حروبنا الطائفية.. نتاجُ ديكتاتورياتنا العربية!

ما يجري في سوريا من اضطرابات أمنية مخيفة تتخذ أبعاداً طائفية وقومية، لا تنفصل عن المخاوف نفسها الجارية في ليبيا بين شرق وغرب وقبيلة وقبيلة، وسبق للعراقيين أن سقطوا في رعبهم بعد العام 2003، فتأجّجت الحرب الطائفية والمذهبية ورافقتها حرب قومية مستمرة بأشكال مختلفة مع الشمال الكردي.

الدول الثلاث أعلاه قادتها (السابقون) أنظمة تقدمية وقومية على مدى عقود، وكان من المفترض بهذا المدى الزمني أن يُنتج “عربياً جديداً”، على حد قول المفكر السوري ياسين الحافظ في كتابه “الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة” الصادر عام 1978، إلا أن ذاك العربي الجديد لم يولد، والسبب في ذلك، يعود، بحسب الحافظ نفسه، إلى أن الأنظمة التقدمية أعادت إنتاج الثقافات الطائفية والعشائرية.

ذاك نقد مبكر لآليات الثقافة والحُكم التي اعتمدها “القوميون التقدميون”، وقبل أن تعم البلاءات على المجتمعات العربية وتفتح إسرائيل أشداقها لتقديم نفسها حامية لما تسميه هذه “الأقلية” او تلك، وأما كيف عمل الحكم “التقدمي القومي العربي” على تأجيح الطائفيات والعشائريات فللتاريخ القريب أقواله وأهواله:

أولاً؛ سوريا والعراق:

في 18 تموز/يوليو 1963، قاد العقيد جاسم علوان المعروف بميوله الناصرية انقلاباً عسكرياً للإستيلاء على السلطة في دمشق، فتصدى له وأسقط مسعاه اللواء أمين الحافظ بحركة مضادة أوصلته إلى رأس الحكم السوري، وعلى ما يقول القائلون إن الإنقلاب الفاشل الذي قاده علوان اعتملت خميرته بعد تأجج الصراع بين البعثيين والناصريين الذين توحّدوا في 8 آذار/مارس 1963 لإسقاط ما أسموه “انقلاب الإنفصال عن مصر عام 1961” ثم اختلفوا بعد نجاحهم وتداموا صراعات وتصفيات، وإثر نجاح الحافظ ورفاقه في إزاحة العسكريين الناصريين ألقى الرئيس جمال عبد الناصر في 22 تموز/يوليو 1963 خطاباً ذاع صيته اتهم فيه حزب “البعث” بالعنصرية والطائفية، ومما قاله:

“جاءني لؤي الأتاسي (الرئيس السوري) وقال إن الذي حصل (محاولة انقلاب جاسم علوان) يُعطينا المبرر للتسريحات من الجيش، فقلتُ له أبدا، ما حصل هو نتيجة تصرفات حزب البعث في سوريا وطرد الناس من الجيش، طرد الضباط وصف الضباط والجنود نتيجة تصرفات حزب البعث في التسلط، نتيجة تصرفات حزب البعث في إعطاء الوظائف للبعثيين فقط وحرمان السوريين، نتيجة تصرفات حزب البعث في تقسيم البلد إلى قسمين، واعتمد تمييزاً عنصرياً، واعتمد على الطائفية واعتمد على الأقليات”.

في 23 شباط/فبراير 1966 أقصى رئيس الأركان السوري اللواء صلاح جديد الفريق أمين الحافظ عن السلطة بانقلاب عسكري مشهود، أفردت له صحيفة “الأهرام” المصرية تغطية واسعة على صفحاتها وأسهبت في تفصيل الصراعات البعثية خصوصاً بعد انقلاب 1961 الذي أسقط الوحدة المصرية ـ السورية، وفي تحقيق مطول بعنوان “مراحل الصراع على السلطة داخل حزب البعث في سوريا”، قالت “الأهرام”:

