إيران و”الطّوفان”.. هل من مفاجأة؟ (3/3)

في ما سبق، حاولنا بناء نموذجنا-المثالي لما سمّيناه بـ"العقل الجيوسياسي الإيراني"، من خلال وضع تصوّر لأهمّ سماته الجوهريّة والنّموذجيّة والمميّزة (لهُ) بنظرنا.

نُذكّر قارئنا في هذا الإطار بأنّ لبناء النّموذج-المثالي، حسب النّظرة الفيبريّة التّقليديّة التي حاولنا تطويرَها في السّابق، وظيفةً رئيسيّةً في هذا النّوع من العمليّات الذّهنيّة: وهي وظيفة منهجيّة-غائيّة بامتياز. علينا ألّا ننسى هذه النّقطة في سبيل فهم ما سلفَ وما سيتبع.

في ما يلي، لنحاولْ إذن البدء بالاستفادة من هذه الوظيفة المنهجيّة: كالعادة، وكما شرحنا في كتاباتٍ سابقة، من خلال اختبار مقابلة البناء الذّهني ذاك مع معطياتٍ “من الواقع”. وندعو القارئ مجدّداً، ضمن نفس العقليّة العامّة، وبهدف تحقيق أفضل النّتائج وأكثرها، إلى:

١/ نقد سمات هذا النّموذج-المثالي، واضافة ما يراه مناسباً من سمات؛

٢/ محاولة مقابلته مع نموذج-مثالي آخر (موجود و/أو قيد البناء والتّصوّر)؛

٣/ نقد طريقتنا لبنائه و/أو مقابلته مع الواقع، وكيفيّة بنائنا للخطوط الاستقرائيّة والاستنتاجيّة العامّة.

لنحاولْ، إذن، في ما يلي، تقييم القدرة التّأويليّة-الفَهميّة لمفهومنا، وبعضاً من قدرته التّفسيريّة والتّنبّئيّة، من خلال مقابلته مع أخطر جوانب الأحداث الرّاهنة – وهي الأهمّ في الإقليم وبالنّسبة إلى الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران حاليّاً: أي أحداث ما بعد عمليّة “طوفان الأقصى”.

(اخترنا التّرتيب التّالي للخطوات التّحليليّة لاعتبارنا بأنّه الأقرب إلى فهم الآليّات الجوهريّة-النّموذجيّة لهذا “العقل”. ولكن، بالطّبع، يُمكن اختيار ترتيب مختلف.. وهذا ما قد يُغني البحثَ على أيّ حال).

خطوة أولى: باب الجانب المبدئي

تماشياً مع ما بنيناه في الأجزاء السّابقة، نعتقدُ أنّ “العقل” الإيراني ينظرُ إلى ما يجري في مرحلة ما بعد أحداث ٧ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٣: ابتداءً (بنظرنا) – من زاوية “السّمة المبدئيّة” التي فصّلناها في ما سبق. فقضيّة فلسطين وشعب فلسطين، برأينا: مسألة مبدئيّة ثابتة وصلبة، لا مساومة فيها، بالنّسبة إلى هذا العقل الإيراني، لا سيّما ضمن نظام “الجمهوريّة الإسلاميّة”. مجدّداً: من يستهين بهذا الجانب يسيء التّقدير والتّأويل برأينا.. وبشكل عميق جدّاً.

العقل المتّخذ للقرارات داخل “الجمهوريّة الإسلاميّة”: ينظر – برأينا – إلى ما يحدث في غزّة وفلسطين والإقليم.. أوّلاً، بعين المبدئيّة. لذلك: فهو، بلا شكّ عندنا، يذهب في اتّجاه الدّعم غير المشروط – مبدئيّاً – للمقاومة الفلسطينيّة (وغيرها من حركات المقاومة في المنطقة)، في سبيل تحقيق أهدافها وإلحاق شرّ هزيمة بالعدو الإسرائيلي.. ومن وراء ذلكمْ: في سبيل إلحاق شرّ هزيمة بالمشروع الأميركي في المنطقة، وبالمشروع الاستعماري الغربي بشكل عام.

