باتت منطقة الشرق الأوسط تعيش حالة من الغليان في انتظار ما سيكون عليه رد إيران وحزب الله على عمليتي اغتيال إسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أكثر من عشرة أيام. فما هو سر الدعوة الثلاثية المفاجئة لعقد جلسة مفاوضات جديدة بعد أن قتلت “إسرائيل” إسماعيل هنية، المفاوض الفلسطيني الأول، وما معنى ارتكاب مجزرة جديدة غداة الدعوة؟
ليس خافياً أنه من ضمن أهداف توقيت الإعلان الأميركي المصري القطري المشترك هو خلق نوع من الإرباك لدى قيادة محور المقاومة، فإن نفّذ “المحور” مجتمعاً أو أحد أطرافه رداً انتقامياً على عمليتي الاغتيال قبل انعقاد جلسة المفاوضات المقررة الخميس المقبل، سيُصار إلى تحميله مسؤولية نسف هذه المفاوضات (ثمة رسائل تبلغها حزب الله والقيادة الإيرانية بهذا الاتجاه)، وإن لم يُنفذ الرد في انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات، فإن تكتيك التفاوض الأميركي “الإسرائيلي” الذي خبرناه على مدى الأشهر العشرة المنصرمة يقوم على المماطلة في التفاوض لكسب الوقت وتأخير الرد المرتقب لأطول فترة ممكنة على أمل ألا يحصل مع مرور الوقت، فتكون “إسرائيل” قد سجلت نقطة لصالحها في ميزان الردع المتبادل بينها وبين محور المقاومة.
في غضون ذلك، قامت واشنطن، خلال الفترة الممتدة منذ اغتيال هنية وشكر بتعزيز وجودها العسكري في البحرين الأحمر والأبيض المتوسط بمزيد من السفن الحربية وبارسال طائرات حربية من طراز “إف 22 رابتور”، وهي أحدث طائرات حربية في العالم، إلى منطقة الشرق الأوسط، كما قام قائد القيادة العسكرية الأميركية (سنتكوم) الجنرال مايكل كوريلا بزيارة هي الثانية إلى تل ابيب في غضون أسبوع واحد، بالإضافة إلى معلومات نشرتها شبكة “سي ان ان” الأميركية عن الافراج عن 3.5 مليار دولار مساعدات أميركية لشراء عتاد عسكري واسلحة وذخيرة لـ”إسرائيل”، يضاف ذلك إلى 6.5 مليار دولار حصلت عليها “إسرائيل” منذ بدء عدوانها على قطاع غزة، أي أن إجمالي المساعدات العسكرية الأميركية لـ”إسرائيل” بلغ معدل مليار دولار شهرياً فقط للأسلحة والعتاد العسكري والذخائر. وترافقت تلك التحضيرات العسكرية الأميركية مع تصريحات لمسؤولين أميركيين اكدت التزام واشنطن الصارم بأمن “إسرائيل” والدفاع عنها ناهيك عن محاولتها انشاء حلف عربي لهذه المهمة عبر مطالبتها مصر والاردن ودول الخليج بالانضمام إلى هذا الحلف من أجل التصدي لأي هجوم صاروخي إيراني على “إسرائيل”.
أمام كل هذه التحضيرات العسكرية، وبمعزل عن توقيت الرد الحتمي لمحور المقاومة على عمليات الاغتيال، هل يُمكن أن تؤدي جلسة المفاوضات المرتقبة منتصف الشهر الحالي إلى نتائج إيجابية؟ الجواب ليس صعباً أبداً، فقد أثبتت جلسات التفاوض السابقة، وكلها مهّدت لها “إسرائيل” بمجازر، أن الولايات المتحدة أعطت رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو الضوء الأخضر لحرب الإبادة التي يشنها على الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ولم تمارس خلال كل الفترة المنصرمة أي ضغط جدي عليه لوقف اطلاق النار، كما أن نتنياهو أفشل خطة الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف اطلاق النار التي أعلنها في نهاية مايو/أيار الماضي.
