حزب الله و”جبهة الاسناد”.. عبد الناصر و”حرب الاستنزاف”

عندما قرّر حزب الله فتح "جبهة إسناد" لبنانية في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لرفد المعركة التي أطلقها "طوفان الأقصى" على أرض فلسطين، كان ذلك حصيلة مناقشات دامت ساعات في "شورى القرار"، أمكن من بعدها تحديد وجهة تتطابق إلى حد كبير مع الرؤية التي حدّدها المرشد الإيراني علي خامنئي بعد ذلك بفترة في لقاء جمعه برئيس المكتب السياسي في حركة حماس إسماعيل هنية في طهران وأساسها أننا لسنا في خضم ما تسمى "الحرب الكبرى".

و”جبهة الإسناد” عموماً هي جبهة استنزاف للخصم، وتأتي تعبيراً عن موازين قوى من جهة وعن عجز طرفي المواجهة على حسم المعركة من جهة ثانية، ليصبح الهدف: من يكون أكثر قدرة على استنزاف الآخر وانزال خسائر أكبر به؟

وتُعيدنا تجربة “جبهة الإسناد” هذه إلى سياق تاريخي يتصل بالصراع العربي – الإسرائيلي وما تمخض عنه من تحالفات وتسويات ومقايضات. وثمة من يعتقد أن ما يجري اليوم على طول الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية منذ حوالي العشرة أشهر،  يُعيد تذكيرنا بالتجربة التي أسماها الزعيم المصري جمال عبد الناصر بـ”حرب الاستنزاف” والتي كانت نتيجة أفكار صاغها الرجل مع كبار مساعديه غداة حرب العام 1967.

كانت مصر ما تزال تحت وطأة نكسة العام 1967 بكل تداعياتها السياسية والعسكرية السلبية؛ كانت قناعة عبد الناصر أن “حرب الإستنزاف” هي توطئة لأحد أمرين؛ إما حرب تحرير شاملة وإما الوصول بمنسوب ميزان القوى لإجبار إسرائيل على تنفيذ القرار 242 من دون الوصول إلى الحرب نفسها. ومن يُراجع كتاب “عبد الناصر كما حكم”، للدكتور كمال خلف الطويل الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (2024)، يُمكنه أن يتتبع الوقائع التي رافقت هذه الحرب بدءاً من آذار/مارس 1969 وحتى تاريخ نهايتها مساء 23 تموز/ يوليو 1970 (استمرت 16 شهراً)، ليتبين أن حسابات عبد الناصر لم تطابق الميدان، بخاصة لجهة اختلال ميزان التفوق الجوي في الأشهر الأولى من الحرب الأمر الذي أنزل خسائر كبيرة بالجيش المصري ولا سيما بوحداته الجوية المقاتلة، قبل أن ينجح عبد الناصر في استدراج السوفيات إلى تلك الحرب بالعصا والجزرة. وما أن أطلت المقاتلات السوفياتية في سماء المعركة في نيسان/أبريل 1970 حتى تغير مسار الميدان واتخذت الحرب طوراً جديداً “فيه من الإستنزاف لإسرائيل ما فاق استنزاف الأخيرة لمصر ولا سيما أن طوق النار حولها اشتد التهابه من القنطرة إلى العقبة إلى رأس الناقورة”، على حد تعبير كمال خلف الطويل.

هذا الاسقاط التاريخي لا ينطوي بالضرورة على تشبيه حرب الاستنزاف المصرية الإسرائيلية بحرب الإسناد أو الإستنزاف اللبنانية الإسرائيلية، برغم وجود فوارق بين الحربين، ربما تصب لمصلحة حزب الله الذي لم يكن ليُقدم على فتح “جبهة الإسناد” لو لم يكن متأكداً من قدراته وامكانياته وأين يتفوق على الإسرائيلي وأين يتفوق عليه الإسرائيلي

هذه الحرب حقّقت أهدافها وتوقفت نتيجة مساعي وزير الخارجية الأميركي حينها ويليام روجرز، فأطلق حينها مبادرته الشهيرة لوقف الحرب التي صارت عبئاً على الجيشين المصري والإسرائيلي فوافقت عليها دول المنطقة بمن فيها مصر عبد الناصر، وتقاطع ذلك مع مجموعة معطيات أطلت برأسها وأبرزها توتر العلاقات الأردنية الفلسطينية (تسرب العمل الفدائي الفلسطيني تدريجياً نحو لبنان منذ نكسة العام 1967) واضطراب أحوال السودان وليبيا (جارتا مصر) وعدم التزام عراق محمد حسن البكر بمقتضيات المواجهة.