من المرجّح جدّاً أن يكون “العقل الإيراني” ذاك قد قرّر حاليّاً اعتماد سياسة تصعيدٍ تدريجيٍّ ومدروسٍ ودقيقٍ جدّاً. وذلك لاعتبارات عدة أهمّها التّوازن ما بين: (١) هدف منع الأمريكي والإسرائيلي من إلحاق هزيمة استراتيجيّة بالمقاومة الفلسطينيّة في غزّة و/أو تغيير موازين القوى الحالي في الإقليم؛ (٢) والتّكلفة العالية التي يُمكن أن يدفعها المحور الحليف لإيران – و/أو إيران نفسها – في حال نشوب صراعٍ إقليميٍّ من النّوع المفتوح والشّامل

خطوة ثانية: حائط “الآجل VS العاجل”

كما ذكرنا، فقد تكون هذه السّمة هي الأكثر ازعاجاً وتوتيراً للعقلَين العربي والغربي النّموذجيّين. وبرأينا: من أهمّ ما يميّز العقل الإيراني هو أنّه لا يذهب إلى العاجل ابتداءً وبنفس الطّريقة البديهيّة المُعتادة عندنا: فرغم ما قد يبدو لناظرنا في الظّاهر.. قد يكون انتظارُ المَغنَمِ الآجلِ خيراً من القفزِ على المَغنَمِ العاجل. هل علَيَّ إن أنقضّ، فوراً، على العاجل.. أم عليّ التّفكّر والتّأمّل بهدوء، علّ الآجل يأتي بخيرٍ من العاجل؟

قد يصعب علينا، نحن من ذوي العقول العربيّة والغربيّة النّموذجيّة أن نتقبّل هذه الجُرعة ممّا قد نعتبره برودةً نسبيّةً كبيرةً في الحُكم على الوقائع والفرص والمخاطر المتأتّية منها. ولكن، هكذا يعمل هذا “العقل” برأيي:

خطوة ثالثة: مصفاة “الواقع VS العقلانيّة”

  • ما هي الأسباب الظّاهرة و/أو الباطنة المرجّحة لما حصل في ٧ تشرين/أكتوبر؟
  • لماذا هذا التّوقيت لـ”طّوفان الأقصى”؟
  • إلى أيّ حدّ كنّا على علم بالتّوقيت وبالأهداف؟
  • ما هي الأهداف الحقيقيّة لحليفنا الذي قام باختيار هذا التّوقيت وهذا الحجم للعمليّة؟ إلخ..

يجلس هذا العقل، بهدوءٍ وبتروٍّ وبجلَدٍ وبصبرٍ، لمعالجة هذه الأسئلة جميعها، الواحد تلو الآخر، قبل اتّخاذ أيّ جزء من قرار حتّى.

علينا – برأيي – تخيّل غرف عمليّات، وأجهزة متخصّصة، ودراسات، وتقارير (إلخ..): في كلّ الاتّجاهات والاختصاصات، تعمل على معالجة جميع هذه الأسئلة، خدمة لدائرة متّخذي القرار النّهائي، وبطريقة يمكن تسميتها بالعقلانيّة-الواقعيّة (وبالعلميّة، بالمعنى الحديث تحديداً).

لا يُمكن لهذا العقل، برأيي، أن يذهب إلى أيّ خطوة تالية: من دون تمرير المعطيات التي يجلبها له “الواقع الخارجي”.. بمصفاة “العقلانيّة” الدّقيقة وذات الجَلَد الكبير. فهو يدرس: السّياقات الموضوعيّة؛ الأحداث الواقعيّة؛ والسّببيّات الظاهرة (إلى ما هنالك).. حتّى يصل إلى مرحلة يمكن له فيها تصوّر “قناعة عقلانيّة” معيّنة.

إنّه، وكما سبق ورأينا: عقلٌ قريبٌ جدّاً من العقل الغربي من هذه الزّاوية بالتّحديد. يتعاطى مع الظّواهر على أنّها معطيات واقعيّة. ثمّ يمرّرها بمصافي الأدوات العقلانيّة (الملاحظة، التّوصيف، التّحليل، التّفكير السّببي، التّوقّع الاحتمالي إلخ.).

