نعم، في ذلك نوعٌ من التعلق بالأمل؛ ذلك الدرس الأكبر الذي أعاد إحياءه الشعب الفلسطيني بصموده، ومن قبله النبي محمد، وهو يشارك في حفر الخندق للإحتماء من جحافل الأحزاب التي اجتمعت عليه، فاذا به كلما كسر حجراً كبّر مُستبشراً “فتحت الروم.. فتحت فارس..”، مع أن ميزان القوى لم يكن لمصلحته.
وقضية هذا المقال هو السؤال المستعصي على الإجابة منذ أكثر من قرنين من الزمن: أي النظم الاجتماعية أجدر بالنهوض بالأمة؟ ولا أدعي إجابة قاطعة على سؤال قديم فرض نفسه من يوم أن دخلت الخيل الأزهر، ولم نهتدِ إلى إجابة حاسمة من ساعتها. بل افترقت فيه المذاهب الفكرية والأحزاب السياسية، وبرغم أنها جميعها قد أتيحت لها فرصة تطبيق ما ذهبت إليه من أفكار بما اجتمع لها من سلطة في بلد أو آخر من جسد تلك الأمة على امتداد القرنين الماضيين، إلا أنها فشلت جميعها.
لا أدعي إجابة نهائية على ذلك السؤال، ولكن أقصى ما أحاوله في هذا المقال استثناء بعض الخيارات. ويبقى السؤال برغم ذلك مفتوحاً وإن كان أكثر تحديداً لتقييد مجال البحث عن الإجابة.
***
الرأسمالية بين الحقيقة.. والخيال
مع إنتهاء الحرب العالمية الثانية لاح في الأفق نظامان متمايزان نجحا في دحر النازية والفاشية وبذلك النصر تُوّجا على رأس النظم الاجتماعية باعتبارهما أفضل النظم لاقامة مجتمع حديث وقوي: الشيوعية والرأسمالية. والأفضلية هنا معيار نِيتشوي صرف؛ فالأخلاق والمعاير يُحدّدها القوي بغض النظر عن مآلات تلك الأفكار والعقائد. وبعد تراجع الشيوعية أمام الرأسمالية تُوّج النظام الرأسمالي ملكاً منفرداً على رأس النظم الاجتماعية. فمن أراد التقدم والارتقاء فلا سبيل أمامه إلا النظام الرأسمالي.
ثم شرعت الأقلام تُحلّل وتُبشّر بالنظام الرأسمالي، وراح دعاة التغريب يتحدثون عن عناصر قوة الحضارة الغربية وتبنيها قضايا العلم وحقوق الانسان والحريات وتطبيق المنهج الرأسمالي في الاقتصاد، فأين تلك الحقوق والمبادئ مما يحدث في غزة حالياً؟ وإن تغاضينا عما يحدث في غزة فهل تلك الأسباب والعناصر كافية لتفسير قوة الحضارة الغربية؟
ابتُلينا بنُخبٍ تعمل على تسفيه الماضي وتراثٍ يربو على الأربعة عشر قرناً لأنه من وجهة نظرها هو سبب تخلفنا! هؤلاء معادلتهم بسيطة “الغرب يحتقرنا ويحتقر ثقافتنا، والغرب دائماً على صواب بمقياس نيتشه، إذاً نحن حقيرون وثقافتنا حقيرة ولا فرصة لتطورنا إلاّ بنبذها”. وهكذا وصل بنا الهوان أن نتبنّى وجهة نظر عدونا عن أنفسنا فأصبحنا لا نرى أنفسنا إلا بعيون عدونا!
