انهاء الاحتلال أم نزع السلاح.. “البيضة أولاً أم الدجاجة”؟

يُواجه الرئيس اللبناني جوزاف عون معضلة محيّرة "من وُلدَ قبل الآخر؟ الدجاجة أم البيضة"؛ فمن جهة يواجه ضغطاً دولياً وعربياً ولبنانياً عنوانه أولوية نزع سلاح المقاومة وحصرية السلاح بالدولة اللبنانية، وهو ما كان تعهد به في خطاب القسم الدستوري. ومن جهة أخرى، يواجه ضغطاً من المقاومة وحلفائها بأن تكون الأولوية لفرض الانسحاب "الإسرائيلي" من لبنان.

يربط الأمريكيون نزع سلاح المقاومة على كل الأراضي اللبنانية بعملية إعادة إعمار ما دمّره العدوان “الإسرائيلي” على لبنان والذي انتهى بوقف لاطلاق النار في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني لم تحترمه “إسرائيل” بل ما زالت تمعن في خرقه يومياً، سواء باحتلال أراضٍ لبنانية أو بانتهاك الأجواء على مدار الساعة وباغتيالات في الجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية أدت إلى سقوط حوالي المائتي شهيد ومئات الجرحى. في المقابل، لم تخرق المقاومة هذا الاتفاق، والحادثتان الوحيدتان اللتان سجلتا عبر اطلاق صواريخ بدائية الصنع باتجاه فلسطين المحتلة لم تكن المقاومة هي المسؤولة عنهما بل مجموعة من التابعية الفلسطينية، علماً أن “إسرائيل” التي تحتل قطاع غزة من شماله إلى جنوبه تعجز حتى الآن عن منع اطلاق الصواريخ منه باتجاه المستوطنات الإسرائيلية في “غلاف غزة”.

وتشير التقديرات الأممية إلى أن عملية اعادة بناء المناطق المدمرة أو المتضررة في كل لبنان ولا سيما في الجنوب والضاحية الجنوبية تُقدّر بنحو 8 إلى 10 مليارات دولار في ظل وضع اقتصادي لبناني كارثي لا يمكنه تحمل هذه الكلفة ويفرض على الدولة اللبنانية اللجوء إلى الدول المانحة والصناديق الدولية والعربية لمساعدتها في هذه العملية.

ولأن هؤلاء المانحين من العرب والأجانب يدور معظمهم في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، فإن عملية إعادة البناء تتطلب ضوءاً أخضر أمريكياً لاطلاقها، وهنا تكمن المعضلة التي يواجهها الرئيس اللبناني الذي انتخب بدعم أمريكي وعربي. فهو لا يستطيع ان يقفز فوق الشرط الأمريكي بنزع سلاح المقاومة لاطلاق عملية اعادة البناء واطالة أمد العملية الاعمارية كي يدفع البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة إلى التململ والانقلاب عليها لا سيما أن لبنان على موعد مع انتخابات بلدية في شهر مايو/أيار المقبل وانتخابات برلمانية في مايو/أيار من العام القادم.

في مواجهة المنطق الأمريكي الداعي للقضاء على المقاومة ومنطق المقاومة الداعي لانهاء الاحتلال “الإسرائيلي”، يقف الرئيس جوزاف عون في الوسط لكي يوازن الأمور ببصيرة رجل الدولة الحريص على بلده، فهو لا يستطيع أن يمضي قدماً بالاملاءات الأمريكية وهو يعرف أن من شأنها دفع الجيش اللبناني نحو صدام عسكري مع المقاومة سيأتي على ما تبقى من لبنان ومؤسساته الرسمية كلها وسينهي عهده قبل ان يبدأ

وقد فرضت الولايات المتحدة حصاراً مالياً على المقاومة ساهمت فيه الحكومة اللبنانية الجديدة عبر منع الطيران الايراني من المجيء إلى لبنان وعبر التدابير الأمنية المشددة في مطار بيروت ومرفئها لمنع دخول أية أموال إيرانية إلى لبنان، أي أن أمريكا تمنع الدول والصناديق المانحة من مساعدة لبنان لاعادة البناء.. كما تمنع المقاومة اللبنانية من الاعتماد على دعم حلفائها وفي مقدمتهم ايران للقيام بهذه العملية.