ثمّ يرسم انطلاقاً من ذلك: لوحة مفصّلة عن نقاط القوّة ونقاط الضّعف، الخاصّة به وبحلفائه جميعاً. ثمّ يرسم لوحةً مفصّلةً عن النّتائج المرجّحة لأي خيار، مع الفرص والمخاطر المرتبطة بكلّ من الخيارات الممكنة. إنّنا أمام عقلانيّة-واقعيّة بامتياز، كما سبق ورأينا:

  • ما هي الخيارات المطروحة أمامي لتحقيق أهدافي الاستراتيجيّة والتّكتيكيّة؟
  • ما هي موازين القوى الواقعيّة – والحقيقيّة والتّفصيليّة – في المنطقة وفي العالم؟
  • ما هي النّتائج المرجوّة من وراء كلّ خيار؟
  • ما هي التّكلفة المحتملة لكلّ من هذه الخيارات؟
  • (إلى آخر القائمة من الأسئلة “العقلانيّة” التّقليديّة..).
إقرأ على موقع 180  التوحل الإسرائيلي في غزة.. ومأزق "الجبهة الشمالية"!

وهذا ما يجعلنا نفهم بشكل أعمق – ربّما – ما يحصل الآن على مستوى الإقليم ومن زاوية صنّاع القرار في “الجمهوريّة الإسلاميّة” بالتّحديد. تخيّل وتصوّر معي:

(١) نحن أمام مقاربة أصبحت شبه نهائيّة لما حصل في السّابع من تشرين الأوّل/أكتوبر.

(٢) وقد صرنا على الأرجح أمام أهداف باتت شديدة الوضوح بعد كلّ هذا الوقت.

(٣) ولكنّ ما يلعب اليوم هو: كلّ ما سبق حول (نقاط القوّة) VS (نقاط الضّعف)، و(الفرص) VS (التّكاليف والمخاطر).

لذلك، وفي السّياق الرّاهن للأحداث، وباختصار شديد: من المرجّح جدّاً، حسب نموذجنا المثالي، أن يكون “العقل الإيراني” ذاك قد قرّر حاليّاً اعتماد سياسة تصعيدٍ تدريجيٍّ ومدروسٍ ودقيقٍ جدّاً. وذلك لاعتبارات عديدة قد يكون أهمّها التّوازن (العقلاني السّمة، والمفروض من قبل الواقع) ما بين: (١) هدف منع الأمريكي والإسرائيلي من إلحاق هزيمة استراتيجيّة بالمقاومة الفلسطينيّة في غزّة و/أو تغيير موازين القوى الحالي في الإقليم؛ (٢) والتّكلفة العالية التي يُمكن أن يدفعها المحور الحليف لإيران – و/أو إيران نفسها – في حال نشوب صراعٍ إقليميٍّ من النّوع المفتوح والشّامل.

إنّنا إذن على الأرجح، وباختصار: نقف حاليّاً، في هذا الإقليم، على حبلِ التّوازن الرّفيع ما بين هذَين المَيلَين العامَّين (أو هذَين الاتّجاهَين العقلانيَّين-الواقعيَّين العامَّين). هذه هي الخطّة “العقلانيّة” المرجَّحة.. لكن هل تسير الأمور، في الأعمّ الأغلب، تماماً حسب الخطط العقلانيّة-الواقعيّة؟

خطوة رابعة: حقيقة أنّ “الصّباح خيرٌ من المصباح”

لا أعتقدُ ذلك شخصيّاً ولا أعتقدُ أنّ “العقل الإيراني” قيد البحث: يؤمنُ بذلك. فعاقبة الأمور ليست بيدِ ذهن الإنسان ولا بيدِ أفكاره ومفاهيمه ومبادئه.. ولا بيدِ ما يظنّ أنّها أفعالُه. عاقبة الأمور، في باطن الأشياء، تتجلّى في الغالب وكما رأينا في ما سبق: على شكل قفزاتٍ وجوديّة ومعرفيّة، غير معلومة الأسباب ولا التّوقيت ولا النّتائج في أغلب الأحيان.

قد يبدو الحديث عن هذا الجانب خياليّاً للبعض، ولكن علينا أن نعلم برأيي: أنّ مضمونه أساسيّ بل وجوهريّ في سبيل فهم هذا العقل قيد البحث.

بالمناسبة، لسنا أوّل من تحدّث عن الدّور المهمّ الذي يلعبه “العقل العرفاني” ضمن العقل الشّرقي عموماً أو ضمن ما يسمّى بالعقل العربي و/أو الإسلامي. فثلاثيّة القرآن والبرهان والعرفان متواجدة بقوّة في تفكير صدر الدّين الشّيرازي (ملّا صدرا) المذكور في الجزء السّابق مثلاً. وهي متواجدة أيضاً في العمل المعرفي (الأبستمولوجي) الضّخم لمحمّد عابد الجابري، في ما يسمّيه نقد العقل العربي (وخلفه الإسلامي طبعاً: نحيل إلى مقالاتنا السّابقة على موقع 180Post حول الجابري، لكن أيضاً، حول محمّد أركون).

