هذه القناعة المقدسة لجذور “الأمة” ذات التأويل المستقى من سفر التكوين في التوراة، تقابلها قناعة مماثلة لدى الأذريين، فأذربيجان ليست أقل قداسة، وتستمد معناها من تأويل يقول إنها تعني الحاكم ـ الإله ذي السلطان والثروة والذي لا تمسه النار، على ما يروي محمود اسماعيلوف في كتابه الشهير”مختصر تاريخ أذربيجان”.
وعلى هذه الحال، يفترض النظر إلى الصراع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان وإنتقاله بين حين وآخر إلى مواجهات دامية، باعتبار بعض أصوله الكامنة لا تخرج عن سياق “القداسات المتحاربة”، وأكثر من ذلك، فإن كلا من الأمتين تجر أطراف التاريخ إلى قبضتها وتزعم أن الأمة الأخرى كانت من فروعها أو استحكمت بها أو فرضت سطوتها عليها.
وفي هذا الجانب، يقول أبو التاريخ الأرمني خوريناتسي إن ملك الفرس، آرشاك الكبير، عين أخاه، فاغارشاك، ملكا على أرمينيا، وما كان من فاغارشاك إلا أن توسع بحكمه فأمده إلى آسيا وغرب آشور وفلسطين وأذربيجان وبلاد القوقاز، وأما محمود اسماعيلوف فيقول إن دولة أطروباتينا ذات الجذور الأذرية والتي قامت في القرن الرابع قبل الميلاد كانت تشمل أرمينيا وجورجيا أيضا، وفي ظل الحروب غير المنقطعة بين الأرمن والأذريين، كانت منطقة أرساخ المعروفة اليوم بناغورنو قره باخ ميدان تجاذب مستمر بينهما، ومن وقائع التاريخ مثلما يقول اسماعيلوف أن الأذريين استعادوا منطقة أرساخ ـ ناغورنو قره باخ في القرن الخامس للميلاد.
من يفكك صواعق القداسات والتاريخ؟
لا أحد يستطيع ،
إلى الحاضر إذا…
قد يكون من المناسب حين تناول أسباب اشتعال النزاع بين أذربيجان وأرمينيا في الوقت الحالي الطرق على بابين :
ـ الأول، اختبار الشراكات الإستراتيجية بين تركيا من جهة وكل من روسيا وإيران من جهة أخرى.
ـ الثاني، التوقف عند الحضور التركي الثقيل وغير المسبوق في الأزمة الراهنة وارتباطها بالأبعاد الإستراتيجية خارج الحدود التركية.
في تفاصيل الباب الأول، وحين يقال إن الأزمة الأرمينية ـ الأذرية الحالية هي اختبار للشراكة بين الثلاثي التركي ـ الروسي ـ الإيراني، فلأن الثلاثي المذكور عمل في السنوات العشر الأخيرة على إقامة دعائم من العلاقات الإستراتيجية تحيدت معها الخلافات الثنائية المباشرة وحوصرت بؤر الخلافات في الخارج.
ففي الحال التركية ـ الروسية، يمكن استجماع العديد من دعائم الشراكة الإستراتيجية في مجالات النفط والغاز (خط السيل التركي) والمفاعلات النووية الروسية في تركيا، وتزويد موسكو لأنقرة بمنظومة صواريخ s400، فضلا عن استعداد تركيا لشراء مقاتلات روسية من طراز so35 بقيمة 3ـ 4 مليار دولار مما يجعل تركيا، الدولة الثالثة عالميا في قائمة مشتريات الأسلحة الروسية بعد الصين وإيران.
وإذ ترفض تركيا الإنخراط في ميادين منظومات العقوبات الأميركية ـ الأوروبية على روسيا، فإن حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2019 بلغ حوالي 25 مليار دولار، وفقا لما أورده موقع “روسيا اليوم” بتاريخ الخامس من آذار/مارس 2020، فيما الموقع نفسه كان أورد (27 آب 2019) عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أن الطرفين يخططان لرفع قيمة التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار أميركي سنويا.
