زمن “تسليم السّلاح”.. أو “الإكثار” منه؟

بعد حرب الإبادة المستمرة على غزّة، وبعد عدوان الـ٦٦ يوماً المتجدّد على لبنان، وبعد الانقلاب التّركيّ-السّلفيّ-الاخوانيّ المسنود أميركيّاً في سوريّا (في سياق غير منفصل عن الطّوفان الفلسطينيّ، أغضبنا ذلك أم لم يُغضبنا، أحزننا أم لم يُحزنّا).. بعد هذه الأحداث، يَعتبر البعض ويُعبّر، اليوم، أنّ وقت "تسليم" أو "نزع سلاح" الجماعات المُقاوِمة بالتّحديد قد حان.. في المنطقة عموماً ولبنان خصوصاً.

هذا البعضُ يُروّجُ لذلك ليلَ نهار في هذه المرحلة واقعاً: أحياناً عبر مقاطع دعائيّة مثيرة للسّخرية ربّما (كأنّنا أمام اعلان تسويقيّ لمسحوق تنظيف في بعض الأمثلة). وهم يعتقدون، عموماً، أنّهم يُمسكون اليوم ربّما بحبلٍ يُمثّل فرصةً تاريخيّةً لهم: إمّا (١) لإرساء “مفهوم الدّولة” كما يظنّ عدد منهم عن صدق؛ و/أو (٢) للتّخلّص من “التّوجّهات الاسلاميّة واليساريّة والقوميّة على اختلاف تسمياتها” كما يؤمن البعض كذلك.. وبالتّالي، التّنعّم بانتصار الحلف الأمريكيّ-الاسرائيليّ “الحضاريّ” في المنطقة (مع التّبسيط لكن المُفيد بالتّأكيد).

ومهما حاولنا التّمويه والتّخفيف، فالتّوجّهان موجودان، ولا داعي للهروب من الإقرار بوجود الثّاني تحديداً: فأهله بيننا، وباتوا يجاهرون بما يعتقدون به أكثر فأكثر.

على العموم، حقّاً؛ هل يستوي هذا الاعتقاد، موضوعيّاً، في هذه المرحلة من تاريخ المنطقة.. أي الاعتقاد حول “تسليم” أو “نزع سّلاح” من يواجهون “إسرائيل” بطرق غير رسميّة وغير تقليديّة (أي من نسمّيهم عادةً بحركات المقاومة)؟

***

المشهد يكاد يكون سورياليّاً عزيزي القارئ. حقّاً.

فبينما يُروّج البعض من المتسرّعين، و/أو البعض من المقتنعين بالمشروع الاستعماريّ.. بينما يروّجون ويصرّحون ويكتبون ويقومون ببعض الاستعراضات الاعلاميّة (المُكلفة جدّاً في أحيان كثيرة)، تنظر أمامك فترى ما يلي بشكل عامّ:

  • احتلالٌ وتعدٍّ وعدوان ووقاحة لا مثيل لها على وضدّ لبنان، من جهة الكيان الاسرائيليّ، ووعيدٌ بالتّمدّد الجغرافيّ (التّوراتيّ الطّابع) أحياناً، بالإضافة إلى عدم احترام للاتّفاقات وللقرارات وللقوانين الدّوليّة على كلّ حال وفي العموم. هذا في حين تبدو الدّولة اللّبنانيّة – أقلّه حتّى الآن وفي الغالب – وحيدة لا ناصر ينصرها ولا يعينها، اللهمّ إلّا بعض التّصريحات الرّمزيّة لعمانوئيل ماكرون ومن هو في مثل موقعه؛ أو بعض الكلام المنحاز للإسرائيليّ – عموماً وفي الجوهر – من قبل الإدارة الأميركيّة كما جرت العادة.

المقاومة، باعتراف رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون القادم من المؤسّسة العسكريّة: قد قامت بواجبها في ما يخصّ تطبيق اتّفاق وقف اطلاق النّار المعلن عشيّة السّابع والعشرين من تشرين الثّاني/نوفمبر الماضي، و”إسرائيل” هي التي لا تزال تحتلّ وتعتدي وتقتل وتدمّر ولا تحترم أيّ اتّفاق في الغالب.. في حين أنّ الدّولة اللّبنانيّة تبدو إلى الآن عاجزة في الأعمّ الأغلب.

وفي الوقت عينه؛ صداقات بعضنا مع الغرب ومع العرب لا تجلب الكثير في هذا الإطار.. والقرارات والمعاهدات والقوانين الدّوليّة لا تعني القادة الاسرائيليّين طبعاً وفي الغالب أيضاً (ربّما يكتفون بقراءتها قبل النّوم علّها تساعدهم على الدّخول في سبات عميق وهم يتذكّرون رّئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس كذلك).

