غزة و”حل الدولتين”.. لا كوستاريكا ولا غيرها 

في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن انه تباحث مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بمشروع "حل الدولتين" وبما يفضي إلى إقامة "دولة فلسطينية"، وبحسب بايدن أن هناك نماذج عدة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ولكنها منزوعة السلاح.

بصرف النظر عن شكل “الدولة الفلسطينية” الموعودة وعن جغرافيتها التي لن توافق إسرائيل على ترسيمها أو تثبيت حدود لها، كما يُستدل من الوقائع التي أعقبت اتفاقية “أوسلو” عام 1993، وبإسقاط العقيدة العامة التي تولدت لدى عموم السياسيين الإسرائيليين بعد حرب الخامس من حزيران/يونيو1967 بضرورة عدم الإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة آنذاك لأسباب شتى أبرزها اثنان، أولهما؛ أن تلك الأراضي “حق تاريخي”، وثانيها؛ يخضع لعوامل أمنية استراتيجية، فمشروع “حل الدولتين” الذي أعاد استحضاره الرئيس بايدن لا يتعدى كونه “استلهاما” لنموذج دولة كوستاريكا الواقعة في أميركا الوسطى بين دولتي بنما ونيكارغوا.

في دراسة متزامنة النشر في موقعي “تايمز أوف إسرائيل” و”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” المدعوم من مجموعة الضغط اليهودية “إيباك” في الولايات المتحدة، كتب ديفيد ماكوفسكي في السادس عشر من شباط/فبراير الماضي، فقال:

“حدّدت مقترحات نزع السلاح قيام دولة فلسطينية دون سلاح جو أو مدرعات أو أسلحة ثقيلة، ولكن مع أمن داخلي قوي وشرطة وقوات لمكافحة الإرهاب للحفاظ على النظام الداخلي، ومن شأن التعاون الاستخباراتي الإسرائيلي الفلسطيني والتعاون العملياتي أن يستمر بين حين وآخر، ويتمثل العنصر الأساسي بوجود طرف ثالث قادر على ضمان نزع السلاح وبقاء الدولة الفلسطينية الناشئة، وسيشرف هذا الطرف الثالث على أمن الحدود لمنع تهريب الأسلحة والتحقق من نزع السلاح من خلال التحقق من وجود مصانع أسلحة وغيرها وفض النزاع بين القوات الإسرائيلية والفلسطينية، ففي نهاية المطاف، تريد الولايات المتحدة أن تبدو الدولة الفلسطينية على غرار كوستاريكا”.

هذا المشروع، هو إعادة إحياء لنتائج محادثات جرت بين مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين عام 2009، ففي الخامس والعشرين من تموز/يوليو من العام المذكور آنفاً، نقلت صحيفة “الخليج” الإماراتية “أن ممثلين فلسطينيين وإسرائيليين غير رسميين انتهوا من بلورة الجانب الأمني مرفقا بالخرائط لما يسمى مبادرة جنيف، التي أعدتها جهات فلسطينية واسرائيلية عام 2003 إلى خطة تفصيلية تجعل من دولة فلسطينية منزوعة السلاح على غرار كوستاريكا فكرة عملية، مؤكدة أن الإدارة الأميركية تبنت الشق الأمني للمبادرة، وأنها تحظى برعاية ودعم غربي وعربي”.

