مشهد النظم الديموقراطيّة اليوم لا يدفعُ إلى التفاؤل على هذا الصعيد، برغم ادّعاء القائمين عليها أنّهم يحملون راية القيم البشريّة باعتبارها أفضل من نظم الاستبداد.
في الولايات المتحدة، بلد الديموقراطية الأوّل، يتنافس مُسنّان في الانتخابات الرئاسيّة القادمة. أحدهما لا يملك صحيّاً مقوّمات القيام بمهمّته ولا يعرف أحدٌ من يتخذ القرارات في إدارته؛ والآخر حاول في الانتخابات السابقة التعدّي على أسس الانتخاب الديموقراطي. بكلّ الحالات يقوم جوهر المنافسة بين الإثنين على من يجمع القدر الأكبر من الأموال لحملته. فإلى أين ستفضي هذه الانتخابات مع تحدّي صراعٍ دوليّ أطلقه الاثنان دون أفق مع روسيا والصين وفي ظلّ تمنّع الفريقين الأساسيين عن تأمين خدمة أساسيّة للمواطنين، ألا وهي الطبابة؟
وهكذا، في خضمّ حملة الانتخابات الرئاسيّة، يُدعى مسؤولُ دولةٍ أخرى، وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، لإلقاء خطاب أمام مجلسي النوّاب والشيوخ الأمريكيين في الوقت الذي يتحدّى فيه صراحةً برسالة إعلاميّة الرئيس الحاليّ المرشَّح للانتخابات.
إنّ أغلب أعضاء مجلس النوّاب (الكونغرس) يخضعون لمجموعات ضغط شركات السلاح الكبرى وغيرها، وبالتالي يصوّت بطرفيه، الديموقراطي والجمهوري، لصالح دعم إسرائيل ومعاقبة محكمة العدل الدوليّة ومنع الإدارة من وقف شحنة سلاح لإسرائيل برغم ارتكابها الواضح لجرائم إبادة. وعضوٌ في الكونغرس يسائل مديرة جامعة شهيرة عمّا إذا كانت لا تحسّ بالخوف من لعنة ربّانيّة إذا لم تدعم الاستيطان الإسرائيلي؟
المجتمع الفرنسي مريضٌ. لقد تمّ إقناعه بأنّ مشكلة الضواحي الفقيرة تأتي من كون أغلبيّة سكّانها مسلمين وليس لأنّهم لا يجدون فرص عملٍ لائقة. وأنّ أزمته الاقتصاديّة هي نتيجة تدفّق المهاجرين، خاصّةً وأنّ أغلبهم مسلمين، وليس من سياسات خلق الفوضى في الجنوب بوسائل “القوّة الناعمة” أو ربّما “الغليظة” كما في ليبيا
بالتوازي تُجيِّش وسائل الإعلام، بقوّة المال، على أن يتمّ احتساب أيّ انتقادٍ لإسرائيل أنّه معاداةٌ للساميّة، دون إعطاء أيّ صدىً للتجمّعات الحاشدة لليهود الأمريكيين المناهضين للجرائم الإسرائيليّة.
وعلى الطرف الأوروبي من المحيط الأطلسي، يُعلِن رئيسٌ فرنسيّ حلّ البرلمان بعد نجاح اليمين المتطرِّف في انتخابات برلمانٍ أوروبي، لا حول ولا قوّة كبيرين له في الواقع. نجاحٌ جاء نتيجةً للسياسات التي انتهجها، فيأخذ بلاده إلى أزمةٍ سياسيّة يُمكِن أن تنتهي بوصول هذا اليمين المتطرِّف إلى أغلبيّة برلمانيّة وحكم البلاد برفقته بالتزامن مع انطلاق الألعاب الأولمبيّة العالميّة في باريس. هذا في الوقت الذي يُهدّد فيه هذا الرئيس بدخول حرب أوكرانيا مباشرةً بينما تغرق فرنسا بديونها السياديّة.
ووسائل إعلام تُشيطِن حزب “فرنسا الأبيّة” وليس اليمين المتطرِّف، لأنّ أعضاءَه ناصروا الفلسطينيين بل ورفع أحد نوّابه علم فلسطين في البرلمان الفرنسي.. كلّ ذلك بحجّة أنّ ذلك يُعتَبّر معاداةً للساميّة.
ووزيرة خارجيّة ألمانيا تبرِّر رفع المقاتلين الأوكرانيين شعار النازيّة باعتباره أضحى رمزاً للحريّة اليوم!
هذا مشهدٌ يُحبطُ آمال كثيرٍ من الشعوب الساعية إلى الديموقراطيّة. فإذا كانت الأمور تُختزَل بتحكّم وزيرين متطرّفين ورغبة رئيس وزراء بالاستمرار في الحكم بأيّة وسيلة في مآلات الديموقراطيّة الإسرائيليّة، التي كثيراً ما يتمّ التغنّي بها أنّها الوحيدة في الشرق الأوسط، ستكون النتيجة حرباً قذرة لا نهاية لها بتضافر حشد الجماهير حولها عبر الأكاذيب الإعلاميّة على أنّها.. وجوديّة.
