سبتٌ سوف يُسجّله التاريخ العربي في سجّلات الشرف وتُسجّله سجّلات أخرى باعتباره يوماً ممتداً تحت عناوين شتى منها عنوان يوم السباق نحو النفاق، وعنوان يوم انكشفت للناس مرة أخرى عنصرية زعماء الغرب في شكل مرضي خبيث ومقيم، ويوم عادت الصليبية منتشية تحت أسماء أخرى، ويوم نسي العالم أو تناسى أن هناك حرباً ناشبة في أوكرانيا، ويوم سمعنا وزير خارجية دولة عظمى يُعلن على الملأ في لحظة انتشاء أو تكبر أنه بعث نفسه في مهمة دينية وليس سياسية أو وظيفية، ويوم ساد الوجوم والترقب معظم عواصم العرب، ويوم تنفست كل من الصين وروسيا الصعداء لانفراجة لصالحهما، ويوم ذهبت الظنون بحكام دول شتى أن حُلمَ نكبة ثانية كثيراً ما راودهم على وشك أن يتحقق، ويوم حقّقت حركة مقاومة حلم الملايين بأفراد معدودين، وهو اليوم الذي قرّرت فيه إسرائيل تدعمها أمريكا تدمير قطاع غزة وتهجير سكانه. كان يوماً ليس ككل الأيام، فعل بأهل غزة ما فعل وخلّف من بعده أياماً بأحداث ليست أقل أهمية فيما يلي أعرض للنقاش في البعض منها:
أولاً؛ كان موقف دول الغرب مُخزياً. لا أجد كلمة تناسب ما فعله الغرب وما تردّد على ألسنة حكامه وممثليه إلا كلمة الخزي. أكدّ حق إسرائيل في أن تعتبر أي مقاومة فلسطينية لاحتلالها فلسطين إرهاباً وليس مقاومة. العالم كله بما فيه يهود بولندا قاوم النازيين ولم يصنفهم الغرب إرهابيين. أمريكا نفسها قاومت الاستعمار الإنجليزي ولم تسجل في تاريخها هذه المقاومة كحركة إرهاب. لم نعرف إلا في غزة أن الغرب يقف كتلة واحدة تبارك تدمير شعب بمؤسساته ومساكنه وأطفاله ونسائه لأنه يأوي أفراداً يقاومون. قيل في موقف هذا الغرب إنه يستخدم عنف الإسرائيليين ليشن حرباً صليبية جديدة ضد أهل المنطقة. جاءت ردود زعماء في الغرب من نوع رد السيدة أورسولا فون دير لاين رئيسة الاتحاد الأوروبي مخيفاً وكاشفاً عن درجة من العنصرية أعلى بكثير من كل ما تصورناه عن السياسيين من ألمان عهد هتلر. حرّكوا ومعهم مؤسسات إعلامية غربية شهوة إسرائيل لتهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء. أثاروا جميعاً موجة من الكره عمّت أجواء أوروبا في سابقة لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
فردٌ واحدٌ استطاع أن يشعل حرباً ويدفع الغرب كله للتأهب لحماية إسرائيل ويفرض على العرب وضعاً جديداً في علاقاتهم بها وبالغرب، هذا الفرد أثار زوبعة في إسرائيل تحت عنوان إصلاح القضاء ليتهرب من إدانة بالفساد ومن إعلان نهاية دوره السياسي. لم يحصل على مُراده فشنّ حرباً ضد قطاع غزة مراهناً على أن تمتد الحرب لتصبح حرباً إقليمية ثم شبه دولية
ثانياً؛ كادت إسرائيل تطيح بأحد أهم أحلامها، أقصد الاتفاقات الإبراهيمية. خرجت المظاهرات في أكثر من معقل من معاقل الفكرة الإبراهيمية مثل المغرب والبحرين تؤكد الرفض الشعبي لها على أرض الواقع والتجربة. من ناحية أخرى، تأكد أن الدول العربية التي وقّعت على اتفاقيات صلح أو سلام مع إسرائيل إما نادمة على ما فعلت أو صارت بعد ما فعلته إسرائيل بغزة والضفة الغربية أقل حرصاً على التزام هذه الاتفاقات وأبعد نظراً.
ثالثاً؛ لسنا في حاجة لكثير من الخبرة في الشئون الدولية لنقرّر أن أوكرانيا خرجت خاسرة من انتقال الحملة الغربية إلى غزة وأن كلاً من روسيا والصين خرجتا بنصيب عال من تعاطف العرب والمسلمين في كل مكان. خرجتا بهذا النصيب دون أدنى تدخل مباشر. اكتفتا بتأكيد حق الفلسطينيين في التحرر والاستقلال.
رابعاً؛ سقطت مبادرة أو فكرة حل الدولتين، أو هكذا تردد الرأي في مختلف الأرجاء. لم يعد ممكناً تجديد الاقتناع بصدق نوايا واشنطن وراء هذا الحل. ما فعلته أمريكا خلال عشرة أيام في التعامل مع هذه الأزمة قدّم الدليل الناصع على سوء النية نتيجة هيمنة أقلية إثنية دينية على مفاتيح القرار في الولايات المتحدة، والعكس أيضاً صحيح. هذا التطور كفيل بأن يثير اليأس في دوائر صنع السياسة في حكومات عربية كثيرة راهنت على هذا البديل. معنى هذا التطور العودة للتفكير في مستحيلات علماً بأن خبرتها تؤكد على حقيقة أن فكرة المستحيل هي التي تؤسس لحركات مقاومة خارجة عن سيطرة السلطة الحاكمة. مرة أخرى تعود العلاقات مع إسرائيل تشكل هاجساً أساسياً في عواصم عربية كثيرة. مرة أخرى ينتعش الشك في كافة هذه العواصم إزاء الثقة في قدرات أو نوايا دول الغرب وبخاصة أمريكا تجاه قضايا حماية أمن واستقلال وسلامة الدول العربية الحليفة.