هناك أسباب أخرى لتلك القوة لا يتحدث عنها التغريبيون إمّا جهلاً أو تآمراً، ومنها احتكار الثروات في العالم إمّا بقوة السلاح والاحتلال المباشر أو عن طريق العروش والحكومات العميلة على إمتداد عقود بل قرون، وإجهاض كل محاولات التنمية في البلدان الأخري تارة بالحروب وأخرى باستهداف الكفاءات حتى تظل تلك البلدان أسواقاً لمنتجاتهم ومصدراً للمادة الخام لعجزهم عن تصنيعها، وتحويل العالم إلى ساحات حروب لضمان ازدهار صناعات السلاح، وقد صدق ماركس عندما قال إن “الرأسمالي الذي يصنع التابوت سوف يبتهج بالطاعون”، ولو امتد به العمر لرآه لا يكتفي بالابتهاج بالطاعون وحسب بل يسعي حثيثاً لنشره. ثم من أجل ضمان استمرار الاستهلاك لصالح رأس المال، شرعت الرأسمالية في تدمير البني الاجتماعية بدءاً باصطناع حروب بين الرجل والمرأة وصولاً إلى المثلية ثم إلى مجتمعات الـ LGBTQ حتى يظل الانسان منساقاً إلى الاستهلاك دائماً بسبب خوفه وغربته بعد أن تم تدمير أمانه الأسري.
ولم تسلم البيئة من جشع الحضارة الغربية، سواء من قتل للغابات أو من إجراء تجارب نووية في المحيطات أو من إحتباس حراري كنتيجة مباشرة للنهم الرأسمالي حتى أصبحت الحياة على الأرض قاب قوسين أو أدنى من الانقراض الجماعي.
إنّ الحكم على مدى تطّور ورقيّ أي نظام اجتماعي لا يكون فقط من خلال النظر إلى مخرجاته النهائية، بل من خلال وزن تلك المخرجات بالمدخلات والأثمان التي دفعت فيه. ولو وازنا بين الحضارة الغربية وما سبقها من حضارات وفقاً لذلك المعيار فأغلب الظن أنها ستحل الأخيرة بين تلك الحضارات.
الشيوعية والرأسمالية في الميزان
إنّ كلا النظامين الشيوعي والرأسمالي يكادا يكونان متطابقين في حقيقة كل واحد منهما، فكما ذهب ماركس إلى أنّ الدين أفيون الشعوب، أعلن نيتشه موت الإله. وكما جادل ماركس عن الحتميّة التاريخية وأن العوامل الإقتصادية هي المحرك الرئيسي للأمم والدافع إلى تقدمها، فإن الرأسمالية لم تختلف أبداً في هذا بل غالت فيه حتى ذهبت إلى تأليه الإقتصاد واعتباره معيار القوة الأول والأخير. وكأن الخلاف بينهما ينحصر في دور الدولة في المجتمع. بل حتى في هذا الأخير تكادا أن تكونا متطابقتين، ففي كل نظام منهما أحكمت الدولة قبضتها على المجتمع، ولكن الشيوعية مباشرة في إظهار ذلك، بينما تستّرت الرأسمالية خلف أجهزة الإعلام والمخابرات وشركات المعلومات. ومع هذا القدر من التوافق، يُصبح الفرق بين الشيوعية والرأسمالية كالفرق بين الثورة والثروة، مجرد تقديم وتأخير. فالشيوعية راهنت على قدرة الثورة في حل أزمات المجتمع. بينما راهنت الرأسمالية على الثروة وقدرتها على تسكين المجتمع وإلهائه عن الثورة. ولكن إستفحال الثروة يفضي في النهاية إلى الثورة بعد اتساع الهوة بين الطبقات ونشوء طبقة متعالية لا تخضع للقانون ولا تتورع عن اظهار ترفها واحتقارها للجمهور، فتنتهي إلى الثورة أيضاً بعد فترة من المرواغة والخداع.
إن الدرس المستفاد من كلا النظامين هو أن المجتمع لا يستقر بالحرية وحدها في غياب العدالة الاجتماعية، كما ذهبت إلى ذلك الرأسمالية، وكذلك لا يستقر بالعدالة الاجتماعية وحدها في غياب الحرية كما ظنّت الشيوعية. فلا بد من نظام يجمع بين هذين النظامين. ولكن هل هذا ممكن؟
الحرية مبدأ فردي بينما المساواة مبدأ اجتماعي. وهما برغم تساميهما إلا أنهما يكادا أن يكونا متناقضين عند التطبيق. فقد تتطلب المحافظة على سلامة المجتمع قمع حرية بعض الأفراد، وكذلك قد تُهدّد حرية الأفراد أحياناً السلام الاجتماعي كله. والمغالاة في الحرية قد تُؤذن بالفوضى، كما أنّ المغالاة في السلام الاجتماعي تُؤذن بديكتاتورية السلطة.
