولايات المتحدة إنسحبت من الشرق الأوسط، وأن الصين تسلّلت إلى المنطقة عبر إتفاق التطبيع بين الرياض وطهران في آذار/مارس الماضي، بدأ الرئيس الأميركي في الدفع نحو إستكشاف إمكان الإضطلاع بدور في التقريب بين السعودية وإسرائيل، وتتوالى زيارات المسؤولين الأميركيين إلى المملكة العربية السعودية لهذا الغرض. وتتكهن بعض وسائل الإعلام الأميركية بأن بايدن يربط تزخيم الدور الأميركي في عملية “دمج” إسرائيل بالمنطقة، بشرط توقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن المضي في التعديلات القضائية المثيرة للجدل في إسرائيل.
وعلى رغم أن السياسة الخارجية لا تعتبر عاملاً حاسماً في تقرير من سيُنتخب رئيساً للولايات المتحدة في العام 2024، فإن جو بايدن المُقبل على حملة إنتخابية شرسة ضد الرئيس السابق دونالد ترامب، بدءأً من نهاية السنة الحالية، يهمه أيضاً أن يخرج بتفاهم معين مع إيران، بسبب صلة هذه المسألة بإسرائيل. ويريد القول للناخبين الأميركيين إنه تمكن من منع قيام إيران نووية بالطرق الديبلوماسية، ولم يضطر إلى خوض غمار حربٍ أخرى في الشرق الأوسط.
هذا يعني أن حرب أوكرانيا وتركيز بايدن على تسويق المضي في المساعدات السخية لكييف، كقضية مركزية في حملته الإنتخابية، ليس كافياً في مواجهة تشكيك جمهوري متزايد بالإستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن حيال النزاع الروسي-الأوكراني المستمر منذ شباط/فبراير 2022 حتى يومنا هذا.
في منطقة تتسارع فيها الأحداث وتتبدل الأدوار، يبرز سؤالٌ ملحٌ، هل تفتح صفقة تبادل السجناء والإفراج عن الأرصدة الإيرانية الطريق أمام تفاهم على الملف النووي، يفتح بدوره الطريق أمام تشكل جديد للشرق الأوسط؟
قبل أشهر، كان يقال إن إتفاق بكين أحدث صدمة جيوسياسية في المنطقة، وجعل الصين لاعباً رئيسياً في تقرير شؤونها والمساعدة على حل قضاياها الساخنة.
الآن، يتبين أن هذا الإتفاق فقد الكثير من قوته الدافعة، بعدما إقتصرت مفاعيله على عملية التطبيع الثنائي بين الرياض وطهران، دون إنعكاس يذكر على الملفات الإقليمية، من اليمن إلى سوريا ولبنان، إلا إذا كانت عملية تفريغ حمولة الناقلة “صافر” المهترئة قبالة شواطىء مدينة الحديدة في شمال اليمن بمثابة إنجاز يُعزى إلى إتفاق بكين أكثر منه إلى إستشعار الجميع نُذُرَ كارثة بيئية. لماذا لم تستكمل مثلاً عملية تبادل الأسرى أو الشروع في مفاوضات حول تسوية سياسية دائمة تبدأ بإعلان وقف إطلاق النار.
وبالنتيجة لم يكن لإتفاق بكين أي أثر في سوريا أو في لبنان برغم الأزمتين المتماديتين في البلدين.
هذا يحمل على التساؤل، حول ما إذا كان هذا النوع من الأزمات في المنطقة ينتظر أيضاً التفاهم الأميركي-الإيراني المحتمل لإعادة ترسيم المنطقة، حيث أخفق إتفاق بكين حتى الآن؟
في سياق المواجهة الأشمل بين أميركا والصين، يجب ألا ننسى أن الرئيس الصيني شي جين بينغ يبدو أميناً على تطبيق مقولة لينين: خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الوراء.