يزيد من وطأة الموقف أن القطاع يخضع لحصار إسرائيلى منذ 16 عاما وتسيطر إسرائيل على طعامه ومائه ووقوده ودوائه وبحره وسمائه ويخضع كل سنتيمتر فيه لمراقبة أمريكية وإسرائيلية إلكترونية ومن خلال الأقمار الصناعية، ولدى إسرائيل أرقام تليفونات سكانه المحمولة وهى بالطبع خاضعة لرقابتها ــ لذلك فإن إسرائيل تشعر بأن ما حدث هو إهانة كبرى، ومن ثم فإن بنيامين نتنياهو وصف الجريمة الانتقامية البشعة التى ترتكبها إسرائيل بأنها «رد للاعتبار»، ولن تنتهى هذه الأزمة داخل إسرائيل إلا بعد الإطاحة برءوس كثيرة على رأسها نتنياهو، وهذا ما يفسر كل هذا الغل لدى نتنياهو وحلفائه من أقصى اليمين المتطرف، وللأسف فإن من يدفع الثمن حالياً ــ ولمدة قد تطول ــ هم سكان القطاع الأبطال الصامدون الصابرون.
فقد سقط حتى الآن أكثر من ثمانية آلاف شهيد وأكثر من 18 ألف جريح معظمهم من الأطفال والنساء، بل إن الـ«بى بى سى» نشرت أن غزة فقدت بعد ستة وعشرين يوما من الحرب 30 ألف ضحية ما بين قتيل وجريح ومفقود ونحو مليون نازح ومعسكرات لاجئين جديدة تُنصب لضحايا هم أصلا لاجئون. وما زالت إسرائيل تتحكم فى مقدار الغوث الإنسانى الذى يدخل لهم والذى لا يشمل الوقود ولا يمثل إلا نسبة ضئيلة جدا من احتياجات القطاع، وفقا لوكالات الأمم المتحدة ذات الصلة.
إسرائيل لن تتمكن من تحقيق هدف القضاء على حماس أو أن تجعل من حربها هذه آخر الحروب كما صرح بذلك نتنياهو، فالجرائم الوحشية التى ترتكبها إسرائيل لن تؤدى إلا إلى نشوء حركات أكثر تطرفا حيث ستزرع إسرائيل بوحشيتها هذه بذور من الغل فى أجيال جديدة يصعب السيطرة عليها
***
ثبت أن المعنى بحقوق الإنسان هو الإنسان الغربى.. الأوروبى والأمريكى.. وأن المحكمة الجنائية الدولية أنشئت لمعاقبة دول الجنوب والدول الأخرى المعادية للغرب مثل روسيا.. ولعل من مفارقات القدر أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان صدر عام ١٩٤٨، أى نفس عام النكبة الذى تم فيه طرد الفلسطينيين من ديارهم وتدمير غالبية قراهم، وهو نفس العام الذى أعلن فيه النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا تطبيق قانون الفصل العنصرى رسميا فى البلاد.
والجدير بالذكر أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان صدر عندما كان عدد أعضاء الأمم المتحدة 51 عضوا غالبيتهم العظمى من الدول الغربية المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية فلم يكن هناك سوى عدد قليل جدا من الدول الأفرو ــ آسيوية، لذا فلم يكن فى ذهن من وافقوا عليه سوى مواطنيهم.
