بداية، لا بد من الإشارة إلى أن الوضع في الضفة الغربية كان قابلاً للإشتعال قبل معركة “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فالعامان الأخيران (2022-2023) كانا الأكثر دموية بالنسبة لسكان الضفة منذ الانتفاضة الثانية (أيلول/سبتمبر 2000 – شباط/فبراير 2005)، التي لا يزال إرثها يساهم في تشكيل السياسة التي يتبعها كلٌ من الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أرييل شارون، هو من أشعل الانتفاضة الثانية، بعد زيارته الاستفزازية المُتعَمَدَة إلى المسجد الأقصى بصفته زعيماً للمعارضة آنذاك. يومها قابلت قوات الإحتلال غضب الفلسطينيين بحملات قمع قاسية جداً ساهمت بدورها في تأجيج الاحتجاجات.
وعلى الصعيد السياسي، كان الفلسطينيون في قمة إحباطهم ويأسهم من “عملية السلام”، التي فشلت في تحقيق دولتهم المستقلة. فبرغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية (بما في ذلك المساعدة في سحق الفصائل المقاومة) رفضت وترفض إسرائيل باستمرار تقديم أية تنازلات، وتؤخر نقل الأراضي إلى الفلسطينيين، وتتعمد شلّ الاقتصاد الفلسطيني من خلال تشديد القيود التي تفرضها.
هذا غيضٌ من فيض ما دفع فصائل المقاومة للتسلح كخيار أخير من أجل إنتزاع تنازلات إسرائيلية وطرد الإحتلال من الضفة وغزة. تصاعدت المواجهات، وخرجت عن سيطرة كل الأطراف. استمرت الإنتفاضة الثانية نحو خمس سنوات دامية. ولـ”إكراه” الفلسطينيين على وقفها، اعتمد الإسرائيلي رداً قاسياً جداً، مما حدَّ من قدرة فصائل المقاومة على الإستمرار في المواجهة. في العام 2005 اضطرت المقاومة لإعلان وقف إطلاق النار بعد استشهاد عشرات آلاف الفلسطينيين، وتعرض عدد كبير من قادتها وعناصرها للاغتيال أو الاعتقال. هذا إلى جانب أن الكيان أعاد احتلال مدن في الضفة، وعمل على تقطيع أوصال الأحياء والبلدات والمحافظات بمئات نقاط التفتيش العسكرية، وبنى جداراً فاصلاً بين الضفة وإسرائيل بعد جدار مماثل على طول حدود القطاع.
بعد وقف إطلاق النار، انسحب جيش الإحتلال من غزة عام 2005، وفرض عليها قيوداً صارمة وحصاراً مشدداً. سارعت “حماس” إلى إعلان النصر، وفازت في انتخابات عام 2006 وتولَّت السلطة في غزة عام 2007، مما عزَّز الانقسام بين القطاع والضفة، وبين “حماس” و”فتح” على وجه الخصوص.
في السنوات التي تلت ذلك، حرصت إسرائيل على تعزيز وجود استخباراتي كثيف لها في الضفة، وفي بعض الأحيان وجود عسكري أيضاً. وكانت؛ بين حين وآخر؛ تشنُّ عمليات عسكرية واسعة النطاق على غزة، وإغتالت عدداً كبيراً من القادة الفلسطينيين وأبعدت آخرين، كما تعمدت خنق الاقتصاد الفلسطيني.
لا عزاء لأي عملية سياسية
في الوقت نفسه، كانت “السلطة” ورئيسها محمود عباس؛ في أغلب الأحيان؛ يتصرفان بناء على ما تُمليه عليهما أجهزة الأمن الإسرائيلية مقابل الحصول على الدعم المالي (مثل قمع فصائل المقاومة).
هكذا، ومنذ أواخر التسعينيات، أثبتت كل الأحداث التي كانت تجري على أرض واقع الفلسطينيين “أنه لا توجد – ولم توجد عملية سياسية على الإطلاق”، كما أعلن الأمين العام للمبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوثي، في تصريح له في العام 2022.
فالاحتلال منذ وجوده لم ولا يتوقف عن قضم الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وهذا دليل واضح على عدم نيته إتمام أي “إتفاق” أو “سلام”، فما بالك بالنسبة للإنسحاب من الضفة؟
سياسة إسرائيل في إستفزاز الفلسطينيين وإضطهادهم تجلت في أبشع صورها مع وصول حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة إلى السلطة؛ التي تضم أعضاءً يحرضون على الكراهية والعنصرية، ويسعون لتعزيز سلطتهم في الضفة من خلال توسيع المستوطنات (خصوصاً في المناطق العربية في القدس أو القريبة منها حتى لا تكون هذه الأحياء فلسطينية في حال استئناف أي مفاوضات). كما أنهم يتسابقون لسنّ قوانين وتشريعات هدفها فرض الكثير من الإجراءات التي تسلب الفلسطينيين المزيد والمزيد من حقوقهم.