الديموقراطيّة مريضةٌ اليوم. ومرضها يخلق مخاطر صراعات داخليّة كبرى في بلدانها وكذلك مخاطر الشروع والاستمرار في حروبٍ مع بلدانٍ وشعوبٍ أخرى. وقد قالها يوماً الكاتب الفرنسيّ المناهض للاستعمار والاستبداد والحائز على جائزة نوبل للسلام، ألبير كامو: “انتبهوا. عندما تكون الديموقراطيّة مريضة، فإنّ الفاشيّة تأتي إلى جانبها، ولكن ليس لتفقّد أحوالها”. وأضاف الشاعر والكاتب الألماني بيرتولد بريخت “أنّ الفاشيّة ليست نقيض الديموقراطيّة، بل هي نتيجة تطوّراتها في زمن الأزمات”. ولا يُمكِن نسيان أنّ أدولف هتلر وصل للحكم في ألمانيا عبر انتخابات ديموقراطيّة نتيجة أزمةٍ كبرى في بلاده.
ليست الديموقراطيّة هي حقّاً المريضة. مرضُها ليس سوى انعكاساً لتحوّلات وأمراض أصابت الشعوب التي كانت نضالاتها السابقة قد أوصلتها إلى أسّسٍ ديموقراطيّة للتداول على السلطة. أبرز تلك الأمراض هي أنّ سياسييها ووسائل إعلامها وأصحاب القوّة الاقتصاديّة عملوا على إقناع مواطنيها أنّ سبب الأزمة هو “الآخر” وبالتالي ينبغي منع الحريّات عنه. إنّ المرض الحقيقي هو تقبّل منع الحريّات عن هذا “الآخر”.
المجتمع الإسرائيلي هو المريض بقدر ما يمنع عن الفلسطينيين حدّهم الأدنى من الحريّة. والمجتمع الأمريكي هو أيضاً مريضٌ بقدر قناعته أنّ “عظمة أمريكا” لا تقوم سوى على فرض الهيمنة والفوضى على الشعوب والدول الأخرى وأنّ أزماته هي من صنع المهاجرين واللاجئين إلى أرضه التي تأتي أصلاً نتيجةً للاضطرابات التي أدّى إليها فرض الهيمنة. فكم هذا المجتمع بعيدٌ اليوم عن مبادئ الرئيس ويدرو ويلسون المناهضة للاستعمار وعن زخم تفكيك نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب إفريقيا.
المجتمع الفرنسي مريضٌ أيضاً. لقد تمّ إقناعه بأنّ مشكلة الضواحي الفقيرة تأتي من كون أغلبيّة سكّانها مسلمين وليس لأنّهم لا يجدون فرص عملٍ لائقة. وأنّ أزمته الاقتصاديّة هي نتيجة تدفّق المهاجرين، خاصّةً وأنّ أغلبهم مسلمين، وليس من سياسات خلق الفوضى في الجنوب بوسائل “القوّة الناعمة” أو ربّما “الغليظة” كما في ليبيا.
إنّ علامات هذا المرض تظهر أيضاً في التبدّلات السياسيّة. فإذا كان “الديموقراطيّون” و”الاشتراكيّون” في السياسات الداخليّة هم الأكثر دفعاً في السابق للتوجّهات الاستعمارية والصهيونيّة في الخارج، وإذا كان “اليمين المحافظ” هو الأكثر عداءً للساميّة واليهود، أضحى اليمين المتطرِّف اليوم هو الحليف الأكبر لهذه التوجّهات. وهذا تحوّلٌ نوعيّ مثاله أنّ مفكّراً فرنسيّاً صهيونيّاً يُعلِن أنّه يجب التصويت لليمين المتطرِّف ونبذ تحالف اليسار، فقط لأنّ أحد أحزابه أدان الإبادة الجماعيّة الجارية في غزّة!
مرض المجتمعات ومرض ديموقراطيّاتها يُمكِن أن يأخذا إلى ما لا تُحمَد عقباه. إنّ برنامج اليمين المتطرِّف ورؤيته في الوصول إلى سدّة الحكم يتمثّلان حصريّاً في التهجّم على الحريّات والهروب إلى الأمام، وتفجير الصراعات الداخليّة والانطلاق في حروبٍ خارجيّة عبثيّة. هذا الجنون ليس حِكراً على الأنظمة الاستبداديّة ونتيجةً لأزماتها.
إنّ مرض المجتمعات يكمُنُ في إغلاق أذهانها والهجوم على الحريّات وعلى الآخر. ومعها تعاني أنظمة الحكم أيضاً من المرض.. مهما كانت. والمعضلة أنّها لا تستفيق من هذا الانغلاق إلاّ بعد دفع الثمن بشريّاً وباهظاً في آن.. هذا، إذا استفاقت.