فهل يستقيم، حقّاً، ترويج البعض بأنّنا في زمن “نزع السّلاح”؟ أيّ نزع سلاح؟ أليس مشهداً سورياليّاً أو شبه سورياليّ عزيزي القارئ؟

  • كذلك الأمر بالنّسبة إلى المشهد الفلسطينيّ بشكل عامّ. احتلال لا يوقف اجرامه وابادته وتوسّعه وعدوانه (إلخ..)، ولا هو يحدّ من أطماعه غير الأخلاقيّة.. وإدارة أميركيّة تدعمه بلا قيد ولا شرط.. بل هي تدفع الآن نحو تهجير الشّعب الفلسطينيّ وسرقة أرضه علناً!

“أوسلو” أصبح كلمة ثقيلة على السّمع المتّزن. “الحلّ السّلميّ” يكاد يصبح مجرّد عبارة آتية من عالم الخيال (الوقِح ربّما بالنّسبة إلى البعض). المجتمع الدّوليّ منحاز ضدّنا. القانون الدّوليّ علينا فقط في الأعمّ الأغلب (برغم بعض المسرحيّات التي لا تأتي بشيء جدّيّ ملموس على أرض الواقع).

الإدارة الأميركيّة، هنا أيضاً وفي الأغلب، ضدّ شعوبنا وضدّ قضايانا، ولا تنفع صداقة بعضنا معها.. إلّا لينال هذا البعض قليلاً من متاع الحياة الدّنيا، أو ربّما ليأخذ صورةً قرب مبعوثة حسناء.. شقراء أو سمراء تمتّع النّاظرين.

  • أمّا في ما يخصّ الجغرافيا والجيو-سياسة السّوريّة: فالأمر أكثر قرباً من السّورياليّة حقيقةً، خصوصاً وأنّنا أمام مشهد سياسيّ جديد نسبيّاً، و”سلطة” تحاول أن تبنيَ نفسَها حديثاً.

قامت سلطة “هيئة تحرير الشّام” وحلفائها، المدعومة تركيّاً، بتحرّكات ايجابيّة جدّاً في ما يخصّ المصالح الأميركيّة (والحليفة لها) في واقع الأمر وعمليّاً: فقد طردت إيران و”حزب الله” من سوريا؛ وقامت بقطع الأغلبيّة العظمى من خطوط امداد حركات المقاومة في المنطقة؛ ونظّمت خطوات عديدة لتقول إنّها جاهزة للانقضاض على “حزب الله” وبيئته في لبنان؛ وهي أيضاً قد حلقت ذقوناً كثيرة، وتبنّت خطاباً يُشبه خطاب “رجال دولة” حديثين؛ وهي سمحت للعدوّ الاسرائيليّ بأن يضرب مواقع عسكريّة سوريّة استراتيجيّة من دون أن تعترض أي جهة سوريّة رسميّة عموماً (خصوصاً بعد استيلائها على دمشق بوقت قليل)..

كلّ ذلك، ولم ينفعها – والرّئيسَ التّركيَّ –  كلُّ ما سبق في الأعمّ الأغلب: فالعدوّ الإسرائيليّ لا يزال يتوسّع في الجغرافيا السّوريّة. وهو يحتلّ، ويعتدي، ويُدمّر، ويقتل، ويُهدّد، ويُهين “السّلطة” الحاليّة ورعاتها أجمَعين.

إقرأ على موقع 180  غزة.. محرقة النازية الجديدة

ويقوم هذا العدوّ نفسه بمحاولة تثبيت وقائع طائفيّة وإثنيّة معيّنة في البلاد.. بينما تكتفي الإدارة الأميركيّة ببعض التّغريدات الغَزَليّة أحياناً بحقّ شخص أردوغان (دون التّعليق جدّيّاً على عدم الاستقرار الدّاخليّ الحاليّ في تركيا بالمناسبة).. وتقوم هذه الإدارة ذاتها بتثبيت مواقع حلفائها المباشرين، بالإضافة إلى بعض الحوارات الفولكلوريّة غير المباشرة مع السّلطات الإسلاميّة الجديدة (التي لا زالت على لوائحها الأساسيّة للإرهاب، والتي تتلقّى أخباراً غير ايجابيّة من حين لآخر من نيويورك وواشنطن).