“إن الصراع بين الأجنحة المتنازعة على السلطة في الحزب، بدأ في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 حين عُيّن صلاح جديد رئيساً للأركان بعد ترقيته إلى لواء، وكان الفريق أمين الحافظ يشغل هذا المنصب، وانعكست مظاهر الصراع في اليوم التالي لتعيين صلاح جديد، إذ قدّم صلاح الدين البيطار استقالة وزارته، وقد كان ذلك بداية الصراع العنيف بين الحافظ وجديد، واشتد الصراع بين الإثنين، وظلّ الموقف في شد وجذب بين الإثنين تتنازعه عوامل مختلفة تهدّدت سوريا خلاله بالسرطان الطائفي، ولأول مرة سُمعت في تاريخ سوريا كلمات سني وعلوي ودرزي”.

وفي 27 ـ 2 ـ 1966، نقلت “الأهرام” عن “وكالة الصحافة الفرنسية” قولها “إذا نجح الإنقلاب، فإن اللواء صلاح جديد قد يُحوّل مذهبه دون أن يظهر على غرار أمين الحافظ، إذ أنه ينتمي إلى طائفة العلويين من الأقلية، بينما يقتضي العُرف يأن يكون زعماء البلاد من المذهب السني”.

يقول مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس الأسبق حسني مبارك، في شريط مصور (13 ـ 12 ـ 2023) ضمن برنامج “الصندوق الأسود” مع عمار التقي لحساب صحيفة “القبس” الكويتية: “في إحدى القمم العربية جرت مناظرة بين حافظ الأسد وصدام حسين، وحدث بين الإثنين تلاسن شديد في الجلسة، وأنا دخلت بالصدفة لأعطي أوراقاً للرئيس مبارك، وسمعت حوالي دقيقة أو دقيقتين من التلاسن المذكور، وقال صدام حسين للأسد: أنتم لستم مسلمين، أنتم متحولون، أنتم من عبدة الفرج”.

ثانياً؛ العراق وليبيا:

بعد انسحاب القوات العراقية الغازية من الكويت في شباط/فبراير 1991، ثار العراقيون في الشمال والجنوب وبعض الوسط، وكُتبت الغلبة لأنصار الرئيس صدام حسين، وابتداء من الثالث من نيسان/أبريل، راحت تظهر في صحيفة “الثورة” العراقية سلسلة مقالات افتتاحية امتدت على أجزاء عدة وانتهت في الرابع عشر من الشهر إياه، تلك المقالات كانت بعنوان “لماذا حصل ما حصل”؟ وفي المقالة الثالثة استعرض كاتب المقالات لائحة اتهامية تفصيلية لأهل الجنوب العراقيين، بينها أن أصولهم الإجتماعية غير عربية “وقد جاؤوا من الهند مع جواميسهم”.

تلك المقالات ما فتئ جانبها السجالي قائماً في العراق بحثاً عن كاتبها، ولكن عبد الجبار محسن مدير التوجيه السابق للجيش العراقي وأحد القلائل الذي شكلوا الحلقة الضيقة حول صدام حسين يقول في حوار تلفزيوني مع حميد عبدالله عام 2012 بثته قناة “المشرق” العراقية “إن صدّام كان يكتبها أو مكتب التوجيه وتأتي إلى صحيفة الثورة مُغلفة وعلى غلافها مكتوب: للنشر”.

ثالثاً؛ ليبيا ولبنان:

في 15 ـ 8 ـ 1980 نقلت صحيفة “السفير” اللبنانية عن معمر القذافي قوله “من الضلال أن يكون الإنسان عربياً ومسيحياً في الوقت نفسه، لأن دين الأمة العربية هو الإسلام، وإذا كان المسيحيون عرباً أقحاحاً فعليهم أن يعتنقوا الدين الإسلامي، يُمثّل تعدد الأديان في قومية واحدة شذوذاً، لذا، فإن من الغريب ألا يكون العربي مسلماً”.