هذا الحجم من الروابط البعيدة المدى بين موسكو وأنقرة، والتي يضاف إليها “الرابط المعنوي” المتمحور حول تموضع تركيا الجديد بين الشرق والغرب ومشاكستها للولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، يصب في صالح السياسات الروسية الخارجية، لكن ذلك لا يلغي بطبيعة الحال مراوحة الإضطراب والإختلاف في فضاء العلاقات الروسية ـ التركية على المستوى الخارجي، ابتداء من سوريا، ومرورا بليبيا وساحل البحرالمتوسط بما فيه النزاع بين تركيا وجارتيها قبرص واليونان، وأخيرا في أذربيجان.
كيف توازن روسيا شراكتها الإستراتيجية مع تركيا وبين مصالحها الإستراتيجية في مناطق الإضطراب الروسية ـ التركية؟
هذا سؤال إجابته مؤجلة إلى حين.
ترفض تركيا الإنخراط في ميادين منظومات العقوبات الأميركية ـ الأوروبية على روسيا، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في عام 2019 حوالي 25 مليار دولار
بالنسبة لإيران، تبدو الوطأة أقل حمأة وحمية، ولكن بالقدر الإستراتيجي الذي تقوم عليه الشراكة الثنائية الروسية ـ التركية، تنهض عليه الشراكة الإيرانية ـ التركية، فعلى مستوى المنظومات العقابية الأميركية المتلاحقة على إيران، فقد أعلنت تركيا بصراحة رفضها لتلك العقوبات، وبما يتعلق بالتبادل التجاري، فإن نائل أولباك، رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركية، كان أعرب من العاصمة الإيرانية طهران (وكالة أنباء الأناضول 18 تشرين الثاني/نوفمر 2019) عن الرغبة المشتركة برفع مستوى التجارة الثنائية من 9 مليارات ونصف مليار دولار إلى 30 مليارا، والرقم ذاته، كان أشار إليه وزير الإقتصاد والمالية الإيرانية، فرهاد دجبسند، حين تحدث عن “العلاقات التاريخية والمشرقة” بين إيران وتركيا، متطلعا إلى رفع قيمة التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار، مثلما أوردت قناة “العالم” الإيرانية الناطقة باللغة العربية بتاريخ 3 تشرين الأول/أكتوبر 2019.
وفي وقت تكاد أن تكون سوريا بؤرة التفجر الوحيدة بين تركيا وإيران، فإنهما يلتقيان في دعم دولة قطر، ويتوحدان في مواجهة الطموحات الكردية، ويتقاربان في الموقف من ليبيا عبر الإعتراف بـ “حكومة الوفاق” في طرابلس الغرب، مثلما قال وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف (وكالة سبوتنيك الروسية في 16 حزيران/يونيو 2020)، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع ناظر الخارجية التركية مولود تشاويش أوغلو، في أنقرة، إلا أن الصراع الأذري ـ الأرميني المستجد، يضع الشراكات الإستراتيجية بين تركيا وإيران أمام اختبار قل نظيره، فاستمرار المواجهات الدامية في ناغورنو قره باخ من شأنه أن يؤجج الحفيظة القومية داخل تركيا ويلهبها، ومن الصعب أن يكبح الأذاريون الإيرانيون جماح عواطفهم القومية المؤيدة لأذربيجان.
ما الحل؟
هذه إجابة ثانية مؤجلة.
وفي وقت تكاد أن تكون سوريا بؤرة التفجر الوحيدة بين تركيا وإيران، فإنهما يلتقيان في دعم دولة قطر، ويتوحدان في مواجهة الطموحات الكردية، ويتقاربان في الموقف من ليبيا
في الباب الثاني المرتبط بالحضور التركي غير المسبوق في الأزمة الأذرية ـ الأرمينية الحالية، من دواعي القول بداية، إن هذا الحضور يشكل أحد الظواهرالعملية للجموح التركي الذي تحرك أبعاده وأهدافه عجلات الطاقة من نفط وغاز.
وبحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية، بلغت قيمة واردات الطاقة عام 2019 قرابة 41 مليار دولار (وكالة أنباء الأناضول 24 آب/أغسطس 2020)، وهذا من شأنه أن يرهق الإقتصاد التركي، ولذلك تتطلع تركيا نحو سوريا، وقد بحث أردوغان مع بوتين وترامب التشارك في إدارة حقول النفط السورية في محافظة دير الزور (روسيا اليوم وصوت أميركا أذار/مارس 2020)، كما أن الوجود العسكري التركي في ليبيا، لا يمكن فصله إطلاقا عن مساعي تركيا لحجز مقعد مستقبلي على مائدة الحوار الدولي لإدارة النفط الليبي.
وفي حين تتضافر طموحات تركيا لتحويل مرافئها بوابات لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، وهو أمر يظهر في جوانب عدة متبلورة بخط الغاز الروسي عبر تركيا، وبتصدير النفط العراقي من كركوك عبر ميناء جيهان التركي، وبمشاريع إيرنية ـ تركية على طاولة البحث لتصدير الغاز الإيراني إلى أوروبا عبر تركيا، فإن الحضور التركي في قطر، يندرج في سياق استراتيجية الطاقة، والتي تعني تحصينا لأحد جوانب هذه الإستراتيجية في أكثر مناطق الطاقة الحيوية في العالم، ومن خلال تكثيف هذا الحضور في أذربيجان العائمة على النفط والغاز، تكون حلقات استراتيجية الطاقة التركية قد اكتملت.
ماذا يعني هذا كله؟
إن ذلك يعني أن تركيا التي تفتقد الإستقلالية في قرارها الإقتصادي نظرا لفقدانها مصادر الطاقة، تطمح إلى سد هذه النقيصة عبر الإستثمار في حقول الأزمات الإقليمية (الحرب السورية، اختلال الدولة العراقية، التمزق الليبي، حصار قطر، نزاع ناغورنو قره باخ)، وهذا الإستثمار في صواعق النزاعات والصراعات تعتبره تركيا فرصة لتصويب اعوجاجات التاريخ قبل مائة عام، وفي ذلك كتب ابراهيم قراغول رئيس تحرير صحيفة “يني شفق” المقربة من أردوغان بتاريخ 2 تشرين الأول/أكتوبر 2020 معلقا على التطورات الميدانية في ناغورنو قره باخ، فقال: “اليوم نرى العقلية الجيوسياسية في كل مكان، رأيناها أولا في شمالي العراق، ثم في سوريا، ثم في شرق المتوسط، ثم في بحر إيجة، ومؤخرا نراها في القوقاز، لسنا فقط من يراها بل يراها العالم كله، إذ تراها العناصر المركزية للنظام الدولي التي ترسم ملامح الخارطة الدولية منذ قرون، تركيا تنشئ قوة في أوسع حدود المنطقة وتأخذ زمام المبادرة وتنسف الوضع القائم منذ مطلع القرن العشرين”.
هنا بيت القصيد التركي.
تركيا “تنسف الوضع القائم منذ مطلع القرن العشرين”، ولكن أغلب عمليات النسف تجري في مساحات مشتركة مع شريكين مفترضين هما روسيا وإيران، ويطرح ذلك سؤالا عما يمكن أن يفعله هذان الشريكان مع تركيا، خصوصا في مساحة الإشتباك الأذرية، حيث تجتمع تحديات عدة تطال الأمن القومي والمجال الحيوي والرابط العرقي وصراعات التاريخ (الصفوي ـ العثماني/ القيصري ـ العثماني) وحروب الطاقة، ومثل هذه التحديات الخطيرة لا تجتمع في مساحات الإضطراب الأخرى بين الثلاثي التركي ـ الروسي ـ الإيراني.