***
لم يكتف الرئيس الأمريكى جو بايدن بزيارة إسرائيل وإعلانه دعم أمريكا غير المحدود لها ولكنه فعل ما لم يفعله أى رئيس قبله ــ أمريكى أو غير أمريكى ــ فلقد شارك فى انعقاد مجلس الحرب الإسرائيلى الذى يشرف على إدارة الحرب فى غزة، وبالرغم من محاولته البائسة لتجميل زيارته ببعض الرتوش من خلال مطالبته بعقد لقاء مع الرئيس محمود عباس ورؤساء الدول العربية المجاورة إلا أن إسرائيل أفشلت له هذه المحاولة حتى تقتصر زيارته على هدف واحد وهو دعم إسرائيل، فقامت بقصف مستشفى المعمدانى بغزة وقتلت 500 شخص من المرضى والجرحى والأطقم الطبية مما أدى إلى إلغاء الجانب العربى للاجتماع مع بايدن، فلم يكن بإمكان الزعماء العرب الاجتماع مع بايدن دون إدانة هذا الحدث الإجرامى الذى أيد فيه بايدن ادعاء إسرائيل بأن الجانب الآخر ارتكبه (فى إشارة للفلسطينيين)، لقد قام أحد الباحثين برصد عدد الصواريخ التى أطلقتها المقاومة الفلسطينية على إسرائيل خلال القرن الحادى والعشرين منذ بدايته فبلغت نحو 38 ألف صاروخ ونحو 4 آلاف قذيفة هاون، ونجم عن هذا العدد الهائل من القذائف مقتل 96 إسرائيليا، بينما قتل صاروخ واحد 500 شخص فى مساحة مستشفى المعمدانى.. أى خمسة أضعاف ما حققته الصواريخ الفلسطينية خلال الثلاث والعشرين سنة الماضية مما يدل على أن المقاومة الفلسطينية لا تملك مثل هذه الصواريخ شديدة القوة التدميرية.
***
طبعا من الظلم أن نعتقد أن الشعوب الغربية سواء فى أمريكا الشمالية أو أوروبا لا تأبه بحقوق الإنسان ولكنها خاضعة لعواصف عاتية من الإعلام الكاذب المنحاز الذى يجعل المتعرضين لهذا الإعلام يتعاطفون بقوة مع الشعب اليهودى الذى يستمر فى التعرض للاضطهاد والكراهية والذى فقد فى يوم واحد 1300 ضحية، وهو عدد يفوق ضحايا يوم من أيام المحرقة.. ثم يبث هذا الإعلام أخبارا مزيفة عن قطع رءوس الأطفال الرضع واغتصاب النساء.. وغير ذلك الكثير من الفبركات التى ازدادت مصداقيتها بتكرار الزعماء الغربيين لها وعلى رأسهم الرئيس الأمريكى بايدن الذى سارع بتكرار أكذوبة «قطع رءوس الرضع» ثم عاد البيت الأبيض فنفاها.. وقد شاهدنا الصحفية التى سألت بايدن عما إذا كان يوافق على هدنة إنسانية مؤقتة وممرات آمنة لإيصال الإغاثة فرد بقوله «لم أسمع السؤال»، فكررته بصوت عال جدا فابتسم وكرر نفس الرد «لم أسمع السؤال»، أما عندما سئل عن وقف إطلاق النار فقد سارع إلى رفضه بلا تردد لأن ذلك سيكون فى صالح حماس.
***
من الصعب التنبؤ بالنتائج وإن كانت الأطراف التى تحرك أو تدعم المتحاربين وهى أمريكا من ناحية وإيران من ناحية أخرى تبدى حرصا شديدا على عدم توسيع رقعة النزاع، بل إن أمريكا حرصت منذ اليوم الأول على أن تعلن «أنه ليس لديها دليل على تورط إيران فى هذه الحرب»، كما أن العمليات المحسوبة جدا التى يقوم بها حزب الله تدل أيضا على الحرص الشديد على عدم توسيع النزاع.
والشىء المؤكد ــ باعتقادى ــ أن إسرائيل لن تتمكن من تحقيق هدف القضاء على حماس أو أن تجعل من حربها هذه آخر الحروب كما صرح بذلك نتنياهو، فالجرائم الوحشية التى ترتكبها إسرائيل لن تؤدى إلا إلى نشوء حركات أكثر تطرفا حيث ستزرع إسرائيل بوحشيتها هذه بذور من الغل فى أجيال جديدة يصعب السيطرة عليها.