وفي مقابلة نشرتها صحيفة “الشروق” المصرية (17 ـ 1 ـ 2017) مع رئيس الجمهورية اللبنانية الأسبق أمين الجميل جرى هذا الحوار:

ـ “هل صحيح أن القذافي دعاك إلى الإسلام؟

ـ الجميل: في إحدى الجلسات قال لي إنت رجل ممتاز وأريد أن تكون مسلماً.

ـ ماذا كان الرد من جانبكم؟

إقرأ على موقع 180  تحرير العلمانيين بالسلام أم بالغباء الطائفي؟

ـ الجميل: قلت له كلنا أبناء إبراهيم عليه السلام”.

في 19 كانون الثاني/يناير 1986، دعا القذافي وفقاً لصحيفة “النهار” اللبنانية وغيرها من الصحف البيروتية “الشباب اللبنانيين والعرب إلى رص الصفوف للقتال إلى جانب القوات الفلسطينية في لبنان وفي وجه محاولات طائفة نبيه بري لتأسيس دويلة في الجنوب في خط الكيان الصهيوني، والقتال يجب أن يمتد من بيروت إلى حدود فلسطين لتدمير الطائفة العفنة ومنعها من إقامة دويلتها الدمية في جنوب لبنان”، معرباً عن استعداد ليبيا “لتقديم الأسلحة من دون تحفظ إلى كل من يود القتال تحت راية القومية العربية ووحدة لبنان ضد الطائفية الشيعية بغية الدفاع عن شعبنا”.

وعلى هذا الموقف رد الرئيس بري قائلاً “على رغم الظروف المؤلمة التي تدمي قلب كل مخلص، فإننا نشكر هذه الظروف ذاتها التي أظهرت معمر القذافي على حقيقته العارية، فهو الذي نصّب نفسه رائداً قومياً، إذا به عقيداً مذهبياً وطائفياً”.

رئيس مجلس النواب اللبناني في ذلك الحين حسين الحسيني كان له رده أيضاً وذهب إلى وصف القذافي بـ”الإرهابي المشبوه والمثير للفتن” (“النهار” ـ 20 ـ 12 ـ 1986) ونعت الحسيني القذافي بحسب صحيفة “الأنوار” في التاريخ نفسه بـ”المجرم”، وناشد القادة العرب “وضع حد له ولأعماله وتخليص الأمة من جرائمه، والأمة العربية لا يمكن ان تنسى جرائم معمر القذافي بحقها فهي لم تنس معارضته لحرب رمضان 1973”.

وردّ نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين على مواقف القذافي فأدرجها في دائرة “الإفتراءات الفاجرة” متهما الرئيس الليبي “بأنه يدعو إلى تأجيج نار الفتنة وتغذيتها” (“النهار”ـ 20 ـ 12 ـ 1986) إلا أن الردود الأكثر صداً لمواقف القذافي وتنديداً بها جاءت من مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد، إذ رفض (“النهار” ـ 22 ـ 12 ـ 1986) تصريحات القذافي “الذي حمل على الطائفة الشيعية” وقال المفتي الراحل “قرأنا ما نقلته الصحف من تصريح الرئيس معمر القذافي (…) حتى ذهب ظننا إلى استبعاد أن تصح نسبة مثل هذا البيان إلى الرئيس القذافي (…) ينبغي أن يعرف الجميع أننا نحن والشيعة نشكل جسماً واحداً في أمة واحدة تحمل لواء شريعة واحدة”.

لم تقف الأمور عند هذا الحد، فقد نشرت صحيفة “النهار” (21 ـ 12 ـ 1986) دعوة القذافي اللبنانيين لقتال الطائفة الإسلامية الشيعية وفي نص الخبر “نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن وكالة الجماهيرية للأنباء أن العقيد معمر القذافي دعا الشباب اللبناني إلى القتال ضد طائفة الوزير نبيه بري الشيعية المعادية للفلسطينيين وعميلة اسرائيل، وحض القذافي المقاتلين على توجيه بنادقهم ضد الشيعة فقط لأن أي مواجهة مع سوريا لا تفيد إلا الطائفة الشيعية والعدو الصهيوني”. ومرة أخرى ردّ عليه الرئيس بري بقوله “لا يتوهمن أحد أن هذا الكلام صادر عن مجنون بل عن إسرائيلي عاقل يدافع عن بني قومه”.