ما العمل؟
لا يجلس فلاديمير لينين في قصر الكرملين ليجيب على هذا السؤال اللينيني، ولو كان حيا وأصغى لليون تروتسكي صاحب نظرية “الثورة الدائمة”، لأعلن حربا ثورية ضروس على تركيا، ولو أصغى وريث الكرملين فلاديمير بوتين لـ”فيلسوفه” السابق ألكسندر دوغين صاحب نظرية “الوطنية الأرثوكسية” لقرع طبول “الحرب المقدسة” على “غزاة القسطنطينية”، ولكن على ما يُعرف عن المنظومة الفكرية لبوتين ، أنه أكثر عقلانية ورؤيوية من فلاسفة “اليسار الطفولي” أو فلاسفة “اليمين القومي”، وبالنظر إلى التعاطي الروسي المتزن مع مستجدات المواجهة في ناغورنو قره باخ، وهذا يتعارض مع الموقف المساند لأرمينيا الذي اتخذته موسكو حيال المواجهات ذاتها في مطلع تسعينيات القرن العشرين الماضي وأفضت إلى هزيمة أذربيجان وإعلان استقلال إقليم قره باخ، فإن مسار احتواء الأزمة، يبدو خيارا استراتيجيا لروسيا هذه المرة لأسباب عدة، موجزها: موازنة بين الأرباح والخسائر في حال إنتصار يريفان، فتكسب روسيا أرمينيا مجددا ولا تضيف شيئا إلى حصيلة الأرباح، ولكنها تخسر تركيا ومعها الشراكات الثنائية، كما أن تفاقم الأوضاع يفتح أبواب التدخلات الدولية على مصراعيها في حدائق خلفية جديدة لروسيا، ولن تأتي هذه التدخلات لصالح روسيا بأي شكل من الأشكال.
ما ينطبق على روسيا، ينطبق بدوره على إيران، مع إضافتين لا غنى عنهما، الأولى، تتصل بخطاب “أذربيجان الكبرى” التي اعتمدته باكو في التسعينيات المنصرمة، ثم تراجعت عنه؛ الثانية، ترتبط بالعلاقة مع اسرائيل، وبما أن أرمينيا أقامت هي الأخرى علاقتها الخاصة مع تل ابيب، تكون قد تساوت وتوازنت مع أذربيجان في العلاقة المذكورة، مما لا يجعل طهران أمام مفاضلة استراتيجية بين أرمينيا وأذربيجان.
يقول الشاعر الأرمني يغيا دميرجيبشيان في إحدى قصائده :
“لقد أخذت السنين الغابرة كل شيء ،
أما السنين المقبلة،
فلا أتوقع أن تأتي بأي شيء”.
تبقى تركيا، وهي أكثر الأطراف معنية بحصاد الخسائر إذا اعتمدت المثل التركي القائل “ليس للتركي صديق إلا التركي”، فموازين الأرباح في أذربيجان مهما علا شأنها وتضخمت قيمتها، ستتحول إلى خسائر صرفة لو تفككت الشراكات الإستراتيجية مع روسيا وإيران.
وانطلاقا من ذلك، يغلب الترجيح، أن تذهب روسيا وتركيا وإيران إلى تشكيل “ثلاثي ضامن” حول أذربيجان، شبيه بالثلاثي الضامن للحل السياسي في سوريا والمعروف بـ”مسار آستانة”، وبهذا المسار يُغلق الثلاثي المذكور احتمال اتساع رقعة الشقاق بين أطرافه، ويحول دون تعقيدات التدخلات الخارجية ومعضلاتها، ويضع مصالح الأطراف الثلاثة على بساط البحث والنقاش مجددا، وبصورة تقترب من إعادة صياغة جديدة لخرائط النفوذ والحضور.
هل ينتهي الصراع الأذري ـ الأرميني؟
لا… لن ينتهي.
يقول الشاعر الأرمني يغيا دميرجيبشيان في إحدى قصائده :
“لقد أخذت السنين الغابرة كل شيء ،
أما السنين المقبلة،
فلا أتوقع أن تأتي بأي شيء”.
(*) كاتب لبناني