في عهد هذه الحكومة، لقي مئات الفلسطينيين حتفهم وجُرح الآلاف بنيران جنود الاحتلال ومستوطنيه الذين ازدادوا عنفاً بشكل كبير وبتواتر غير مسبوق. الاعتقالات التعسفية لا تستثني أحداً. والمعتقلون؛ التي تعج بهم السجون الإسرائيلية؛ يعيشون ظروفاً قاسية جداً ويتعرضون لإنتهاكات فظيعة تسببت في استشهاد بعضهم. مئات العائلات طُردت من منازلها بالقوة (في حي الشيخ جرّاح في القدس وغيره من مناطق الضفة) وآخرون أُجبروا على مشاهدة منازلهم وأملاكهم تُهدم؛ والبعض أُجبر على هدمها بيديه. حتى مقدسات الفلسطينيين – من مسلمين ومسيحيين – لم تسلم، وشارك في تدنيسها كبار المسؤولين الإسرائيليين.
“الكفاح المسلح” خيارٌ شعبي
في ظل أجواء القمع والبطش هذه، ظهرت مجموعات فلسطينية مسلحة جديدة في الضفة، أبرزها “كتائب جنين” (عام 2021)، و”عرين الأسود” (عام 2022). تتلقى “كتائب جنين” بعض الدعم من “حركة الجهاد الإسلامي”، لكن انضم إليها أيضاً شُبان فلسطينيون من “حماس” و”فتح” و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.
تتمتع فصائل المقاومة الجديدة بمتابعات كبيرة على الإنترنت، وتستخدم منصات التواصل الإجتماعي للوصول إلى الشباب الفلسطيني. كما أن قوتها تكمن في تبنيها هيكل “الذئاب المنفردة” في تنفيذ هجماتها ضد المحتل، وكذلك في إعلانها أنها منفتحة على أي شخص يؤيدها. ومما يثير الاهتمام بشكل خاص أن بين أعضائها شُبان يعمل آباؤهم لدى “السلطة”، ما يعني أنهم قادرون على تهميش الفصيل السلمي والضغط على باقي التنظيمات لتبني خيار “الكفاح المسلح” من أجل التحرير.
يُعزّز هذا التوجه الشعور العام بالإستياء وعدم الرضا عن “السلطة” المنتشر على نطاق واسع في المجتمع الفلسطيني الذي بات ينظر إلى إعتداءات جيش الإحتلال واستفزازات المستوطنين على أنها تعكس ضعف شرعية “السلطة”. فالفلسطينيون لم يعد لديهم أملٌ في أن سلطة أبو مازن الحالية ستحقق لهم مشروع الدولة الوطنية المستقلة. وبحسب آخر استطلاعات الرأي، فإن أكثر من ثلث الفلسطينيين يعتقدون أن حل الدولتين لم يعد قابلاً للتطبيق، وأكثر من 70٪ منهم يفضلون تشكيل جماعات مسلحة مثل “عرين الأسد” و”كتائب جنين”، وكثيرون يبدون خشيتهم من أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة ستضم أجزاء من الضفة والقدس.
نبض الضفة “طوفان يغلي”
عندما شنَّ مقاتلو فصائل المقاومة في غزة عمليتهم البطولية الأخيرة، اختاروا لها شعار “طوفان الأقصى”، تضامناً مع كل ما كان يحدث في الضفة، خصوصاً لناحية المواجهات حول المسجد الأقصى وقضية المعتقلين الفلسطينيين.
في المقابل، وفي أعقاب الرد الإسرائيلي الضاري على عملية “طوفان الأقصى”، اندلعت تظاهرات تضامنية مع غزة في كبرى مدن الضفة، خصوصاً في جنين ونابلس ورام الله وطوباس وغيرها. فكان رد فعل جيش الاحتلال أن جعل الضفة منطقة مغلقة، وفرض قيوداً صارمة على حركة الفلسطينيين، وشرع في شنّ حملات اعتقالات ومداهمات تعسفية واسعة تسببت في استشهاد عدد كبير من المدنيين.
كذلك، وتحت غطاء الحرب على غزة، أصبح المستوطنون “منفلتين من أي ضوابط أكثر من أي وقت مضى“، وقد بلغ العنف الذي يمارسونه مستوى قياسياً، وفق تقارير الأمم المتحدة.
وبرغم كل التحذيرات التي ترفعها أجهزة الأمن الإسرائيلية (وكذلك الإدارة الأميركية) من أن عنف المستوطنين قد يؤدي إلى تصعيد خطير آخر في الضفة، فإن حكومة الكيان لا تفعل أي شيء لوقف هذا العنف الذي أدَّى (منذ “طوفان الأقصى”) إلى استشهاد أكثر من 300 فلسطيني وتهجير أكثر من ألف آخرين من منازلهم بشكل قسّري. على العكس. يتواطأ جيش الكيان بشكل كبير مع المستوطنين الذين يرتدون أحياناً ثيابه الرسمية ويعتدون على الفلسطينيين بموافقته وحمايته، وأحياناً بمواكبته المباشرة، في محاولة محسوبة لفرض سيطرتهم على مزيد من الأراضي الفلسطينية. أضف إلى ذلك أن إيتمار بن غفير (الوزير في حكومة بنيامين نتنياهو) جعل من أولوياته تسليح الإسرائيليين، المستوطنين على نحو خاص. ففي الآونة الأخيرة، تضاعف عدد مالكي الأسلحة في إسرائيل ثلاث مرات على الأقل.