في المثال الآتي، ما قد يساعدنا على فهم هذا التناقض: إذا تخيلنا نظاماً ثلاثي الأبعاد يحتوي عدداً من الجسيمات (10 جسيمات)، فإن درجة حرية هذا النظام تكون في أقصاها (30 درجة) إذا لم يكن هناك أي علاقة محددة بين أجزائه، أي اذا ما كانت الجسيمات العشرة مستقلة عن بعضها استقلالاً تاماً بحيث لا يشعر أحدها بالآخر. فاذا ما وُجدت قوة ما ربطت بين تلك الجسيمات فبشكل تلقائي سوف تتراجع درجات حرية ذلك النظام. وعلى النقيض من ذلك، لا يمكن احداث التوازن (المساواة) بين أجزاء ذلك النظام لتأثير درجة الحرارة مثلاً إلا بتواصلها مع بعضها البعض. فالحرية والمساواة تكادا أن تكونا مستقلتين تربطهما علاقة عكسية. فكما يوجد مبدأ عدم التأكد بين الحيز وكمية الحركة في الفيزياء، والتناقض بين التناسق والكمال الذي تنص عليه مبرهنة جودل في الرياضيات، أستطيع أن أتخيل، كامتداد لهذين المبدئين، مبدأ ثالثاً في علم الاجتماع هو عدم التأكد بين الحرية والمساواة. دليل ذلك المبدأ هو التناقض الظاهري بين الرأسمالية والشيوعية. فالرأسمالية حقّقت أعلى قدر من الحرية الفردية ولكن جاء ذلك مصاحباً بخلق أعمق فجوة بين الطبقات، غير خفية في المجتمع الغربي نفسه، شديدة الوضوح في الدول التي قهرها المجتمع الغربي من أجل استنزاف ثراوتها لمصلحته، ليرمي بها في جهالات الحروب الأهلية والفتن الطائفية والأزمات الاقتصادية والمجاعات. وعلى النقيض أعلت الشيوعية من قيمة المساواة الاجتماعية فجاء ذلك مصاحباً لقهر الانسان وتحويله إلى ترس بآلة لا روح له، ولا غرابة أنه سرعان ما تعطلت الآلة نفسها كنتيجة طبيعية لهشاشة تروسها.
هل من نظام يضمن الحرية والمساواة معاً؟
علمتنا الفيزياء أن اللاحتمية بين الحيز والحركة يُمكن أن ترفع وأن تستبدل بالحتمية/اليقين الذي يُميّز الفيزياء الكلاسيكية والمنطق البشري إذا ما اعتمد بعداً خفياً اضافياً. فاللاحتمية في ذلك الفكر نابعة من نقص المعلومات وبالتالي ترفع إذا ما ضمنت تلك المعلومات المشار إليها بالبعد الخفي. هذا البعد الخفي في علم الاجتماع هو “الله”. فقط عند الاقرار بوجوده تنسجم الحرية والمساواة. بل حتى على المستوى الأولي لا يُمكن تحقيق الحرية أو المساواة إلا بالاقرار بالله فضلا عن تحقيقهما معاً. فبإنكار الله تزول الحرية والمساواة معاً. ذلك لأنّه مع إنكار الله تُرفع الروح ويصبح الكون مادة جامدة بما في ذلك الانسان. وبالتالي يصير شأنه شأن المادة الجامدة فاقداً للحرية خاضعاً لجبرية القوانين. فلا حرية للأرض في الدوران حول الشمس أو عدم الدوران، كما لا اختيار للنواة المشعة أن تنشطر أو لا تنشطر. كذلك بإنكار الله لا يمكن المساواة بين آينشتاين ومجنون. تلك المساواة لا تتحقق إلا عند الاقرار بالله، لأنّه عندئذ يصير للإنسان بعدٌ متجاوزٌ؛ الروح، يتساوى بها الجميع برغم عدم تساويهم المادي.. فقط عند الإقرار بوجود الله يصير هناك معنى للحرية والمساواة ويصبح تحققهما الآني ممكناً.