وعلى جادة الرفض ذاتها كان للرئيسين سليم الحص ورشيد كرامي مواقف منددة بتصريحات القذافي ودعواته، وفي موقف الحص “تابعنا التصريحات التي أدلى بها الرئيس معمر القذافي، ونحن بالطبع لا نقر ما جاء فيها من تحريض بين المسلمين، ونحن إذ نرفض ما جاء في تصريحات الرئيس القذافي رفضا قاطعا، نرجو أن يتفهم القادة العرب الموقف في لبنان فلا يزجون الناس في مزيد من الصراعات المفتعلة، ونؤكد، مهما قيل، سنبقى حريصين على وحدة المسلمين ولا نفرق بين فئة وفئة” (“النهار” ـ 22 ـ 12 ـ 1986) وفي إدانة كرامي (“النهار” ـ 23 ـ 12 ـ 1986) لدعوات القذافي “عرفتُ بالتصريحات التي أطلقها الأخ معمر القذافي ـ هي ـ تصب في خانة المذهبية والطائفية، وهذا ما نهى عنه الله تعالى، وإذا كنا جميعا مسلمين نؤمن بإله واحد ونتبع سنة رسوله، فإننا من هذا المنطلق نستغرب هذه التوجيهات التي لا تخدم الإسلام في شيء”.

من الذين تناولوا مواقف العقيد القذافي، رئيس تحرير مجلة “الشراع” اللبنانية، حسن صبرا، فكتب في مجلته (27 ـ 9 ـ 2018) ما يلي “سألني القذافي: ما زلت شيعياً؟ فصدمته بقولي إن معظم الليبيين من الشيعة” وفي تفاصيل ما كتب صبرا:

“أثناء لقاءاتنا كقيادة للإتحاد الاشتراكي العربي في لبنان مع العقيد معمر القذافي، كانت حواراتنا معه تتنوع فيها المواضيع، كان القذافي يعتبرني مقربا منه جدا وكان يميزني في التعامل، ومازحني في أحد اللقاءات وتحت أضواء مصوري التلفزيون، إذ نظر إلي باسما وهو يسألني مداعباً: ما زلت شيعياً”؟

يضيف صبرا “ابتسمت واستمهلت تأدباً حتى أنهى المصورون عملهم لأقول له: هل تعلم ما الأسماء الأكثر شيوعاً داخل الجماهيرية؟ هو إسم عاشور، هذا يعني أن الليبيين يُقدّرون الإمام الحسين الذي قُتل في العاشر من محرم، من هنا باتت تُعرف في التاريخ العربي عاشوراء، ومنها استحدث الليبيون إسم عاشور كما في مصر، وكما عدد من عائلات لبنان، حيث هناك عاشور السني وعاشور الشيعي”.

هل للكلام ختام؟ لا.

رحل المتلاعبون بالطائفيات والمذهبيات والقبليات والعشائريات، وتركوا مجتمعاتهم تائهة لا تلوي على سبيل، فأطل “المُخلِص الدجّال” من تل أبيب مطلقا الصوائح والنوائح: أنا أحميكم وأنا الملجأ والملاذ.

أول الكلام وختامه كان ويبقى كما غنينا وأنشدنا صغاراً وشباباً:

بلاد العُرب أوطاني/ من الشام لبغدانِ

ومن نجد إلى يمنٍ/ إلى مصر فتطوانِ

فلا حد يباعدنا/ ولا دين يفرقنا

لسان الضاد يجمعنا/ بغسّان وعدنانِ.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  المباحثات الأمريكية الإيرانية.. ما هي قصة "صفقة البحر الأحمر"؟