وفي تطور أكثر إثارة للقلق، طالب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بـ”تأمين المستوطنين” من خلال تأسيس ما أسماه “مناطق معقمة” قرب مستوطنات الضفة يُحظر على الفلسطينيين الاقتراب منها. ومن شأن هكذا إجراء؛ إذا تم تنفيذه؛ أن يصب الزيت على النار لأنه يقلّص فعلياً المساحة التي يمكن للفلسطينيين أن يعيشوا، ويعملوا ويتحركوا فيها.
على وقع كل هذه الإعتداءات والإجراءات والإستفزازات، ومع إشتداد معركة “طوفان الأقصى” في غزة، وتوسع حدة المواجهات على جبهات محور المقاومة وتصاعد خطر حدوث حرب إقليمية، تتصاعد أيضاً مخاطر انزلاق الضفة إلى حال أسوأ من العنف والفوضى السائدين الآن: قد يبدأ بولادة شرارة انتفاضة ثالثة لكن لا يمكن التكهن كيف سينتهي الموقف.
فكما كان الحال عشية إندلاع الإنتفاضة الثانية، اليوم أيضاً يُقابل الإحتلال احتجاجات الضفة على ما يحدث في غزة بعنف وقساوة لا متناهيين، كما قابل دفاعهم عن الأقصى، واحتجاجاتهم على طردهم من منازلهم وهدم منازل أهالي المعتقلين وغيرها من الإنتهاكات التي يتعرضون لها كل يوم. واليوم أيضاً يشعر الفلسطينيون بالإحباط واليأس، تجاه “السلطة” خصوصاً، التي تتعرض بدورها لضغوط إسرائيلية وأميركية من أجل السيطرة على الوضع في الضفة. وهذا ما تحاول أن تفعله “السلطة” حالياً، برغم أنها تعلم أن “جهودها” هذه “مسمار آخر في نعش شرعية عباس”.
الوضع في كافة مناطق الضفة اليوم أكثر خطورة ممَّا كان عليه وقت اندلاع الانتفاضة الثانية. وكذلك الصورة الإقليمية والدولية هي أيضاً أسوأ بالنسبة للفلسطينيين. فعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي لا تزال تُظهر دعماً شعبياً واسعاً للقضية الفلسطينية، إلَّا أن العديد من الحكومات أقل دعماً بكثير مما كانت عليه قبل 20 عاماً، فبعض الدول العربية (الإمارات والبحرين والمغرب والسودان) طبعت العلاقات مع إسرائيل، وهناك من يسير في هذا الاتجاه.
لكن الجديد “الواعد” هو أن الإنقسام بين القطاع والضفة لم يعد قائماً، بعد أن أعاد “طوفان الأقصى” توحيدهما. وكذلك “حماس” اليوم ليست نفسها بالأمس. و”فتح” اليوم ليست كلها تعارض “الكفاح المسلح”. ويؤكد عدد متزايد من المحللين الاستراتيجيين على أن إسرائيل قد تخسر حربها على غزة، برغم كل أعمال العنف والمجازر والكوارث التي ترتكبها بحق الفلسطينيين. فهي بعد أكثر من شهرين ونيف من العمليات العسكرية الدامية لم تحقق سوى نتائج هامشية تكاد لا تُذكر: المقاومة لم تُهزم ولو جزئياً. والعقوبات التي تُفرض على أهالي الضفة لم تُثنهم عن مقاومة الإحتلال. وتجربة نضال عمره 75 عاماً أثبتت أن مقابل كل شهيد يسقط تولد أجيال من المقاومين الجاهزين للإنتقام.
الإنتفاضة الثالثة باتت قاب قوسين أو أدنى. وإن إندلعت ستهدد حياة الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وكذلك علاقات إسرائيل مع الدول العربية. فالشعوب العربية، على عكس حكوماتها، لا تؤيد “اتفاقات أبراهام”. وإذا ما أراد الكيان والإدارة الأميركية (والدول العربية التي طبَّعت أو التي ترغب بالتطبيع) تفادي ما هو آتٍ، فيجب أولاً وقف الحرب على غزة، وكذلك مشاريع الاستيطان والعنف والتطهير العرقي وملاحقة كل من يرتكب انتهاكات ضد الفلسطينيين، ثم معالجة القضية الفلسطينة بشكل جدّي وشامل، ليس أقله من خلال إيجاد حل عادل يضمن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.. ما عدا ذلك، سيبقى البركان الفلسطيني قابلاً للإشتعال.. ولننتظر ما ستحمله الأيام المقبلة على أرض الضفة والقدس.