وإذ يتقن الإسرائيليون هذا التكتيك السياسي والإعلامي، لا يُوفّرون فرصة إلا ويستغلونها من أجل توظيفها في نزع صفة الإنسانية عن الشعب الفلسطيني، وإظهاره من ذوي القيمة الأقل، ليستخدموا، بناء على ذلك، كل أساليب التنكيل والإذلال بحق من نجا من مجازرهم، وهم على ثقة بنجاتهم من أي حساب لاحق. لذلك جاءت حوادث تعرية الأسرى الفلسطينيين الذين اعتقلوا من داخل مراكز للإيواء في غزة كانوا يحتمون فيها، لتُبيّن إعتماد الجيش الإسرائيلي الأساليب النازية نفسها بحق المعتقلين الفلسطينيين. وبينما تعد الحوادث المتكررة التي شهدت تعرية أسرى ومحتجزين من ثيابهم وسط البرد في غزة أقل تلك الأساليب، إذا ما قُورنت بالحصار الدائم للقطاع، والتمييز العنصري بحق الفلسطينيين والإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لمدن القطاع وقراه ومخيماته، هذا الذي تواصله إسرائيل منذ أكثر من تسعين يوماً، يأتي “التأطير” الذي ينتهجه السياسيون والإعلام الغربي لكي يُخفّف من وقع تلك الممارسات على المتلقين، وبالتالي قطع الطريق على أي لوم قد تتلقاه قوات الإحتلال.
وعادة ما يحصل “التأطير” بالتركيز على جانب من جوانب قضية أو حادثة ما، وعلى تفاصيل ثانوية منها، أو على معنى مُحدّد فيها بُغية دفع الحقيقة إلى موقع أقل شأناً، من أجل ترسيخ ذلك الإطار المحيط بصورة الحادث أو القضية للوصول إلى الهدف الأهم، أي الحيلولة دون وصول الحقيقة إلى الجمهور خشية انحيازه إليها.. وفي هذا السياق، وبعد أيام قليلة من الانتشار الكبير لصور الجنود الإسرائيليين وهم يجمعون عشرات المعتقلين الفلسطينيين بعد أن جرّدوهم من ثيابهم، في الشوارع والساحات ووضعوهم في شاحنات مكشوفة تقلهم إلى مراكز الاعتقال، سرعان ما تلقى الإسرائيليون إدانات واسعة من جمهور عربي وأجنبي كبير، إلى حد تشبيه هذا العمل بممارسات النازيين، وهذا ما جعل المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية يلجأ إلى التصريح، في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تعهدت بالتخلي عن التقاط صور المعتقلين وهم عراة وبثها. وبهذه الفهلوية المعهودة من الأميركيين، يكون هذا المتحدث قد قفز فوق مسألة تعرية الأسرى باعتبارها انتهاكاً لإنسانيتهم، وركّز على مسألة التقاط الصور لهم وهم عراة في عز البرد القارس، ليُفضي إلى أن الإسرائيليين لن يُكرّروا بث هذه الصور، بينما المفترض به الطلب منهم ليس التوقف عن تعرية الفلسطينيين بل وقف اطلاق النار.
كلما أتى جيل جديد يزداد تعرفاً على فصول العدوانية الإسرائيلية في تلك البقعة الصغيرة من العالم، وبالتالي لن تموت قضية فلسطين طالما أن العدوان الإسرائيلي مستمر ويتمادى أكثر فأكثر، وفي المقابل، هناك دول ومؤسسات تُصر على التجاهل والتعمية.. و”التأطير”
وقبل هذه الحادثة، تعامل ساسة الغرب وإعلامه بالأسلوب ذاته مع حوادث كثيرة وقضايا ملحة، مستخدماً “التأطير” ممارسةً دائمةً، من أجل السعي إلى إفقادها أهميتها. لذلك رأينا في الأيام الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كيف تعامل الرئيس الأميركي، جو بايدن، مع مسألة قصف مستشفى المعمداني في شمال القطاع وقتل قرابة 500 شخص ممن كانوا في المستشفى ومحيطه، حين قال لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عندما زاره (متضامناً)، “لقد تبين أن الطرف الآخر (يقصد المقاومة الفلسطينية) هو المتسبب بقصف المستشفى”. عملياً، تبنى بايدن الرواية الإسرائيلية، ومن دون أن يستند إلى أي تحقيق يُبيّن هوية المتسبب بالتدمير، ناسفاً تاريخاً طويلاً من الاحتلال الإسرائيلي المترافق مع المجازر والحصار والتهويد، الذي يعد المتسبب المباشر بظهور هذا النزاع، والذي بدوره دفع إلى عملية “طوفان الأقصى” بوصفها عملاً مقاوماً فرضته ممارسات الإحتلال. وبفعله هذا، يكون بايدن قد وضع خلف ظهره مسألة قتل 500 شخص في دقائق قليلة، وأهمل ضرورة التحقيق لمعرفة الفاعل، من دون أن يرف له أي جفن.