خامساً؛ بناء على ما استجد خلال الأيام الأخيرة لن نكون من المبالغين أو المتشائمين إذا توقعنا توسعاً في المستوطنات وزيادة في بناء الجديد منها. لاحظنا ولا شك لاحظت الدول الغربية أن المستوطنين هم في الحقيقة جيش آخر لإسرائيل، بل هو الجيش الأهم في المستقبل بعد أن يكتمل تسليح المستوطنين. سمعنا إدانات لا تخلو من لهجة الإرهاب المضاد صدرت عن مسئولين في واشنطن وفي بروكسل تتهم “حماس” بالوحشية ولم نسمع على امتداد الشهور الأخيرة إدانة أوروبية أو أمريكية واحدة لحملات الترويع والقتل العمد لمدنيين فلسطينيين في الضفة الغربية، والتي هي في حقيقة الأمر كانت مثل غيرها من أدوات الرعب المتطرف وراء قرار “حماس” بالتحرك في غزة.
المطلوب الآن تنبيه الغرب إلى ضرورة وقف الاندفاع نحو كارثة محققة لو استمر قادته في محاباة الإسرائيليين على حساب أمم أخرى. توسّعوا فكوفئوا، قتلوا ولم يُعاقبوا، مزقوا فلسطين ولم يُحاكموا، هدّدوا أمن واستقرار الشرق الأوسط لسبعين عاماً ولم يُؤاخذوا
سادساً؛ أعترفُ بأنني مستاءٌ لما تردت إليه الدبلوماسية الأمريكية في السنوات الأخيرة. مستاءٌ للفوضى الضاربة أطنابها في كل القارات، بما يعني فشل أمريكا في فرض قيادتها وعجزها عن نشر قناعاتها الأيديولوجية. مستاءٌ للممارسات الشاذة أو لنقل الممارسات الأمريكية غير المألوفة ولكن الخطيرة في مراميها، ولعل النموذج البارز في مثل هذه الممارسات إعلان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، وهو على سلم الطائرة الراسية لتوها في مطار بن غوريون، أنه يأتي في هذه المهمة بصفته اليهودية. هل نتوقع من معظم أعضاء جهاز الأمن القومي الأمريكي أن يُكرّروا هذا الفعل من رئيس الدبلوماسية عند تنفيذهم مهام سياسية أمريكية خارج أمريكا؟ هل صار الدين ضرورة من ضرورات فرض الموقف الأمريكي؟ أم أنه هذا الدين بالذات؟ هل قدّر السيد بلينكن خطورة هذه السابقة الدبلوماسية ليس فقط في علاقات أمريكا الخارجية بل في العلاقات الدولية بشكل عام؟.
أتخيل في المستقبل دبلوماسياً أمريكياً يُقدّم نفسه باسمه وديانته في مهمة خارجية فيرد عليه المُضيف المكلف باستقباله باسمه، مُضيفاً أنه هندوسي الديانة أو بوذي أو لا ديني أو مسلم أو مسيحي كاثوليكي إلخ.. هل كان القصد زيادة في طمأنة الطرف الإسرائيلي أم زيادة في ترويع شعوب الشرق الأوسط ومنها شعب فلسطين، بعد أن صارت الحرب في نظرهم دينية. هكذا فهم الناس القصد من وراء هذا الإعلان المثير من جانب رئيس الدبلوماسية الأمريكية. أخشى مع الكثيرين أن تستفحل الظاهرة متمنياً ألا يكون مصرع الطفل الفلسطيني في ولاية إلينوي الأمريكية بطعنات من رجل متأثر بحملة الكراهية غير المسبوقة في الإعلام الغربي بداية مسيرة عنف وغضب متبادل. خطأ آخر ترتكبه إدارة سياسية مُنهكة يُحسب عليها ضمن أخطاء أخرى لا تقل خطورة.
سابعاً؛ فردٌ واحدٌ استطاع أن يُشعل حرباً ويدفع الغرب كله للتأهب لحماية إسرائيل ويفرض على العرب وضعاً جديداً في علاقاتهم بها وبالغرب، هذا الفرد أثار زوبعة في إسرائيل تحت عنوان إصلاح القضاء ليتهرب من إدانة بالفساد ومن إعلان نهاية دوره السياسي. لم يحصل على مُراده فشنّ حرباً ضد قطاع غزة مراهناً على أن تمتد الحرب لتصبح حرباً إقليمية ثم شبه دولية. نتنياهو بالفعل قرّر أن يأخذ معه المعبد بأسره إلى الدمار طالما ظلّ سيف المحكمة مصلتاً على رقبته، وقد حدث. كل “إسرائيل المؤسسات” غير مطمئنة الآن لتربعه على عرش قرار السلم والحرب فراحت تُقيّده بحكومة ائتلاف وطنية، وإن كانت أغلبيتها غير مختلفة معه تماماً في الأساليب والأهداف.
***
المطلوب الآن تنبيه الغرب إلى ضرورة وقف الاندفاع نحو كارثة محققة لو استمر قادته في محاباة الإسرائيليين على حساب أمم أخرى. توسّعوا فكوفئوا، قتلوا ولم يُعاقبوا، مزقوا فلسطين ولم يُحاكموا، هدّدوا أمن واستقرار الشرق الأوسط لسبعين عاماً ولم يُؤاخذوا.