وطبعاً.. وأوّلاً وآخراً: تُظهر الإدارة الأميركيّة وتُنفّذ دعمَها غير المشروط، في جوهر الأمور، لحليفتها “إسرائيل”، غير آبهةٍ لا “بِحُرّيّة الشّعب السّوريّ”، ولا باستقلال هذه الدّولة، ولا بأردوغان ولا بأيّ رئيس آخر ولا بأيّ جهة أخرى في منطقتنا.

  • في سوريا أيضاً: تقوم مجموعة من جنود وضبّاط الجيش العربيّ السّوريّ السّابق على ما قيل.. تقوم إذن بعمليّة عسكريّة ضدّ جماعات “هيئة تحرير الشّام” وحلفائها في منطقة السّاحل السّوريّ تحديداً.

وبمعزل عمّن هو مسؤول من الجماعَتَين اليَوم: يُرفع الآذان الدّاعي إلى “الجهاد” في مساجد الكثير من المدن السّوريّة. وتعلو بين بعض النّاس نداءات الذّبح والقتل والسّبيّ. وتعلو أصوات التّكفير هنا وهناك. ويستفيق بعض مشايخ الاقصاء من قبورهم..

وتعود رياح الإبادات الجماعيّة التي عرفتها بعض مكوّنات منطقتنا عبر التّاريخ. وتدخل جماعات سلفيّة-جهاديّة، بعشرات الآلاف من “المُجاهدين” على إخوانهم في الدّين والقوميّة والاثنيّة: تدخل إلى قرى وبلدات وبعض مدن السّاحل السّوريّ، فتنتقم – في الأعمّ الأغلب – من النّساء والأطفال والشّيوخ والمدنيّين العزّل، وتقتل وتُذبّح وتُقطّع وتخطف وتسبي الآلاف (مع اختلاف التّقديرات بين جهة وأخرى).

ثمّ يخرج مصدر “مسؤول سوريّ” ليقول ما معناه: أتركوا النّاس “تفشّ خلقها”! “تفشّ خلقها” ضدّ الأطفال والنّساء أيّها الأخ المُجاهد؟ من أيّ عصر متخلّف أنت؟

أو يخرج حتّى بعض “العلمانيّين” أو “المعتدلين” ليقول لك: لماذا لم تنتفضوا على جرائم النّظام السّابق؟ يا أخي، لنفترضْ أنّ البعض لم ينتفضْ أو أساء فهم الأمور أو تمّ تضليلُه في مراحل معيّنة: فهل يُبرّر لكم هذا، بأيّ شكل من الأشكال، الدّفاع عن هؤلاء “المَغول” المُجرمين؟ في أيّ عصر تعيش بعض عقولنا العربيّة والاسلاميّة؟..

ثمّ، هنا أيضاً، يأتي إليك بعضهم ليقول إنّه “قد حان وقت تسليم أو نزع السّلاح”! أيّ مجنون يُسلّم رصاصةً واحدةً أمام مشهد غزوٍ “مغوليّ” كهذا؟ هل أُصبتم بالجنون؟ هل يعيش البعض معنا، بعقولهم، على هذه الأرض حقّاً؟

هل قرأ بعض “المثقّفين” منّا القليل اليَسير عن تاريخ منطقتنا وعن تاريخ بعض الجماعات الاسلاميّة؟ وهل هناك امكانيّة لاطلاق نقاش جدّيّ وموضوعيّ حول مسائل معيّنة مثل المسألة التّكفيريّة في المنطقة!

***

في المحصّلة؛ العدوّ يتوغّل ويتغوّل ويُهين أكثر من ذي قبل.. والحكومات الغربيّة تتخاذل مع قضايانا أكثر من ذي قبل. والقرار الأميركيّ ينحاز أكثر بكثير من ذي قبل. ودول كثيرة تُعاني من ضغوطات – وعجز جيو-سياسيّ – أكثر من ذي قبل (وعلينا ألّا ننسى كذلك، بالمناسبة، وضع الأردن حاليّاً، ووضع مصر وجيشها – الرّاهن والمُرتقَب).

ومُكوّنات كثيرة من منطقتنا تشعر بعودة التّديّن التّكفيريّ والإقصائيّ والقائم على مشاريع الإبادة (الحاصلة أو الكامِنة).. أكثر بكثير من ذي قبل.

فمن هذا العبقريّ الذي يُريد اقناع شعوب ونخب منطقتنا بأنّه زمن “تسليم” السّلاح؟ أيّ سلاح يُسلّم في مرحلةٍ كهذه؟ من هو هذا العبقريّ حقّاً؟ فلنراجعْ أنفسنا بهدوء ولنتمعّنْ جيّداً في مشهد لبنان والمنطقة الحاليّ.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أمريكا بعد الثالث من ت2/نوفمبر