وقد أشارت بعض المصادر إلى أن إسرائيل قد تُقسم القطاع إلى شمال وجنوب وتعيد احتلال الشمال فقط بعد ما أفرغته من معظم سكانه، ولكن ذلك قد يجعل من جنودها أهدافا سهلة للمقاومة المتمركزة فيما أصبح يعرف عالميا «مترو غزة».
إشارة إلى شبكة الأنفاق العنكبوتية التى لم تنجح إسرائيل فى القضاء عليها فى كل حروبها على غزة.. النتيجة الثانية السلبية من وجهة نظر إسرائيل.. هو الخشية من حدوث نزوح إسرائيلى كبير إلى الخارج خاصة بين مزدوجى الجنسية الذى يفوق عددهم المليونين.. وهناك إشارات كثيرة تدعو لقلق إسرائيل فى هذا الشأن، فهذه الفئة من الإسرائيليين ما زالت وثيقة الصلة بموطنها الأصلى ويمكنهم استعادة حياتهم فيها بسهولة، وصرح الكثيرون منهم بأنهم لا يرغبون فى نشأة أطفالهم فى هذه البيئة المشحونة بالتوتر والقلق.
أما أكبر عواقب الطوفان على إسرائيل فهو اهتزاز ثقة الإسرائيليين فى قدرة حكومتهم وجيشهم على توفير الأمن لهم، فإذا كانت حماس وشعب غزة المحاصر منذ 16 عاما قد استطاع تطوير صواريخه البدائية بحيث أصبحت أكثر دقة وأبعد مدى وأن يخفى الاستعداد الضخم والإمداد الدقيق عن كل الأجهزة الاستخباراتية سواء الإسرائيلية أو الحليفة لها، فإن ذلك نذير خطر كبير على مستقبل إسرائيل واستمرار وجودها بالشرق الأوسط.
النتيجة الثانية السلبية من وجهة نظر إسرائيل.. هو الخشية من حدوث نزوح إسرائيلى كبير إلى الخارج خاصة بين مزدوجى الجنسية الذى يفوق عددهم المليونين.. وهناك إشارات كثيرة تدعو لقلق إسرائيل فى هذا الشأن
***
بعد 75 عاما من قيام إسرائيل وبعد أن بنت خامس أقوى جيش فى العالم وجهاز مخابرات من الطراز الأول وحظيت بمساندة غير محدودة من أقوى دولة فى العالم.. مساندة لا تتأثر بتغير الحزب الحاكم فى أمريكا بل إن مساندة إسرائيل يكاد يكون الموضوع الوحيد الذى يتفق عليه الحزبان الجمهورى والديمقراطى فى أمريكا، ولكن ما فائدة كل هذا إذا فقد مواطنو هذه الدولة الشعور بالأمن وفقدوا الثقة فى حكومتهم وجيشهم؟
لقد ظن نتنياهو ومعظم قادة إسرائيل بل وغالبية الإسرائيليين أن فلسطين قد دامت لهم بل والمنطقة العربية بأسرها، ولم تعد قضية فلسطين هى قضية العرب الأولى وبات العرب يهرولون نحو التطبيع مع إسرائيل ولم يحرك أى منهم ساكنا وهو يرى المتطرفين يقتحمون المسجد الأقصى بشكل متكرر ولم تقع السماء على الأرض عندما اعترفت الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل.
كل ذلك جعل الإسرائيليين يصدقون قادتهم بأن القضية الفلسطينية لم تعد هى مفتاح السلام فى الشرق الأوسط، وأن التطبيع قد بدأ مع السعودية الذى سيؤدى إلى إزالة كل الحواجز مع سائر الدول الإسلامية، وستتحقق نبوءة النبى أشعيا فهنيئا لك يا دولة إسرائيل. ثم جاء طوفان الأقصى فقضى على كل هذه الأوهام وإن كان بثمن باهظ تحمله سكان غزة الأبطال الصامدون الصابرون.
(*) بالتزامن مع “الشروق“