في مقابل ذلك، يرى المنطق الذي تطرحه المقاومة والقوى الحليفة لها أن لا ثقة بـ”الإسرائيلي” وراعيه الأمريكي لجهة تطبيق الاتفاقات التي يجري التوصل اليها، ولعل المثال الأبرز على ذلك هو ما يحصل منذ دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. فـ”الإسرائيلي” يواصل حربه من جانب واحد وكأنه لا اتفاق حتى الآن، والأمريكي شجّع “الإسرائيلي” على مواصلة عدوانه واحتلاله لخمس تلال حاكمة في جنوب لبنان تضاف إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والشطر الشمالي لبلدة الغجر، وكان أبلغ تعبير عن هذا التشجيع التصريحات التي أطلقتها المبعوثة الأمريكية مورغان أورتاغوس في أول زيارة لها إلى لبنان بعد توليها مهامها الرسمية حيث شكرت “إسرائيل”، من على منبر القصر الجمهوري، على ضربها حزب الله متسببة باحراج كبير للرئيس عون الذي اضطر لاصدار بيان يقول فيه إن التصريحات التي يدلي بها أي مسؤول على منبر القصر الجمهوري تمثل رأي صاحبها. وفي آخر مقابلة اعلامية لها بعد زيارتها الاخيرة للبنان وصفت حزب الله بالسرطان الذي ينبغي استئصاله.

ويرى منطق المقاومة أيضاً أن وجود المقاومة، كما في أي مكان في العالم، هو ردة فعل على وجود الاحتلال وليس فعلاً مستقلاً بذاته، وبالتالي فإن تمسك “إسرائيل” باعتداءاتها واحتلالها وبتشجيع أمريكي هو مبرر وجود المقاومة بمعزل عن النتائج الكارثية للعدوان “الإسرائيلي” الأخير على لبنان، وبالتالي فان لبنان بحاجة ليس فقط إلى انسحاب “إسرائيلي” من أراضيه المحتلة بل بحاجة أيضاً إلى ضمانات بعدم تكرار الاعتداءات عليه. وكما يراهن الأمريكي على تأليب البيئة الشعبية للمقاومة ضدها واستثمار ذلك في الانتخابات البلدية ثم النيابية، فإن المقاومة تراهن على صمود هذه البيئة التي دفعت خيرة شبابها للدفاع عن أرضهم ودفعت دماراً هائلاً في ممتلكاتها وأرزاقها.

وما يدفع المقاومة للتمسك بالسلاح هو التطور الكبير الذي حصل في سوريا في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الماضي مع الإطاحة بحليف حزب الله وإيران الرئيس بشار الأسد، إضافة إلى اختراق الجيش “الإسرائيلي” الخط الحدودي مع سوريا واحتلاله أجزاء كبيرة من جنوبها على مسافة كيلومترات قليلة من المطل الشرقي مع لبنان، ما أدى إلى وضع البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة بين عدوين لدودين، “إسرائيل” في الجنوب وفي كل الأجواء اللبنانية، ونظام جديد في سوريا ما زال مرتبكاً في وقت لا يملك الجيش اللبناني وباقي الأجهزة الامنية اللبنانية القدرة الفعلية لمواجهة أي من هذين الحطرين حتى لو امتلك القرار لذلك.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل ـ حزب الله.. سيناريوهات مفتوحة