هذا الاسقاط التاريخي لا ينطوي بالضرورة على تشبيه حرب الاستنزاف المصرية الإسرائيلية (1969 ـ 1970) بحرب الإسناد أو الإستنزاف اللبنانية الإسرائيلية، برغم وجود فوارق بين الحربين، ربما تصب لمصلحة حزب الله الذي لم يكن ليُقدم على فتح “جبهة الإسناد” لو لم يكن متأكداً من قدراته وامكانياته وأين يتفوق على الإسرائيلي وأين يتفوق عليه الإسرائيلي، لكي تكون حسابات الحرب دقيقة، علماً أن حزب الله، وكما فعل عبد الناصر، عندما استنجد بالسوفيات، يحاول أن يُطوّر امكاناته تبعاً لمقتضيات الميدان كما فعل في العام 2006، عندما أدخل صاروخ “الكورنيت” إلى ميدان المعركة بعد إندلاعها بأيام قليلة وليس قبل ذلك.

وما يحصل على الجبهة اللبنانية، من شأنه أن يُوفّر حماية للبنان لسنوات وربما عقود مقبلة، لأن إسرائيل ومنذ لحظة انتهاء حرب 2006 كانت تنوي فتح معركة كبرى مع حزب الله لاستعادة هيبتها وتوازن الردع لمصلحتها، إلا أن حرب “طوفان الأقصى” وفّرت لحزب الله فرصة لجعل الإسرائيلي يبحث عن فرصة لتحييد الجبهة اللبنانية من خلال انجاز ملف الترسيم الحدودي البري بين لبنان وإسرائيل وتكليف مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين بهذه المهمة..

بهذا المعنى، يصبح الدور الذي يلعبه آموس هوكشتاين اليوم شبيهاً إلى حد ما بدور ويليام روجرز حينها، ولو أنه يصطدم بواقع استعصاء كبير، عنوانه بنيامين نتنياهو الذي أتعب الوسطاء من وليام بيرنز وبريت ماكغورك وآموس هوكشتاين وغيرهم من الوسطاء الأوروبيين، فضلاً عن الوسيطين المصري عباس كامل والقطري محمد بن عبد الرحمن وهؤلاء صاروا متيقنين بأن ترابط الجبهتين الفلسطينية واللبنانية أمرٌ لا مفر منه وأن نتنياهو يتعامل مع الحرب بوصفها وجودية بالنسبة إليه..

في الخلاصة، صحيح أن نتنياهو يُصر على عدم الالتزام بأي وقف لاطلاق النار في غزة، مخافة استقالة الوزيرين المتطرفين ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتيش وبالتالي خسارة الأكثرية في الكنيست والذهاب نحو انتخابات مبكرة ستؤدي إلى الاطاحة به، لكن مفعول الجبهة اللبنانية، باعتراف الوسطاء الغربيين، صار موجعاً أكثر من أي وقت مضى للجيش الإسرائيلي المنهك، وربما من رائحة بارود “جبهة الاستنزاف” اللبنانية يمكن أن نشتم ملامح تسوية تنهي حرب الإبادة المفتوحة على أرض غزة.. إلا إذا دشّن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض شرارة حرب إقليمية ليس مُستبعداً أن تُطل برأسها من “الجبهة الشمالية”!

إقرأ على موقع 180  إسرائيل وسؤال ما بعد إغتيال فخري زاده: ماذا سيكون الرد؟

Print Friendly, PDF & Email
صهيب جوهر

صحافي لبناني وباحث مقيم في مركز "أبعاد" للدراسات الإستراتيجية في لندن

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل و"عبوة مجدو": التجاهل ضعف والرد يساوي معركة!