إن الناظر المُدقّق لن يغفل أوجه شبه عديدة بين النظام الاجتماعي في الاسلام والشيوعية من جهة والاسلام والرأسمالية من جهة أخرى. ذلك لأنّ الإسلام يمكن أن يُلخص في مبدئين لا ثالث لهما؛ الحرية والمساواة. ومن هنا جاء التناقض في فهمه والحرب عليه. فالبعض باسم الحرية اتهمه بالحجر على المرأة وتقنين العبودية، والبعض الآخر باسم السلام الاجتماعي استخدمه في تبرير ديكتاتورية السلطة وشجّعها على سفك الدماء، وإن كان الإسلام أقرب إلى الاشتراكية منه إلى الرأسمالية. وذلك ما يفسر لنا مثلاً ظاهرة التحول من الماركسية إلى الفكر الاسلامي بين مفكرينا. ففي المسار الثقافي المصري، تبدى الكثير من مثقفينا متأثرين بالمد الشيوعي وعلى رأسهم عبدالوهاب المسيري، مصطفى محمود، ومحمد عمارة، لكنهم في مرحلة ما من تطورهم الفكري انحازوا إلى الأفكار الاسلامية، وكأن الإسلام هو النتيجة النهائية لتطور الإشتراكية. وقد أشار الشاعر أحمد شوقي إلى ذلك في قصيدته “ولد الهدى” (التي غنّتها السيدة أم كلثوم) عندما قال:
الاشتراكيون أنت إمامهم/ لولا دعاوى القوم والغلواء
وأكمل ذلك الشاعر حافظ ابراهيم في قصيدته العمرية عندما قال:
ما الاشتراكية المنشود جانبها/ بين الورى غير مبنى من مبانيها
فإن نكن نحن أهليها ومنبتها/ فإنـهم عرفوها قـبل أهليـها.
الله.. والإنسان
يهدف الفكر الشيوعي أساساً إلى احلال المساواة التامة بين طبقات المجتمع، وهو يرى أنه عندما تسود المساواة بين أطياف المجتمع ويؤدي كل فرد فيه دوره بفعل العادة تنتفي الحاجة إلى وجود الدولة ومؤسساتها تدريجياً فتستبدل الدولة بالمجتمع. وذلك لا يتم من وجهة النظر الشيوعية إلا من خلال طورين: الاشتراكية هي الطور الأول، حيث تستبدل الدولة السياسية بالدولة الادارية التي يتشارك فيها كل المجتمع ولا تتأثر بها فئة قليلة، إلى أن يألف المجتمع كله العمل المنظم وعندئذ يحين الطور الثاني وهو الشيوعية، أي المجتمع المتساوي حقوقاً والمتناغم دوراً، حيث يقوم كل فرد بدوره دون تسلط ويحصل على حقوقه دون تعنت أو إستجداء. إلاّ أنّ الشيوعية لم تتحق قط قرابة قرن من الزمن في روسيا وأوروبا الشرقية ولا الآن في الصين. بل إننا لا نبالغ إذا قلنا أنّ ما آلت اليه الشيوعية في كلا المثلين الروسي (السوفييتي) والصيني هو نقيض النظرية الماركسية في الأساس. فبدلاً من ديكتاتورية البروليتاريا جنحت الدولة إلى الديكتاتورية المطلقة حتى على البروليتاريا التي قد قامت من أجل نصرتها. وعلى النقيض، لا نرى لغاية الماركسية النهائية تلك تحققاً في التاريخ إلا في مجتمع النبي وخلفائه وهذا هو وجه الشبه الأهم بين العقيدتين. إذ كان هناك مجتمع بالمعنى الدقيق وغياب للدولة بالمعنى الدقيق أيضاً. فنظام حكم النبي محمد لم يكن ديموقراطياً ولا ديكتاتورياً ولا سلطوياً ولا أي شيء آخر غير كونه مجتمعاً منعدم التمييز أو الطبقية، يتصرف كل واحد فيه من دون أي تمايز مع الآخر. فالناس سواسية كأسنان المشط. ولم يكن لذلك المجتمع مؤسسات بالمعنى الدقيق. فالمجتمع كله جيش إذا ما نادى منادٍ للحرب، والإنسان قاضي نفسه اذا ما وقع في الحرج. وذلك هو التحقق العملي للشيوعة: مجتمع بلا دولة ومساواة بلا طبقية.