وفي مواجهة المنطق الأمريكي الداعي للقضاء على المقاومة ومنطق المقاومة الداعي لانهاء الاحتلال “الإسرائيلي”، يقف الرئيس جوزاف عون في الوسط لكي يوازن الأمور ببصيرة رجل الدولة الحريص على بلده، فهو لا يستطيع أن يمضي قدماً بالاملاءات الأمريكية وهو يعرف أن من شأنها دفع الجيش اللبناني نحو صدام عسكري مع المقاومة سيأتي على ما تبقى من لبنان ومؤسساته الرسمية كلها وسينهي عهده قبل ان يبدأ، ولا يستطيع تجاوز هذه الاملاءات وكأنها غير موجودة فيستمر الحصار الأمريكي للبنان وقد يشمل هذا الحصار الرئيس عون نفسه كما حصل مع سلفه الرئيس ميشال عون الذي كان حليفاً للمقاومة. لذلك، اختار الرئيس عون اللجوء إلى منطق الحوار المباشر مع المقاومة مستعيناً بصديق، هو رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي فوّضته المقاومة التحدث باسمها طوال فترة العدوان “الإسرائيلي”. ولكن عون يدرك شروط المقاومة وأحقيتها قبل أن يبدأ أي حوار معها، وأولهما انسحاب “إسرائيل” الكامل من الاراضي التي تحتلها وعودة قواتها إلى خط الهدنة الذي تم التوصل اليه عام 1949 وضمان عدم تكرار اعتداءاتها. وهو يعرف أيضاً شروط الولايات المتحدة التي يمكن تلخصيها بهدف واحد وهو القضاء التام على المقاومة؛ وطالما يعرف شروط الطرفين فلماذا يطرح فكرة الحوار كمخرج لوضع من وُجِدَ قبل الآخر”البيضة أم الدجاجة”؟

لبنان ليس جزيرة نائية منعزلة عما يحيط بها. لبنان موجود في قلب منطقة تشهد تغيرات سياسية تاريخية وقد نرى المزيد من هذه التغيرات، بحسب نتيجة المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة وإيران، فإن تم التوصل إلى اتفاق بين الجانبين من شأن ذلك أن يريح منطقة الشرق الأوسط ومن ضمنها لبنان. وإن فشلت هذه المفاوضات تتجه المنطقة نحو حرب اقليمية لا أحد يستطيع تصور مداها ونهاياتها ومآلاتها.. وبطبيعة الحال سيكون لذلك تأثيره السلبي على لبنان.

أمام هذه المشهدية يواجه رئيس الجمهورية جوزاف عون ضغوطا داخلية من قوى حليفة لأمريكا تريده ان ينفذ تعهده بحصر ملكية السلاح بالاجهزة العسكرية والامنية اللبنانية بمعزل عن طريقة تنفيذ ذلك، حتى ولو كان عبر اللجوء إلى القوة، وكان أبلغ تعبير عن هذا الموقف تصريح رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي وصف فيه عون بـ”أبو ملحم” في تعاطيه مع موضوع السلاح، و”أبو ملحم” (أديب حداد)، شخصية لبنانية تاريخية برزت في مسلسل تلفزيوني اجتماعي منذ نهاية ستينيات القرن الماضي، كانت تلجأ إلى الحوار وجمع المتخاصمين في مواجهة أي مشكلة تعترضهم. وفي هذا الوصف تجنٍ على الرئيس عون الذي كان قائداً للجيش في السنوات الثماني التي سبقت توليه رئاسة الجمهورية وقد قاد معركة تحرير الجرود في شرقي لبنان من المجموعات الإرهابية المسلحة بالتنسيق مع المقاومة حينها وهو لا تنقصه جرأة المواجهة، ولكنه يعرف أن حل مشكلة سلاح المقاومة يتطلب أولا حل مشكلة الاحتلال “الإسرائيلي”، وقد جاءت الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية في أبريل/نيسان عام 1975 كي تُذكّره كما تُذكّر جميع اللبنانيين بمآسي تلك الحرب التي دامت 15 عاماً وتدعوهم إلى الانتباه كي لا يتسبب سلوك قواهم السياسية بعودة تلك الحرب لأنه لا يكفي القول عنها “تنذكر ما تنعاد”.

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  تصفيق الكونغرس لنتنياهو لا يصنع له "نصراً" على أرض.. غزة!