السياسة الأميركية حيال حرب غزة تسير بإتجاهين، نزع سلاح القطاع ودولة فلسطينية موعودة ومنزوعة السلاح، ومن دون إغفال قاعدة أساسية في هذا المشروع، وتتمثل في نشر قوات دولية في غزة وفي أوصال الضفة الغربية المتقطعة طبقاً للنتائج التي تم التوصل إليها عام 2009 في عهد أوباما

و”مبادرة جنيف” هي حصيلة مفاوضات غير رسمية قادها وزير الإعلام الفلسطيني ياسر عبد ربه ووزير العدل الإسرائيلي يوسي بيلين وجرى التوقيع عليها في مطلع كانون الثاني/يناير 2003 وتحولت إلى وثيقة شبه رسمية، ولذلك، وبعد ستة أعوام سعى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لإعتمادها قاعدة لتسوية عتيدة بين السلطة الفلسطينية والإحتلال الإسرائيلي، وحينذاك (24ـ 7 ـ 2009) كتب المعلق الإسرائيلي الشهير اليكس فيشمان مقالته المعروفة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” بعنوان “كل شيء جاهز للتوقيع”.

وبحسب فيشمان “أنّ الوثيقة المذكورة، التي انطلقت قبل ست سنوات، استكملت تفاصيلها قبل شهرين تقريباً (أيار/مايو 2009) ومن المتوقع أن تبحثها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ورئيس مجلس الأمن القومي الأميركي الجنرال جيمس جونز وتم إعداد الوثيقة وبحثها بحثاً مدققاً من قبل مسؤولين في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارات خارجية كل من فرنسا ومصر وبريطانيا والأردن، وستنتشر في الأراضي الفلسطينية قوات دولية من أربع دول يتفق عليها الإسرائيليون والفلسطينيون، وتكون إحداها عربية أو إسلامية مثل مصر أو تركيا “.

وبعد أكثر من سنة (7 ـ 9 ـ 2010)، نشرت صحيفة “السفير” اللبنانية مقالة للكاتب المصري الكبير فهمي هويدي انتقد فيها مقالة رأي للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك نشرتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية مؤيداً فيها المفاوضات التي حظيت برعاية أوباما، ومما جاء في المقالة النقدية لهويدي وحيث استعاد فيها تفاصيل من الملحق الأمني في “مبادرة جنيف”:

“الملحق يتحدث عن دولة فلسطينية كسيحة منزوعة السلاح، تقوم القوات الدولية بحفظ حدودها، في الوقت ذاته، ثمة وجود عسكري إسرائيلي على أرض تلك الدولة يتمثل في محطتي إنذار، ولسلاح الجو الإسرائيلي أن يُحلّق في سماء الضفة للتدريب طول الوقت باستثناء أيام الجمعة والأعياد الإسلامية والمسيحية، وطوال ثلاثين شهراً. بعد اعتماد الوثيقة، سوف تستمر المشاركة الإسرائيلية في المعابر الحدودية بين الدولة الفلسطينية وكل من مصر والأردن”.

وبالعودة إلى كوستاريكا، ففي حوار أجرته قناة “بي بي سي” البريطانية مع بنيامين نتنياهو في السابع والعشرين من تموز/يوليو 2011 أجاب رداً على سؤال عن ماهية الدولة الفلسطينية التي يمكن أن تُقام وهي لا تمتلك جيشاً ولا تسيطر على حدودها وأجوائها، قال “سيكون للدولة الفلسطينية علم وعملة تماماً مثل كوستاريكا”.

إقرأ على موقع 180  "الحل السحري" بين طهران وواشنطن.. مفاوضات مباشرة؟

وأعاد نتنياهو الإستشهاد بهذا النموذج مراراً في حواراته الصحافية ولو بشكل تهكمي، وإستناداً إلى “تايمز أوف إسرائيل” في الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر2017 “شكّك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بواقعية قيام دولة فلسطينية خلال لقاء مع وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي، ورداً على سؤال مباشر إن كان ما يزال يدعم حل الدولتين، رد بسؤال إن كانت هذه الدولة “ستكون كوستاريكا أم اليمن، الأولى ديموقراطية مستقرة في أميركا الوسطى، بينما الأخيرة في حالة فوضى وحرب”، وفي حوار آخر (27ـ9 ـ2018) تساءل نتنياهو “كيف ستكون الدولة الفلسطينية مثل كوستاريكا أم مثل إيران”؟