وما جعل ذلك ممكناً في الاسلام دون الشيوعية هو تمركزه حول “الله والانسان”. هذان العنصران هما ما جعلا لمجتمع النبي وخلفائه (وهو نفسه غاية الشيوعية) تحققا. أما المذهب الماركسي فقد انكر كلا العنصرين. فبالاضافة إلى انكار الله كما أشرنا سابقاً، تُنكر الشيوعية أي تميز فردي (العبقرية) ولا ترى تحققاً إلا للمادية التاريخية أي تقدم العوامل الاقتصادية على الخّلاقية الفردية. ولا يمكن أن ينسجم المجتمع إلا إذا تحقق لأفراده امتياز فردي مستقل عن العوامل الاقتصادية. فمجتمع المدينة لا يمكن أن يستقر إلاّ بنبوغ أفراده وتعاليهم على الشهوات والمصالح الفردية مؤثرين طوعاً لا جبراً المصلحة العامة. وعندما غابت تلك النفوس الراقية تحلل ذلك المجتمع سريعاً. وكان من تمام النبوة أن تنبأ النبي بحلول الملك (أي الدولة = الظلم وفق التعريف الماركسي) بنهاية ذلك الجيل حين قال “تكون الخلافة بضع وثلاثون سنة – عمر ذلك الجيل الأول – ثم يكون ملكا عضودا”. فلا غرابة إن فشلت الماركسية في تحقيق غايتها العظمى لأنها بدأت أصلاً بانكار كلا العنصرين فوأدت هدفها في مهده. ذلك أنّ المجتمع لا يمكن أن يقوم إلا إذا حُدّدت له جهة خارجه يتجه إليها بشكل متناغم (الله)، وهو الأمر الذي أنكرته الماركسية ساعية إلى بناء بناء مجتمع من دون اجتماع، أي دون غاية متعالية لهذا الاجتماع ليجتمع إليها! كذلك يتطلب أفراداً ممتازين صالحين بالفطرة أو “سوبرمانيين” بلفظ نيتشه، ومع ذلك، فقد أنكر الماركسيون العبقرية الفردية!
الحرية مبدأ فردي بينما المساواة مبدأ اجتماعي. وهما برغم تساميهما إلا أنهما يكادا أن يكونا متناقضين عند التطبيق. فقد تتطلب المحافظة على سلامة المجتمع قمع حرية بعض الأفراد، وكذلك قد تُهدّد حرية الأفراد أحياناً السلام الاجتماعي كله. والمغالاة في الحرية قد تُؤذن بالفوضى، كما أنّ المغالاة في السلام الاجتماعي تُؤذن بديكتاتورية السلطة
البقاء للأقوى!
