الأولى تركيا – رجب طيب إردوغان التي لها حساباتها العراقية والإقليمية؛ الثانية أميركا – جو بايدن المُماطلة بمواعيد طي صفحة غزو العام 2003 لرهانات انتخابية معطوفة على نفوذها في توازنات المنطقة.. وأيضاً كرمى لعيون حرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. ومن غير الممكن رسم صورة وردية عن لقائي رئيس وزراء العراق محمد شياع السوادني مع الرجلين في واشنطن وبغداد، ما لم يكن أي محلّل مفرطاً في التفاؤل!
وليس من المبالغة القول إنه برغم الإيحاءات الايجابية الصادرة عن اللقاءين، من بيانات وتصريحات، واتفاقيات متعددة، مثلما هو الحال فيما يتعلق باللقاء البغدادي لإردوغان، إلا أن حقائق الأمور تشي أحياناً كثيرة بما هو خلاف ذلك.
الملفات الملتهبة كثيرة، ويتحكم بخيوطها بايدن وإردوغان، أكثر مما هو متاح للسوادني نفسه. والرؤى متباينة لدرجة أن “سيف الوقت”، هو وحده الفيصل لمعرفة ما سيجري مستقبلاً.
***
لنأخذ قضية تمركز القوات الأميركية على الأرض العراقية؛ بدت كأنها قضية شبه مُغيبة في رحلة واشنطن. أحيل النقاش حولها فعلياً إلى اللجنة العسكرية العليا التي بالأساس لم تنعقد سوى عندما احتدم وطيس انخراط “فصائل المقاومة” العراقية في حرب غزة.
يبدو السوداني كمن قرّر أن تكون له كتلة نيابية تحمي استمراره في رئاسة الحكومة بدلاً من تكرار تجربة مصطفى الكاظمي عندما “تحرّر” من الانتخابات النيابية.. ولاحقاً من رئاسة الحكومة!
وفي بيانهما المشترك، قال بايدن والسوداني بعد اللقاء الأول بينهما في البيت الأبيض، إنهما “سيراجعان متى وكيف ستنتهي مهمة التحالف الدولي في العراق والانتقال بطريقة منظمة إلى شراكات أمنية ثنائية دائمة”. ومن أجل توجيه رسالة تطمين إضافية لمن يهمه الامر في بغداد أو طهران، قال الرجلان إنهما يعتزمان “عقد اجتماع حوار التعاون الأمني المشترك في وقت لاحق من هذا العام؛ لبحث مستقبل الشراكة الأمنية الثنائية”.
في المحصلة، لا مواعيد محددة ولا تواريخ ولا جداول زمنية. يقول الرجلان إنهما سيلتزمان “بعمل اللجنة العسكرية العليا المستمر ونتائجها، ومجموعات العمل الثلاث التي ستقوم بتقييم التهديد المستمر من داعش، والمتطلبات العملياتية والبيئية، وتعزيز قدرات قوات الأمن العراقية”. لكن السؤال هو عمّا كانت تفعله واشنطن وبغداد خلال السنوات التي تلت اعلان الحاق الهزيمة بتنظيم “داعش” منذ أكثر من 5 سنوات. لا إجابات عراقية ولا أميركية.
لم يجلب محمد شياع السوداني معه من واشنطن، جدولاً زمنياً يحسم مصير قوات الاحتلال على أرض بلده. وربما ليست صدفة بالتالي، أنه بالتزامن مع عودته من البيت الأبيض إلى بغداد، وقع هجوم صاروخي على قاعدة “خراب الجير” العسكرية الأميركية في الحسكة السورية، وهو الأول منذ التهدئة العراقية” غير الرسمية والقائمة منذ شهرين بعيد مقتل الجنود الأميركيين الثلاثة داخل قاعدة قريبة من الحدود الأردنية. ثم تبع هجوم الحسكة هجوم آخر على قاعدة عين الأسد في الأنبار (بالتزامن مع وصول إردوغان إلى بغداد).