محور المقاومة، سيعطي اجتماع 15 آب فرصة ضيّقة لاستطلاع النوايا الأميركية حيال القدرة على وقف العدوان، فإن تبدت ملامح المماطلة “الإسرائيلية” لن يماشي نتنياهو في لعبته المفضلة بل سيرد بعمل عسكري مؤلم حتى وإن كان الثمن خوض حرب إقليمية لا يريدها ولا يسعى إليها، ولكن يبقى السؤال هو ما تعريف الفرصة الضيقة في الزمان؟
وعلى مسافة ثلاثة أشهر من الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، لم تعد الإدارة الأميركية الراهنة تملك القدرة على ممارسة أي ضغط على نتنياهو، هذا إذا توفرت النية لذلك، وبالتالي لماذا سيوافق نتنياهو على وقف إطلاق النار في ظل ضعف الموقف الأميركي، وهو الذي يملك الآن مفتاح الحرب والسلم في المنطقة؟
مما لا شك فيه أن نتنياهو سيسعى للاستفادة من الاعلان الأميركي المصري القطري وتحويل اجتماع الخامس عشر من هذا الشهر إلى مجرد مناورة من أجل مواصلة حربه على الفلسطينيين، بدليل المجزرة التي ارتكبها جيشه فجر أمس الأحد في مدينة غزة وكأنه يقول مسبقاً أنه لا يبالي لا بالمجتمع الدولي ولا بالدعوة الثلاثية وأن خطط الجيش “الإسرائيلي” العسكرية ستنفذ ولا شيء يُعدّل حرفاً فيها.
في المقابل، شكّل قرار حركة حماس بانتخاب رئيس مكتبها السياسي في قطاع غزة يحيى السنوار خلفاً لإسماعيل هنية في رئاسة المكتب السياسي للحركة رسالة تحدٍ وقوة بدليل إعلان الأخير عن تكليف نائبه القيادي الحمساوي خليل الحية لتولي التفاوض باسمه. وقد شكّل هذا الانتخاب مفاجأة غير سارة لـ”إسرائيل” التي كانت تراهن على تليين موقف حماس في المفاوضات بعد اغتيال هنية، لكن السنوار الذي يُعتبر (ورفيقه محمد ضيف) مهندس عملية “طوفان الأقصى” سيكون موقفه أكثر تشدداً في المفاوضات المقبلة، لأنه وبعد آلاف المجازر التي ارتكبها الجيش “الإسرائيلي” في غزة والضفة الغربية بحق المدنيين العزل، وبعد تدمير كل قطاع غزة وتهجير أهله، لا يملك السنوار إلا فرصة التعامل بالمثل وبالتالي رفع السقف لأن أي تنازل سيكون بمثابة رفع الراية البيضاء، وهذا غير وارد في قاموسه على الإطلاق وقد ثبت ذلك من خلال إدارته للمعركة خلال الأشهر العشرة المنصرمة.
وعلى جبهة لبنان، فان حزب الله ينظر إلى المعركة بمنظور استراتيجي، وهو يعرف جيداً أن عدم ردّه على اغتيال شكر سيعطي “إسرائيل” ورقة قوية في لعبة الردع المتبادل، وسيفتح شهيتها على المزيد من عمليات الاغتيال، والأمر نفسه ينطبق على إيران التي أصيبت في سيادتها وأمنها القومي وهيبتها وأيضاً في شرفها على حد تعبير الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، مع اغتيال هنية في قلب العاصمة طهران. من هنا فان محور المقاومة لن يعطي “إسرائيل” اليد العليا في الصراع مهما كلّف الأمر.
والمرجح أن محور المقاومة، وعلى قاعدة “الصبر الإستراتيجي” و”الآجل خير من العاجل”، سيعطي اجتماع الخامس عشر من أغسطس /آب فرصة ضيّقة في الزمان لاستطلاع النوايا الأميركية حيال القدرة على وقف العدوان، فإن تبدت ملامح المماطلة “الإسرائيلية” لن يماشي نتنياهو في لعبته المفضلة بل سيرد بعمل عسكري مؤلم حتى وإن كان الثمن خوض حرب إقليمية لا يريدها ولا يسعى إليها، ولكن يبقى السؤال هو ما تعريف الفرصة الضيقة في الزمان وكم يمكن أن يطول “الصبر الاستراتيجي” في المفاوضات.. وحتماً الجواب فقط عند قيادة محور المقاومة.
من كل ما سبق يُمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة هي التي تقود حرب غزة، إذ أنّه من دون المساعدات الأميركية السخية لما استطاعت “إسرائيل” أن تواصل حربها بهذه الشراسة والوقاحة.. كما أن الولايات المتحدة لا تختلف مع نتنياهو في تحقيق الهدف الإستراتيجي للمعركة وهو القضاء ليس فقط على حماس بل على كل قوى المقاومة الفلسطينية وعلى القضية الفلسطينية برمتها لدفن مشروع حل الدولتين الذي تستخدمه فقط للمناورة واعطاء المزيد من الوقت لنتنياهو لاستكمال مهمة تحقيق هذه الاستراتيجية.