ومقابل هذا الأمر، برزت القضية الأخلاقية بشدة خلال هذه الحرب التي ما تزال القوات الإسرائيلية تشنها على قطاع غزة، متسببةً وفق آخر حصيلة بمقتل أكثر من 23 ألف شخص، بينهم أكثر من 9 آلاف طفل، وغيرهم الآلاف من النساء والعُجّز. وهذا يُبيّن لنا أن انعدام الأخلاق لدى قادة الغرب هو المتسبب في استمرار هذه الحرب وفي كل ما ينتج عنها من انتهاكات ومآسٍ ومجازر وإبادة جماعية، حين أعطوا دولة الاحتلال الضوء الأخضر لشنها والمضي فيها طوال ثلاثة أشهر والحبل على الجرّار، وعندما وضعوا كل المسألة في خانة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، متناسين أن هذا حق حصري للواقعين تحت سيطرة الاحتلال وليس حقاً لأي قوة محتلة. لذلك لا يمكننا إرجاع اهتمام الخارجية الأميركية بحادثة تعرية الأسرى الفلسطينيين إلى التزام واشنطن الأخلاقي، أو إلى حرصها على مراعاة عدم انتهاك حقوق الإنسان، بل سببه انطباق صورة الإسرائيليين الذي عرّوا المعتقلين الفلسطينيين مع صورة النازيين الألمان الذين عرّوا مَنْ قيل إنهم يهود خلال الحرب العالمية الثانية، وهذا يؤكد حرص الولايات المتحدة على ألا تلحق صفة النازية بالإسرائيليين، كونهم يُكرّرون الممارسات النازية ذاتها بحق الفلسطينيين.
يقف خلف عملية “التأطير” الغربي، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين وأهلها، مؤسسات كاملة بموظفين موكلين تنفيذ هذه المهمة. ومنها مؤسسات حكومية في واشنطن وأوروبا، وأهمها المؤسسات الإعلامية التي تسعى إلى صناعة محتوى إعلامي يتناسب ومصالح مالكيها وداعميها من الممولين للتأثير في الجمهور وتوجيهه، وهذا الأمر لمسناه إثر عملية “طوفان الأقصى” لجهة رواج رواية واحدة مُشوهة، إلا أن الأمور انقلبت رأساً على عقب مع الاجتياح البري الإسرائيلي لقطاع غزة وتوالي فصول حرب الإبادة الإسرائيلية، ما أدى إلى جعل هذا الإعلام يُعيد النظر في سياسة التعمية مع انتشار الإعلام البديل..
لقد قسّمت الحرب الإسرائيلية على غزة، بما تسببت به من مجازر وانتهاكات، المجتمعات إلى قسمين؛ الأول، هم داعمو الإحتلال الإسرائيلي من مسؤولين ومؤسسات اقتصادية وإعلامية، والثاني، هم الجزء الكبير من الجمهور ليس فقط الرافض للرواية الإسرائيلية بل المتبني لرواية المظلومية الفلسطينية. وإذ يزداد الاستقطاب حدة في هذه المجتمعات مع مضي كل يوم لا يوضع فيه حد للقتال، يتمسك الجمهور بقراره عدم التوقف عن الكلام حول فلسطين، لأن الأمر بات قضية أخلاقية وإنسانية وحقوقية بالنسبة إليهم ولا سيما “الجيلZ”، وهو جيل الشباب الذي يتأثر بالإعلام البديل وصار حاضراً في سياسة الولايات المتحدة أكثر من اي وقت مضى، وسيكون له دوره في العقود المقبلة في صناعة القرار والرأي العام على مستوى أميركا والعالم.
في الخلاصة، كلما أتى جيل جديد يزداد تعرفاً على فصول العدوانية الإسرائيلية في تلك البقعة الصغيرة من العالم، وبالتالي لن تموت قضية فلسطين طالما أن العدوان الإسرائيلي مستمر ويتمادى أكثر فأكثر، وفي المقابل، هناك دول ومؤسسات تُصر على التجاهل والتعمية.. و”التأطير”.