واللافت للإنتباه أن أي فصيل عراقي لم يتبنَ الهجومين، إلا أن الرسالة الضمنية كانت واضحة: هناك فصائل عراقية متململة من عودة السوداني بخفي حنين من واشنطن، فيما يتعلق باطلاق مسار واضح لانهاء الاحتلال الذي مضى عليه 21 سنة. وبدا أن هذه الفصائل، تجنبت حتى التعليقات الإعلامية الرسمية حول هذين الهجومين، ضمن ما وصفه “معهد واشنطن” بأنه ربما يعكس نهجاً جديداً من جانبها، يعتمد الغموض، وفي الوقت نفسه، ايصال رسائل لمن يهمه الامر.
وسيتحتم الآن مراقبة ما إذا كانت هذه الفصائل، وربما بشكل أكثر تحديداً، كتائب حزب الله وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء وغيرها، ستظل ملتزمة بالتهدئة بعدما فرض بايدن أولوية أجندة لقائه مع السوداني، بتهميش قضية الانسحاب، والتركيز على ملفات التعاون الاقتصادي الثنائي وكيفية دمج العراق في محيطه الإقليمي باستثاء إيران. ولتأكيد هذا التهميش، كان لافتا للإنتباه أن السوداني لم يصطحب معه إلى واشنطن، أي مسؤول عسكري أو أمني بارز.
التقديرات الآتية من بغداد تشي أن “التهدئة” عمرها المقرر 3 شهور، ما يعني أننا مع دخول الأسبوع الأول من شهر أيار/مايو، سنكون أمام احتمالات مثيرة، لا سيما إذا ترافق ذلك مع بدء معركة رفح
ومن الواضح أنه في ظل السخونة المتزايدة لملف الانتخابات الرئاسية الأميركية، لا يرغب بايدن أن يستعيد “الكابوس الأفغاني” بالانسحاب المتخبط من هذا العراق، بعد عقدين على احتلاله وتدميره. لا يريد بايدن أن يعطي أية اشارة لمجرد التفكير بأنه يبحث انسحاباً –تقهقراً- من العراق، بعدما نفّذت “المقاومة العراقية” أكثر من 180 هجوماً على قواعده في العراق وسوريا. “سيف الوقت” هو الحاكم هنا عما إذا كانت حسابات بايدن العراقية ستنجح أم لا، وما إذا كانت قمته مع السوداني هي مجرد ورقة انتخابية يمكن اضافتها إلى رصيده السياسي مع اقتراب موعد معركة الانتخابات في الخريف المقبل.
خطيئة الرجلين، إن صح التعبير، أنهما عقدا قمتهما الأولى، في ظل أجواء إقليمية ملتهبة. فعشية اللقاء، شهدت المنطقة برمتها، ولا سيما سماء العراق، رشقات الصواريخ والطائرات المُسيّرة التي أطلقت للمرة الأولى من داخل إيران، باتجاه إسرائيل. المنطقة برمتها كانت تغلي، لكن لقاء واشنطن بدا، كأنه ينعقد في “لالا لاند”. التقديرات الآتية من بغداد تشي أن “التهدئة” عمرها المقرر 3 شهور، ما يعني أننا مع دخول الأسبوع الأول من شهر أيار/مايو، سنكون أمام احتمالات مثيرة، لا سيما إذا ترافق ذلك مع بدء معركة رفح.
وفي الوقت نفسه، كان بمقدور الوفد العراقي اغتنام هذه اللحظة المشحونة بالقلق الإقليمي الحاد، من أجل التأكيد على “شرعية” الموقف العراقي التوّاق إلى التحرر من بقايا آثار الجريمة الأميركية الأكبر في السياسة الخارجية منذ حرب فييتنام. لكن بايدن اكتفى بمراده الرئيسي: تأجيل أي بحث بالانسحاب من العراق (و/أو سوريا)، بينما إكتفى السوداني، بالمقابل، بصورته العتيدة مع الرئيس الأميركي، وبوعود بالمجهول لم تحمل البشرى المنتظرة لملايين العراقيين.
