

كنتُ معارضاً سياسياً طيلة سنوات حكم حافظ الأسد ثم ابنه بشار. وكنتُ من بين أولئك المطلوب إسكاتهم، قبل أن تعرف البلاد فضيلة الكلام. ولم أخلط في أي يوم من الأيام بين انتماءات الواقع المفروض عليّ وبين الولاءات الأخلاقية التي أدين بها.
بدأ نضالي منذ منذ حوالي نصف قرن، بعيداً عن كل طائفية، وبقي وسيبقى قائماً على مطلب العدالة. لذلك كان ثمنه المنفى لمدة تقارب الخمسة عقود. وما يثير العجب أن هذا المنفى لم يعرف اليوم نهايته المنطقية. فالبنادق بدّلت أيادي حامليها دون تبدّل أهدافها. المسلحون يعتبرونني اليوم «علوياً»، أنا الذي قال «لا» للنظام القديم، وقبل أن يرى أغلبهم النور. باختصار؛ يبدو أن الطائفية التهمت التاريخ وشوّهت الذاكرة، وبالتالي شوّهت معركة كثيرين من المناضلين الأوائل.
لذا بات لزاماً عليّ أن أتكلّم وأن أكتب، استجابة لكل ما يفرضه واجب المواطنة. وأولئك الذين دفعوا من حياتهم ومن جراح ذاكرتهم هم الأحرى باستجلاء الزوايا المظلمة لاستحضار مساعيهم إلى بؤرة الضوء، بغية إعادة التركيز على فكرة تجسيد العيش المشترك برغم كل الخلافات، وبالتالي التعالي على الخوف من المواطن الآخر، في سبيل الارتقاء إلى مستوى تحقيق الكرامة الإنسانية.
***
لكن قبل الكلام عن المستقبل، ينبغي الحديث عن محايثات الواقع السوري اليوم. يقول هذا الواقع إن سوريا مجزأة، وإن البلاد لم تعد بلداً وإنما ميداناً لموازين قوى متعددة. إنها أرض أشبعت بالدماء والعويل وصراخ الإستغاثة، وأصبحت وعرة المسالك.
إن الحديث عن المستقبل، إذا كان مثل هذا المستقبل ممكناً، يستدعي تشريحاً دقيقاً وواضحاً للماضي القريب “بعجره وبجره”. وكل تشخيص لا يأخذ الخرائب بالاعتبار مآله الفشل وإعادة انتاج الكوارث التي كان يسعى إلى تجنبها. باختصار، المطلوب أولاً وأساساً هو تشريح أسباب الفوضى العميقة التي نعيشها.
ليس الأمن مجرّد خيار ثانوي في ورشة مصالحة وطنية، متشعبّة الشروط، معقّدة الولاءات والمرجعيات. إنه الشرط الأساسي لكل مصالحة. وفي الحالات كافة، لا بد من قيام دولة قادرة على فرض القانون لإخماد أصوات كل المعاندين على اختلاف مشاربهم، وإلا أصبح كل شارع وكل ساحة أرض معركة يفرض فيها الأقوى سلطته.
إن الخروج من الحلقة المفرغة يستوجب الالتزام الشامل والصريح بجمع السلاح في يد الدولة كشرط ملزم، قادر على توفير الظروف لإيجاد حلول مستدامة.
لا بد من إعطاء الأولوية لمفهوم المواطنة، خارج الإطار الطائفي. فهذه بلاد يضرب تاريخها في أعماق التاريخ، قبل أن تنشأ الطوائف، حيث تسنّى للسوريين أن يعيشوا كمواطنين لا كممثلين لطوائفهم. فمن العبث تدمير النسيج المجتمعي لمصلحة التصنيف الطائفي
نعم، للدولة وحدها ودون غيرها “حق احتكار العنف المشروع” في كل زمان ومكان، ولكن في سبيل حماية المواطنين جميعاً، لا للتشفي منهم أو أقلّه من بعضهم. ولا بد من أن يترافق فرض سلطة الدولة ورقابتها على الجميع مع اعتماد آليات “العفو الجزئي” في بعض الحالات الحرجة. وفي التاريخ الحديث أمثلة كثيرة على ذلك، ليس أقلها بلاغة ما عرفته جنوب أفريقيا بعد نهاية الحكم العنصري، وبعدها كولومبيا وأقاليم يوغسلافيا ثم رواندا. في هذه البلدان، تمّ التنسيق بين عملية “ضمان الأمن” وإدراج كافة الفئات في الحلقتين الاقتصادية والاجتماعية، بهدف تحقيق عدالة حقيقية. فيبقى الأمن، بكل مدلولاته، المسار الوحيد لأية مصالحة ولأي بناء وطني. إن هذا أمر ضروري اليوم لإنقاذ سوريا “المبعثرة” التي لا يزال يربض على صدرها ماضٍ شرسٍ.