إنّ ثلاثيّة (النّص، والعقل المفكّر، والعقل الحدْسي-الرّوحي): ليست جديدة أبداً في ما يخصّ دراسة العقل الشّرقي بشكل عام، ولا العقلَين العربي و/أو الإسلامي بشكل خاص. مجدّداً: الجانب الصّوفي-العرفاني (أو الميسطيقي إن شئت) ضمن “العقل الجيوسياسي الإيراني” وضمن “العقل الإيراني” بشكل أعم، لا يمكن الاستهانة بمكانته ولا بدوره. ويخطئ كثيراً من لا يلتفت إلى الجانب هذا بشكل وافٍ وكافٍ.. وجدّي أيضاً.

من هنا، في ما يخصّ الأحداث الرّاهنة، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أيضاً: هذا الجانب وتأثيره.

لا أعتقدُ أنّ صاحبَ قرارٍ إيراني أو صاحبَ قرارٍ ضمن المنظومة الرّوحيّة والفكريّة ذاتها: لا أعتقد أنّهما يُقدمان على خطوات مصيريّة وكبيرة التّأثير.. من غير أن يشعرا، بما لا يقبل الشّكّ عندهما، أنّ الوجودَ يُعطيهما – يقيناً – الإشارات البيّنة على ورود الإذن من مصدره (في هذا الاتّجاه أو ذاك). تحدّثنا عن مفهوم الإذن هذا في الجزء السّابق، وقلنا إنّه قد يظهر على شكل تسهيلٍ مبينٍ لخيار معيّن، أو تنظيمٍ تلقائيٍّ مبينٍ للمعطيات في طريقٍ معيّن، أو قفزةٍ غير منتظرة ولا متوقّعة في مجرى الأمور.. وما إلى ذلك (وليس فقط على شكل رؤىً ومكاشفات وكرامات (إلخ.) من النّوع الميسطيقي Mystique التّقليدي و/أو الشّعبي.. وما إلى ذلك أيضاً).

برأيي: لا يكتفي القائد، ضمن هذا العقل قيد البحث، بالذّهن وبالمفاهيم (ومنها المبادئ الذّهنيّة الثّابتة المُعتمدة). لا يكتفي بالعين الباصرة: وإنّما يترقّب ويتطلّع إلى ما تُظهره لهُ العين البصيرة. وكما أوردنا في ما سبق: فلظهور الحقائق من خلال العين البصيرة شروط، ولن نعود إلى تفصيلها هنا طبعاً.

***

في الخاتمة، نُذكّر القارئ العزيز أنّنا أمام محاولة وجيزة ومختصرة لفهم هذا “العقل الجيوسياسي الإيراني” بشكل أعمق، وبطريقةٍ هي أقرب إلى الطّريقة العلميّة الحديثة. ولكنّها مجرّد محاولة: اعتبرْها مقدّمة لمحاولة إن شئت. وإنّ اعتمادَها على منهجيّة النّموذج-المثالي المشار إليها سابقاً: يجعلها تميل، في بعض الأحيان، إلى المبالغة المقصودة وإلى التّبسيط المقصود. لأنّ الهدف هو محاولة الوصول إلى السّمات: (١) الجوهريّة؛ (٢) والنّموذجيّة؛ (٣) والممَيِّزة (معاً). ولا يكون ذلك من غير مبالغةٍ و/أو تبسيطٍ لبعض المعالم والجوانب كما رأينا.

لذلك، أدعوك مجدّداً قارئي العزيز، إن استطعت: إلى نقد هذا النّموذج-المثالي، ونقد سماته، ونقد طريقة بنائنا له ولها.. كما ونقد محاولتنا لمقابلتهما مع معطيات ما يُسمّى بالواقع الخارجي.. والله وليّ التّوفيق لنا ولك: في سبيل تعميق فهمنا لهذا “العقل” المهمّ في تاريخ وحاضر وحركة منطقتنا.. ولا سيما في لحظة تاريخية وربما تكون تأسيسية.

راجع الجزء الأول: “العقل الهادىء”.. سلاح إيران الإستراتيجي

راجع الجزء الثاني: إيران والقرارات المصيريّة.. “الصَّباح خيرٌ من المِصباح”

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  فرويد في حرب غزة.. الصدمة والتداعيات!