ومن غير الواضح ما هي الحسابات الداخلية للسوداني في الشهور المقبلة، خصوصاً أن ولايته تُشارف على النهاية، مع موعد مفترض للانتخابات البرلمانية في العام 2025، إذ لم يعد أمام السوداني متسعٌ من الوقت لجني مكاسب تكون بديلاً عن “ورقة انهاء الاحتلال” التي كان وعد بها، وليس من الواضح أيضاً ما إذا كان يبحث، وهو الفاقد للتمثيل البرلماني المؤثر في البرلمان الحالي، عن شركاء سياسيين يغطونه انتخابياً أو يُوفرون له كتلة نيابية (كبديل عن ائتلاف الإطار التنسيقي المدعوم من بعض فصائل المقاومة) مثل الحزب الجديد للسيد مقتدى الصدر، بالتعاون مع قوى “منبوذة” هي الأخرى مثل الرئيس المخلوع للبرلمان محمد الحلبوسي، وبذلك يبدو كمن قرّر أن تكون له كتلة نيابية تحمي استمراره في رئاسة الحكومة بدلاً من تكرار تجربة مصطفى الكاظمي عندما “تحرّر” من الانتخابات النيابية.. ولاحقاً من رئاسة الحكومة!
***
وماذا عن الرحلة الإردوغانية إلى بغداد؟
كثرة الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الموقعة خلال زيارة إردوغان (عددها 26)، لا تلغي حقيقة أن “الرهان الأول” للرئيس التركي في أول زيارة له إلى العراق منذ العام 2012، لم يكن سوى البناء على رهان انخراط العراق في المعركة ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني المتمركزة في شمال العراق، إذ قال بمجرد مغادرته بغداد إن المسؤولين العراقيين في بغداد وأربيل “صاروا يدركون أهمية القضاء على الحزب (العمال) ولديهم الرغبة في القيام بذلك، ولهذا فإن تركيا تتطلع إلى المساعدة من العراق بخوض هذه المعركة معاً”.
مشروع “طريق التنمية” العملاق المفترض أن يربط منطقة الفاو جنوباً بالحدود التركية الجنوبية، ومنها إلى أوروبا، لم تُحدد حتى الآن أية آليات لتمويله أو اطلاقه، وهو أيضاً تحت رحمة “سيف الوقت”
حتى أن إردوغان، وقبل مجيئه بأسابيع إلى بغداد، راح يُردّد بأن هناك غزوة صيفية آتية من الجانب التركي لاستكمال اغلاق المنافذ التي يستغلها مقاتلو حزب العمال الكردستاني، وتعزيز “الشريط الحدودي الأمني” مع العراق بعمق يتراوح بين 30 و40 كلم. في هذه الحركة الإردوغانية هناك ما يمكن وصفه بأنه عداء مستحكم لهؤلاء الأكراد، واهتمام مثير للتساؤلات بسنة العراق وتركمانه من دون غيرهم واهمال للقضايا الحيوية التي تمس بحياة الشعبين العراقي والتركي مثل قضية تقاسم المياه.
هنا أيضاً يتبدى أن الامتحان الحقيقي لما أنجزه إردوغان في زيارته العراقية، هو “سيف الوقت”، ليس فقط ما يتعلق بـ”غزوة الصيف”، وإنما أيضاً بالعديد من المشاريع وتفاهمات التعاون المقترحة. حتى أن مشروع “طريق التنمية” العملاق المفترض أن يربط منطقة الفاو جنوباً (والخليج العربي) بالحدود التركية الجنوبية، ومنها إلى أوروبا، لم تُحدد حتى الآن أية آليات لتمويله أو اطلاقه، وهو أيضاً تحت رحمة “سيف الوقت” ومدى عمر ولاية محمد شياع السوداني القصيرة، ومصير المنازلة العسكرية الجديدة ودوي القنابل مع حزب العمال الكردستاني.. وتحت أنظار التوجس والمراقبة الدؤوبة من جانب إيران و”حلفائها”.. ونيران حرب الإبادة الجارية في قطاع غزة والتراشق الصاروخي في سماء غرب آسيا.
***
زيارة السوداني إلى واشنطن وزيارة إردوغان إلى بغداد جاءتا في خضم مرحلة إنتقالية تشهدها المنطقة لا بل العالم، سمتها الأساسية التوتر في العلاقات سواء بين “الكبار” أو حتى بين لاعبين إقليميين وبعض اللاعبين الدوليين، كما هو الحال بين إيران وأميركا، فيما رجب طيب إردوغان الخارج من انتخابات محلية بات يشعر بالخطر المحدق بشعبية حزب العدالة والتنمية في الإستحقاقات الدستورية المقبلة.