***
وإلى جانب الأمن، لا بد من إعطاء الأولوية لمفهوم المواطنة، خارج الإطار الطائفي. فهذه بلاد يضرب تاريخها في أعماق التاريخ، قبل أن تنشأ الطوائف، حيث تسنّى للسوريين أن يعيشوا كمواطنين لا كممثلين لطوائفهم. فمن العبث تدمير النسيج المجتمعي لمصلحة التصنيف الطائفي. وينبغي على الدولة في المقام الأول – وهنا دورها الأساس – ألّا تنظر إلى مواطنيها بوصفهم سنّة أو علويين أو مسيحيين أو دروزاً أو أكراداً وإنما بوصفهم سوريين، لا أقل ولا أكثر.
فلا بدّ من “عقد اجتماعي” جديد، يقبل به الجميع دون استثناء. بالتأكيد هناك ضغوط داخلية وخارجية ليس أهونها مشاريع إسرائيل التوسعية. وبالتأكيد هناك تساؤلات كثيرة حول أسلوب الدولة في تحقيق ما تسميه “الميثاق التأسيسي لمستقبل يمكن أن يكون واعداً”. غير أن الخيار الأساس في كافة الحالات، يبقى تحقيق “العدالة” أو الاستسلام لـ”الفوضى”.
إن العدالة التي تقتضي العقاب أحياناً، إنما تهدف أساساً إلى إصلاح المجتمع. ولذلك تستدعي دائماً نقاشات لا نهاية لها وقد تؤدي إلى الصدام. قد تثير الصمت والاستنكار، ولكنها تتطلب الاستماع والحوار. وقد تكون محل مطالب متناقضة: «التسامح تجاه الجميع» أو «نصب المشانق» في كل الساحات. وذلك كله رهن بمسار “نضج وطني” يتيح التعالي عن المكاسب الآنية والخروج من الأفكار الضيقة. ولا سبيل لإنجاح هذا المسار الضروري إلا بالإصرار على الاستماع إلى كافة الأصوات، بما فيهم فئات المهمشين من نساء ولاجئين وغرباء ومنفيين، وعدم الاكتفاء بأصوات ذوي الشأن الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي، ولا بأصحاب الشهرة من أعيان ومغتربين أو منظمات رسمية أو غير حكومية.
هذا النص ليس دفاعاً ساذجاً عن مبادىء، ولا استعادة لنداءات سابقة. إنه ثمرة اختبار المنافي الطويلة وآلامها؛ ثمرة الاعتقاد الجازم بأن سوريا لا تتلخص بالكوارث التي حلّت بها بغفلة من الزمن.
لن يُقعدنا الخوف من الفشل عن المبادرة والعمل. ولنَسعَ إلى «عدالة لا تحمل الذل والخراب في طياتها”، ولنؤكّد على مبادئ “لا يشوبها أيّ نفاق”، فيتسنّى لنا إنجاز مصالحة وطنية تتحقق في الواقع لا في “الشعارات”
***
إننا أمام رهان كبير على المستقبل، أهم شروط نجاحه حصر السلاح بيد الدولة؛ إعادة بناء المؤسسات والأملاك؛ التصريح بحقيقة ما جرى ويجري سعياً لإقامة العدل بين الناس، لكي يتمكّنوا من ترميم ذاكرتهم الجريحة.. ولا بدّ من الإضافة إلى أنّ من أهمّ مقومات نجاحه “الحذر والتأني” و”القدرة على الإحساس بالجرح” و”التشكك في الطروحات للوصول إلى جوهر الواقع”.
لا شك أن هناك قوى تسعى إلى التخريب دفاعاً عن مصالحها ولإلحاق الشر بنا. لكن.. لكن بمقدار ما يكون تحقيق الهدف المشترك عسيراً، يغدو من الحكمة أن نتشبث بالعمل لما فيه خير بلادنا وفي سبيل مستقبل “أفضل”.
لن يُقعدنا الخوف من الفشل عن المبادرة والعمل. ولنَسعَ إلى «عدالة لا تحمل الذل والخراب في طياتها”، ولنؤكّد على مبادئ “لا يشوبها أيّ نفاق”، فيتسنّى لنا إنجاز مصالحة وطنية تتحقق في الواقع لا في “الشعارات”. ليس مقصدنا “طي الصفحة” وإنما “كتابة “فصل جديد” بمواصفاته ومعطياته، وربما بآلامه. سنمرّ حتماً على الأحزان والدموع، وسنختبر أنماطاً من «الصمت المريب”. لا فكاك من ذلك، في طريقنا إلى سلام حقيقي وليس إلى هدنة مؤقتة، عبر تحقيق عدالة تسمو، في كافة المقاييس، على كل “ثأر”.
(*) الكاتب بطرس الحلّاق يكتب بطاقة تعريفية لنص الكاتب أعلاه بعنوان “لي أخٌ لا اسم له في سجلات طائفتي“