على الناحية الأخرى، يشترك الاسلام مع الرأسمالية في الإعلاء من قيمة الحرية الفردية. وبخلاف الديانتين السابقتين له، قام الإسلام بازالة أي واسطة بين الانسان وربه وان كان النبي ذاته ليصبح ذلك الدين علاقة مباشرة بين الله والانسان. وجاءت كلمة التوحيد، عنوان ذلك الدين، لتحرر الانسان من كل قيد وهميّ كان يُكّبله من قبل كالرزق الذي يّخضع الإنسان صاغراً لمن هو أعلى منه، والسلطة التي يهابها الانسان على حياته، والشهوات التي تُقلّل من كرامته وكبريائه. فكلمة التوحيد تعني أن كل ما سبق بيد إله واحد، بالخضوع له يتحرر الإنسان من أي واسطة تدعي أنها تملك من الأمر شيئاً. ولكّن الحرية في الرأسمالية منحرفة عن ذلك المعني. فهي ليست حرية من أجل الإنسان على إطلاقه، بل الإنسان الغربي وحده، بل حتى ليس كل الإنسان الغربي ولكن الإنسان الغربي القوي وحده. هي في جوهرها تعميمٌ للفكر الدارويني “البقاء للأقوى”. وان كنّا لا نعارض ذلك الفكر في مملكة الحيوان، فإنّنا نُعارض بشدة امتداد تطبيقه على بني البشر. فالحضارة نشأت في أصلها إعتراضا على ذلك القانون. فعندما تمرد الانسان على قانون الغاب وأصبح أكثر رحمة بالضعيف وتقديراً للجمال، سلك طريقاً مغايراً لمملكة الحيوان فنشأت الحضارة. فالحرية التي تنادي بها الرأسمالية تهدف إلى رفع القيود عن صاحب رأس المال وحده، فيتوغل بتمدده كالشجرة التي تمددت فروعها فمدت ظلها على محيطها فمنعت بذلك النبات الصغير من أعشاب وشجيرات من الضوء اللازم لنموها فماتت أو على الأقل وهنت وأصبحت مستنقعا للآفات والحشرات ومختلف الأمراض. فالحرية التي نادت بها الرأسمالية هي في حقيقتها عبودية لأغلب البشر بما فيهم الانسان الغربي وحرية مطلقة للقوي وحده. ودليل ذلك أن أصبحت الوظيفة حديثاً تُعدُ نوعاً من الرق الجديد. كما يكثر في الدول الغربية وجود شوارع ومدن كاملة لعرض النساء للمتعة.. أليس ذلك نوعاً من النخاسة!
تحديات بناء نظام جديد
ليس معنى ذلك أن النظامين لا خير فيهما مطلقاً. معناه أنهما عاجزين عن تحقيق سعادة الانسان بإطلاقه وإستدامة تلك السعادة لمدة طويلة. بالمقابل، ثمة ما يُبشّر بامكان تحقيق ذلك في النظام الاجتماعي في الإسلام. ولكن لا بد من الإشارة إلى تحديين. الأول، أن الإسلام لم يأتِ بتفصيلات تشريعية كما فعلت تلك النظم، ولكن أتى بقواعد عامة وتطبيقات محدودة. وهنا تأتي ضرورة الإلمام بتفاصيل النظامين السابقين للاستفادة منهما في مد وتطوير النظام الاجتماعي في الاسلام. أما التحدي الثاني ففي فقدان الثقة في ثقافتنا النابعة من تعدد هزائمنا أمام الامبراطورية الغربية منذ لحظة اقتحام خيل نابليون للأزهر الشريف وتدنيسه إلى لحظتنا الحالية. وكما قال ابن خلدون “المهزوم مولع بتقليد المنتصر”، ففقدنا الثقة بثقافتنا ولهِثنا وراء الثقافة الغربية نُقلدها في كل تافه، ولو حاولنا تقليدها في عناصر القوة منعت هي ذلك بكل قوة. ثم ابتُلينا بنُخبٍ تعمل على تسفيه الماضي وتراثٍ يربو على الأربعة عشر قرناً لأنه من وجهة نظرها هو سبب تخلفنا! هؤلاء معادلتهم بسيطة “الغرب يحتقرنا ويحتقر ثقافتنا، والغرب دائماً على صواب – بمقياس نيتشه -، إذاً فنحن حقيرون وثقافتنا حقيرة ولا فرصة لتطورنا إلاّ بنبذها”. وهكذا وصل بنا الهوان أن نتبنّى وجهة نظر عدونا عن أنفسنا فأصبحنا لا نرى أنفسنا إلا بعيون عدونا! ولا يمكننا أن نقوم ببناء نظام اجتماعي مناسب لنا ما لم نُعد تجديد ثقتنا بأنفسنا وثقافتنا يُحابها أعداء أمتنا، وأيضاً بالبناء على خير ما أنتجه الأعداء من منظومات فكرية بعد تنقيحها وتنقيتها.