“اليوم التالي”.. استحالة إدارة الظهر لقضية فلسطين المتفجرة

الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة، للشهر الثامن على التوالي، لن تُحقّق عسكرياً النتائج المرجوة إسرائيلياً (سحق حركة حماس والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين من دون عملية تبادل)، حتى لو استمرت شهوراً إضافية، بل ستُفضي حتماً إلى المزيد من القتل والتدمير والتجويع، لكن ماذا بعد؟

صار التركيز مُنصباً في الآونة الأخيرة على “اليوم التالي” من وجهة نظر الأطراف المعنية، وبالتالي، ما يحدث الآن هو تفاوض بالنار لأجل فرض موازين قوى جديدة من شأنها أن تُنتج واقعاً جديداً في الشرق الأوسط، لكن حتماً ليس على صورة “الشرق الأوسط الجديد” الذي يتصوّره الآن بنيامين نتنياهو أو على صورة “الشرق الأوسط الجديد” الذي تخيّلته وزير خارجية أمريكا السابقة كوندوليسا رايس في صيف العام 2006، غداة اندلاع “حرب لبنان الثانية”.

في الميزان الاستراتيجي، أن يكون الإسرائيلي عاجزاً عن تحقيق “الانتصار المنشود”، فهذا تطور كبير، إلا إذا فاجأ نتنياهو الجميع وكسب المعركة على قاعدة إتيانه برأس محمد ضيف ويحيى السنوار أو اقتيادهما مخفورين. في المقابل، أن يتمكن الأخيران من الإتيان برأس نتنياهو سياسياً فيسقط ويكون مصيره مثل غولدا مائير ومناحيم بيجن واسحاق شامير وإيهود أولمرت في أعقاب حروب خاضوها وخسروها أو ربحوها عسكرياً ولكنهم خسروها سياسياً..

بطبيعة الحال، أفاض الميدان وأفضى بما عنده من وقائع ومعطيات عسكرية. أصبحت صورة النصر والهزيمة متعلقة بالمآلات التي ترسمها السياسة وليس السلاح. إذا فُرضت صورة هزيمة إسرائيل، فإن تداعيات ذلك على المنظومة الأمنية الإقليمية ستكون كبيرة جداً ومتعددة الأبعاد.. هزيمة إسرائيل ستُولد ديناميكيات جديدة وقد تؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الأمنية الإقليمية لا بل مجمل المنظومة الإقليمية، وهذا قد يكون لمصلحة العرب إن أحسنوا التقاط الفرصة، الأمر الذي من شأنه التأثير إيجاباً في مجمل النفوذ الأمريكي والغربي في الشرق الأوسط. ما عدا ذلك، أي إذا خسر العرب هذه الفرصة، حتماً سيتلقفها اللاعبون الإقليميون، وأولهم إيران بوصفها أبرز قوة اقليمية معارضة للهيمنة الإسرائيلية والغربية، فضلاً عن سعيها المكشوف، في الوقت نفسه، إلى تعزيز نفوذها الإقليمي.. كذلك، ستجد دول المنطقة نفسها عرضة لضغوط أمريكية وغربية من أجل تبني موقف أكثر حزمًا من إيران وكل من يحاول كسر معادلات توازن القوى في المنطقة والاستعداد لمواجهة أية اضطرابات إقليمية يُمكن أن تنشأ وتؤثر على الأمن والاستقرار في الإقليم.

حرب غزة فرضت نفسها كأولوية على أجندة صانع القرار الدولي والإقليمي. كما ألقت بظلالها على السياسة الخارجية للعديد من الدول في الشرق الأوسط ولا سيما تلك التي تلعب دورًا محوريًا في السياسات الإقليمية.. من خلال هذا السياق، يُمكن فهم تأثير مآلات نهاية حرب غزة على مُجمل السياسات الخارجية لدول المنطقة

هذا السيناريو، إن حدث، يعني أن حركة حماس قد كسبت جولة في صراعها الطويل مع إسرائيل. صورة انتصار حماس الافتراضية من شأنها أن تُعزّز موقف الفصائل الفلسطينية الأخرى بما في ذلك الجناح المقاوم في حركة فتح وصولاً إلى تعديل موازين القوى في منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات السلطة الفلسطينية. هذا الأمر سيؤدي إلى تصعيد مطالب الفلسطينيين للحصول على دولة مستقلة حدودها الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، أي وفق الإلتزام الذي تعهدت به حركة حماس لوسطاء غربيين، على مسافة أسابيع قليلة من اندلاع شرارة “طوفان الأقصى”.. من نتائج ذلك أن الدول العربية التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل ستواجه ضغوطاً داخلية وإقليمية لإعادة تقييم هذه العلاقات أو “فرملتها” بالحد الأدنى. هذا السيناريو ستكون له تداعيات عميقة على مجمل منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما على الديناميكيات الجيوسياسية والأمنية والاقتصادية فيها. لعل أهمها هو إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة برمتها.