إن استدعاء مثل هذه الشواهد وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، لا شك أنه صعب الحصر، لكن ما يمكن التوقف عنده في نموذج كوستاريكا أو غيرها، التصريح الذي أطلقه وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن (“إكسيوس” 31 ـ1 ـ2024) وقال فيه إن وزارته تعمل على دراسة الأنماط القائمة على دول منزوعة السلاح، وهنا بيت القصيد في السياسة الأميركية تجاه الواقع السياسي والأمني في قطاع غزة في مرحلة ما بعد توقف العدوان الإسرائيلي، فنزع سلاح القطاع يُشكّل صلب ومضمون هذه السياسة، ومن هنا أيضاً يجدر التوقف جلياً عند ثلاثة مواقف للرئيس بايدن، إذ قال في الأول “نحن نعمل في سبيل شرق أوسط لا وجود لحركة حماس فيه”، وفي الثاني “يجب ألا تخرج حماس منتصرة”، وآخرها في المكالمة الهاتفية مع نتنياهو (15 ـ2ـ2024) وقوله له “نحن نؤيدكم في تصفية حماس ولكننا نريد خطة تفصيلية لإجتياح رفح”.

وعلى ذلك، تكون السياسة الأميركية حيال حرب غزة تسير بإتجاهين، نزع سلاح القطاع ودولة فلسطينية موعودة ومنزوعة السلاح، ومن دون إغفال قاعدة أساسية في هذا المشروع، وتتمثل في نشر قوات دولية في غزة وفي أوصال الضفة الغربية المتقطعة طبقاً للنتائج التي تم التوصل إليها عام 2009 في عهد الرئيس أوباما، بإعتبارها حصيلة تفاهمات فلسطينية ـ اسرائيلية استندت بدورها إلى “مبادرة جنيف” عام 2003 وحظيت بدعم عربي ودولي، وكان مقرراً لها أن تبرز ملامحها العملية في العام 2012 إلا أن نتنياهو عمل على التنصل منها بالتدرج متذرعاً بالأحداث العاصفة التي أثقلت العالم العربي منذ عام 2011.

بصورة عامة، ومنذ “تجديد” الرئيس بايدن لمشروع “حل الدولتين” وبنيامين نتنياهو يعارض المشروع بالمطلق “لأن فكرة إقامة دولة فلسطينية تتعارض مع أمن إسرائيل”، كما نقلت عنه قناة “سي إن إن” في مؤتمر صحافي عقده في الثامن عشر من كانون الثاني/يناير الفائت، ومثلما قالت قناة “بي بي سي” بعد يومين من التاريخ الآنف إن “نتنياهو يتحدى بايدن ويُكرّر رفضه قيام دولة فلسطينية” أو مثلما نقلت عنه “بلومبيرغ” في 19 شباط/فبراير المنصرم أن “إقامة دولة فلسطينية خطرٌ على وجود إسرائيل”.

قبل الختام تعليق ساخر عن “حل الدولتين” ومشروع بايدن:

كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية افتتاحية في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير المنصرم قالت فيها إن بايدن “يطرح مشروعاً فاشلاً، يعرض إقامة دولة فلسطينية يرفضها الإسرائيليون”.

في الختام سؤال عن ارتباط رفض نتنياهو لـ”حل الدولتين” بالآثار والتداعيات الناجمة عن “طوفان الأقصى”؟

لا علاقة لهذا بذاك، فالرفض الذي يُبديه نتنياهو لـ”حل الدولتين” ومهما كانت الدولة الفلسطينية، يسبق عملية “طوفان الأقصى”، فقبل الأخيرة أطلق نتنياهو موقفاً مدوياً، وفقا لما ذكرت قناة “روسيا اليوم” في السادس والعشرين من حزيران/يونيو 2023 إذ قال “يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة دولة فلسطينية”.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  هل يُصبحُ "الأمير محمّد".. "ملكَ العرب"؟