الدليل إلى ذلك أن رئيسي مجلس النواب اللبناني نبيه بري والحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، حذّرا هوكشتاين قبل مجيئه ثم عند حضوره من تكرار “كمين نيويورك” عندما جزم الأمريكيون بوجود فرصة عالية للتوصل إلى هدنة الثلاثة أسابيع بعد حصولهم على موافقة “إسرائيلية” أولية، فقرّر ميقاتي ـ بالتنسيق مع بري ـ أن يتوجه شخصياً إلى نيويورك للمصادقة على الاتفاق، ليتبين لاحقاً أن نتنياهو، كان يسير في طريق آخر أفضى إلى تصعيد الموقف واغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي.
قال الأمريكيون لبري وميقاتي هذه المرة إن إدارة جو بايدن تملك من الإرادة السياسية الجدية ما يجعلها واثقة بأن هذه الفرصة وافرة الحظ. غير أن مسار رحلتهما من الولايات المتحدة إلى تل أبيب إصطدم بجدار إسرائيلي عالي السقف، فما كان منهما إلا أن حزما حقائبهما وغادرا عائدين إلى واشنطن من دون العودة إلى لبنان، وذلك فقط بعد يوم واحد من اتصال هوكشتاين بكل من بري وميقاتي ليُبلغهما باحتمال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ما جعل الإثنان ينشران جواً من التفاؤل الحذر.
إنّ ما فعله هوكشتاين في اتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين هو استكمال للتكتيك الأمريكي الذي اتبع في مفاوضات غزة، وهو تكتيك يعتمد على نشر الأمل على نطاق واسع باحتمال وقف الحرب، لما لبلاده من نفوذ على “إسرائيل” ومن ثم يتبدد الأمل من خلال التصلب “الإسرائيلي” والمطالبة بتنازلات أكثر وأكثر ما يؤدي إلى الإحباط عند شرائح واسعة في المجتمع، بمعنى أن دينامية التفاوض نفسها صارت جزءاً من خطة الديموقراطيين الإنتخابية من دون أن تقضي إلى نتيجة محددة. غير أن ذلك لم يترك مجالاً للنقاش أن الخيار الوحيد المتبقي في قطاع غزة وفي لبنان هو خيار الميدان من جهة وخيار الصمود الشعبي من جهة أخرى، بالرغم من كل التضحيات الكبيرة بشراً وحجراً. وهنا يطرح التساؤل بخبث أو بحسن نية هل من أفق جدي أمام من يُراهن تحديداً على خيار الميدان لتعديل كفة الميزان؟
نتنياهو ما يزال يعتبر أن النصر ممكن في الحرب الدائرة في كل من قطاع غزة ولبنان وإن كان أفقه بعيد بحسب قراءته، وهو يراهن على فوز صديقه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليواصل استباحة الأهداف المدنية في مسرحي القتال بعد ان استنفذ معظم بنك أهدافه العسكرية
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن أي اتفاق بين أي طرفين في أي صراع عسكري إنما يعكس موازين القوى التي يفرضها الميدان وليس كرمُ أخلاق هذا الطرف أو ذلك، وهذه حقيقة تفاوضية معروفة. وفي العدوان الوحشي الذي تقوم به “إسرائيل” على كل من قطاع غزة ولبنان، فان حكومة نتنياهو الفاشية تعيش نشوة “النصر الكبير” بعد تصفية عدد كبير من قيادات وكوادر المقاومة في مسرحي الصراع وتحاول وضع شروط لوقف اطلاق النار أقل ما يمكن القول عنها أنها شروط إستسلامية تضع لبنان تحت احتلال غير مقنع وتُحوّل الجيش اللبناني إلى مجرد حرس لحدودها إلى جانب قوات دولية تحت مسمى “قوات متعددة الجنسيات” أو “قوات الطوارئ الدولية في لبنان (اليونيفيل)”، فيما هي لا تملك رؤية بشأن ما يمكن أن تفرضه في قطاع غزة بعد أن طحنت القطاع من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه من دون التمكن لا من هزيمة المقاومة ولا إغراء أي طرف بتولي السلطة في القطاع، فضلاً عن العجز عن اطلاق ما تبقى من أسرى (101) بالقوة.
أمام هذا المشهد، وحدهم الذين راهنوا على “النوايا الحسنة” للولايات المتحدة هم الذين أحبطوا من نتيجة الوساطات الأمريكية والعربية المتنقلة بين القاهرة والدوحة وبيروت وتل أبيب والهادفة نظرياً للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، ولكنها عملياً لم تكن سوى محاولة تسويق وقحة لفكرة فرض الشروط “الإسرائيلية” على كل من لبنان وفلسطين المحتلة وتأبيد الاحتلال وقتل فكرة المقاومة فيهما. أما المقاومة فلم تحبط لأنها أساساً تحمل خياراً حاسماً عبرت عنه شعاراتها، في قطاع غزة “أنه لجهاد نصر أو استشهاد”.. وفي لبنان “لن تعودوا” في إشارة إلى المستوطنين الذين غادروا شمال فلسطين منذ أكثر من عام. وقد عبر عن هذا الأمر قادة حماس في أكثر من تصريح كما عبّر عنه الأمين العام الجديد لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في آخر ظهور متلفز له.
لقد كان واضحا من كلام الشيخ نعيم قاسم أن المقاومة ليست بوارد رفع الراية البيضاء والتفريط بما قدمته من تضحيات طالت بشكل أساسي قيادتها وكوادرها وقواعدها وجمهورها وقرى تواجد هذا الجمهور على امتداد جغرافية الوطن وأنها مستعدة لمواصلة المواجهة حتى الرمق الأخير وهي قد وضعت في حسبانها أن هذه المواجهة ستكون طويلة جداً وستجعل “إسرائيل” تصرخ أولاً بسبب الميدان. كما كان الأمر واضحاً في قول الرئيس بري أنه لن يرضى بأكثر من القرار 1701.
في الجهة المقابلة، فإن بنيامين نتنياهو ما يزال يعتبر أن النصر ممكن في الحرب الدائرة في كل من قطاع غزة ولبنان وإن كان أفقه بعيد بحسب قراءته، وهو يراهن على فوز صديقه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليواصل استباحة الأهداف المدنية في مسرحي القتال بعد ان استنفذ معظم بنك أهدافه العسكرية، وهو يرى أن لديه فترة سماح لا بأس بها لتحقيق أهدافه إلى حين تولي الرئيس المنتخب مهامه الرئاسية رسميا في العشرين من يناير/كانون الثاني (أي عشرة أسابيع). ذلك لا يعني أن المرشحة كامالا هاريس، في حال فوزها، ستكون أقل دعماً لـ”إسرائيل”، بل إن الأمور ستبقى بكل بساطة غامضة بانتظار السلوك الذي سيعتمده أحد المرشحين بعد فوزه لحسابات تتعلق بخطة كل منهما لإدارة الصراع العالمي الممتد من تايوان إلى أوكرانيا مروراً بالشرق الأوسط.