وبالرغم من السيولة الاستراتيجية التي تعاني منها المنطقة منذ دخولها في الفراغ مع غزو القوات الأمريكية للعراق في العام 2003، إلا ان حرب غزة فرضت نفسها كأولوية على أجندة صانع القرار الدولي والإقليمي. ومن دون أدنى شك، ألقت حرب غزة بظلالها على السياسة الخارجية للعديد من الدول في الشرق الأوسط ولا سيما تلك التي تلعب دورًا محوريًا في السياسات الإقليمية.. من خلال هذا السياق، يُمكن فهم تأثير مآلات نهاية حرب غزة على مُجمل السياسات الخارجية لدول المنطقة.

إن البحث عن “اليوم التالي” هو الشغل الشاغل لصانعي القرار على الصعيد الدولي. لم يعد بمقدورهم إدارة الظهر لهذه القضية المتفجرة. صارت أجيال بأكملها متشربة للقضية وسيأتي دورها في صياغة سياسة منخرطة لدولها بعيداً عن سياسة الاهمال لهذه القضية كما جرى منذ العام 2003. بناءً على مواقف الدول العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين في التعامل مع تداعيات حرب غزة، علينا أن نترقب ما قد يحصل من تغييرات في السياسات الأمنية والعسكرية للعديد من دول المنطقة ولا سيما طريقة تعاملها مع حركات ومجموعات فاعلة من غير الدول (حزب الله وحماس وانصار الله). إن الديناميكيات داخل هذه الجماعات نفسها وبينها وبين دول المنطقة قد تتغير بناءً على نتائج الحرب.

إقرأ على موقع 180  محسن إبراهيم يدير ظهره.. ويرحل!

حرب غزة لم تؤثر فقط على العلاقات الثنائية بين الدول، بل أيضًا على السياسات الاستراتيجية طويلة الأمد. ستواجه هذه الدول تحديات جديدة معقدة ومتداخلة في الوقت ذاته، منها التعارض بين الحفاظ على الأمن الداخلي ومواجهة التطرف، وهما تحديان من أبرز إفرازات نهاية الحرب.

مجدداً، يمكن القول إن هذه الحرب قد تفتح الباب لفرص جديدة محتملة في السياسة والاقتصاد والأمن. انتهاء الحرب قد يُحفز دول المنطقة على إجراء إصلاحات هيكلية سريعة في سياساتها الإقليمية من خلال تعزيز الاعتماد على المنظومة الإقليمية. وعلى جاري العادة بعد انتهاء هذا النوع من الحروب، لا بد وأن تفرز ما يسمى بالدبلوماسية النشطة لدى دول المنطقة. من المرجح أن تشهد المنطقة تحولاً نحو دبلوماسية أكثر نشاطاً لتأمين مصالحها الاقتصادية والأمنية، مع التركيز على أولوية الاستقرار.

“اليوم التالي” يتطلب استجابة معقدة ومدروسة من جميع الأطراف المعنية لمعالجة التحديات واستغلال الفرص التي قد تنشأ. ما يهم هو مراقبة التفاعلات والتغييرات الآخذة بالتشكل. التريث مهم جداً هنا.. بالرغم من أن حرب غزة قد تكون عاملاً محفزًا لبعض التغييرات، فإن تطور نظام سياسي جديد كاملا يتطلب ظروفًا وتفاعلات معقدة بين مختلف اللاعبين والعوامل الإقليمية والدولية، ومنها نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي نحن على أبوابها. من هذا المنطلق علينا التريث والترقب لأن تطوير النظام السياسي يحدث بشكل تدريجي وليس فوريًا. هناك عدة سيناريوهات. كلها تعتمد على صورة طرفي النزاع في غزة عند وقف إطلاق النار.. ومن ثم تبادل الأسرى.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
طارق زيدان

كاتب سعودي

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  أيُ أميركا وأيُ عالمٍ.. سيحمل "ثلاثاء الانتخابات"؟